حدوتة الشاطر.. (أمبرتو إيكو)الباب: مقالات الكتاب
أيمن عبدالسميع حسن مصر |
السارد العظيم.. وباعث الرواية التاريخية.. رغم البعاد.. ظلك متواصلاً..!
«سأفتقد كل هذا وأرحل .. هل يمكنني أن أخبئه بداخلي، وأحتفظ بزخمه ووهج حكاياته .. ربما..!»
من بَدء الأمر ، ندرك أن لكل مكان ذاكرته، ولكل مبدع مكانًا يتعملق في ذهنه؛ ليخرج- بعد حين من الوقت- طفلاً شهيًّا.. تأكيدًا لذلك، فعندما تهمس المعرفة في وجدان المبدع، ينطبع ذلك على الخطوط العريضة للعمل الفني؛ فالموهبة التي تحاكي العلم تُسَجِّلُ مبدعًا بنكهة التفرُّد، وتمنحه القدرة على استيعاب كينونة الذات والذات الأخرى، وتجعله- أيضًا- قادرًا على رسم قُبلة على خد التاريخ والتأريخ، دون أن يتسلق أو يتملق…أو ينسخ من جِلدته.. فكل شيء، يتحرك ويناور، يقترب ويبتعد، يبدو واضحًا لدرجة الغموض، ويبدو ظاهرًا حتي يسد ثقوب الرؤية، ليخرج علينا هذا الذي نعرفه جيدًّا، الروائي الفيلسوف الإيطالي الراحل (أمبرتو إيكو)، هو نغم يُمهّد لنغمٍ؛ ليتحد النغمان في صلاة ناعمة، وفي غضون مسقط رأسه بمدينة (بأليسّاندريا) بالقرب من ميلانو الإيطالية (5 يناير/كانون الثاني 1932م)،.. يشب هذا المبدع، ويترعرع .. بطلته مرة، وهَلَّته مرة أخرى، يتكرر اسمه في كل حَدَبٍ وصوب..
(أمبرتو إيكو)، فهو اسم ذو إيقاع موسيقي خاص؛ (أمبر/ تو / إيكو)، ويبدو أن عائلته كانت تتاجر في الأسماء، فاختارت له اسمًا، غليظًا، نادرًا، جميل الوقع على المسمع، وكأنه يدعوك لأن تناصره، ولكن أول ما يجب الإقرار به أن يكون لدينا مثل ( أمبرتو إيكو) دون أن نثرثر عن حياته، وأعماله، هو كاتب مُشَوّق للقارئ الذكي، يَحْبِكُ بتفاصيل معقدة وغامضة ألغازًا تاريخية ويصهرها في مناخ سردي متين، ربما ذلك لانطلاقه من رؤية سيميائية وفلسفية، وقد عُرف باهتمامه بالبحث في القرون الوسطى، كما أنه يُعد ناقدًا دلائليًّا مميزًا، نال شهرة واسعة من خلال مقالاته وكتبه، خاصة منها روايته الشهيرة
(اسم الوردة).. ولأنه مبدع في كافة كتاباته، فقد قام بإفراز كل ذلك كـ(وجبة من العسل المُصَفّى)؛ لنشاهده عبر لوحاته السريالية والواقعية التي خطها بقلمه جميل العطايا، فتحمل جمالًا في السرد، والوصف، والحبكة الفنية، وليتجاوز كل أنواع الجمال.
وقد نجح ( أمبرتو إيكو) في صِياغة خاصة لموهبته؛ لتأخذنا تلك الصياغة نحو اضطراب يهز المَشَاهِد ويبدع تكوينات واضحة للأفق...
مع رواية (اسم الوردة) .. نقف قليلاً..
في سَديم غامض، وواضح، تحرك المبدع (أمبرتو إيكو) داخل عمله الجميل (اسم الوردة)؛ ليقدم لنا عملاً يليق به، فتبدأ بتمرين سيميائي طريف، هذا الذي يبدو واقعيًّا، بيد أنه يبدو أسطوريًّا في ذات الوقت، ومع جَزالة الأسلوب وسلاسته، يستعرض الكاتب قدراته في استثارة الرؤى .. وتأجيج بُهمة الليل .. بزحف النهار عليه.. وهكذا...فقبل البَدء بلحظة من القراءة، اتضح لي أني خائف، وإني من زمن لم أمارس الخوف في الطبيعة، لقد مارسته - هذا الخوف- كثيرًا عندما تَطرَّقت لقراءة أعمال (أمبرتو إيكو)، وأخص منها رواية (اسم الوردة)، فهي حَدث فارق؛ لأنها أسست لنوع أدبي يمزج بين الرّصانة الإثارة والتشويق، كذلك أعادت رواية (اسم الوردة) الرواية التاريخية إلى الصدارة الجماهيرية، ومهدت الطريق للعديد من أعماله، التي اعتمدت- بعد ذلك- على الوصفة نفسها: تشويق وحبكة بوليسية، التي تدور في عالم الأديرة، بالقرون الوسطي، من البداية تزدحم الأحداث حول لغز سلسلة من الجرائم تُرتَكب في أحد الأديرة بشمال إيطاليا، كانت صفحات الرواية تعابث خوفي، وتحيلني إلى وَجَلٍ خالص، فقمت مسرعًا كي أخرج من أدغال نفس، ثم عدت لأكمل القراءة، فشعرت أن خوفي زال وتجمد، وتحوَّل إلى فرحٍ وغبطةٍ، لم تتكرر معي من قبل، وفي نهاية يومي، نمت قرير العين بجوار رواية ( اسم الوردة)؛ كي أستر عُري طفولتي، أو أسترد شجاعتي المسلوبة، لا أعرف، أيهما أقرب للنفس...!
دفتر أعمال (أمبرتو إيكو)..
كان أمبرتو إيكو دقيقًا بطبعه، حيث يقول في أحد حواراته : «.. ببساطة، يحدث للكاتبِ وهو يراجع كتابًا صدر له منذ مدة طويلة، أن يشعر بالحاجة لإجراء بعض التغييرات عليه، وعمومًا، فإنّ روايتي (اسم الوردة) هو الكتاب الذي كتبته منذ ثلاثين عامًا خلت، قد اتّسم على مرّ الترجمات بأخطاء ارتأيتُ أن أصحّحها من طبعة جديدة إلى أخرى. وفي الواقع، فإنّ الكتاب كان يتطوّرُ باستمرار. لذا كان من المفيد أن أراجعه بصفة نهائية»...
عن النجاح المذهل للرواية، ردّ أمبرتو إيكو : «..دائمًا ما كنت أشعر بتوتُّر عندما أُسأل مثل هذا السؤال، فالجميع يُحدّثني عن هذا الكتاب، كما لو أنّ الكتب الأخرى لا وجود لها. وكذلك (غارسيا ماركيز) ظلّت روايته (مئة عام من العزلة)، تضايقه باستمرار، حتى لو كتب بعدها (فيدر) أو (الكوميديا الإلهية). فقد أصدر (أمبرتو إيكو)، بعد هذه الرواية روايات لا تقلُّ أهمية من حيث البناء الفني، مثل: «بندول فوكو» (1988)، و«جزيرة اليوم السابق» (1996)، و«باودولينو» (2000)، و«الشعلة السرية للملكة باولا» (2004)، و«مقبرة براغ» (2010)، و«الرقم صفر» (2015).
حصاد النشأة والتكوين..
عودة على لُحمة، وإضافة لما ذكرناه سابقًا، يدخل علينا الروائي (أمبرتو إيكو) من باب الميلاد، ليخرج هذا الكائن الصغير، المهذب الذي يكاد الخجل لا يفارقه، هو الأديب الذي ترك خلفه آلاف الأوراق والقصص والحكايات.. ترك عمرًا سخيًّا، وثريًّا، امتد فوق الــــــــــثمانين، كانت شهرته قد تجاوزت كل الحدود، وعبرت إلى آخر بلاد الدنيا، أضف إلى ذلك، فقد كانت سيرته الذاتية تتعملق بداخله منذ نعومة أظافره؛ لتبدع مجدًا، وحضورًا، وبريقًا..
على سبيل البورتريه:
تنعكس صورة (أمبرتو إيكو)- وهو يرقد تحت (البرنيطة) السوداء- على مرايا النهار البعيد، المتسربل برماد الأسئلة الخضراء، كانت لحيته الكثة البيضاء، شعرها كندف الثلج الهائج، يسامر الحديث مع شاربه المهذب بعناية، واهتمام، تبارك هذا الحديث الشيق نظارته الطبية العملاقة، التي ترتكن على وجه (قابب) كوجه رغيف الخبز الخارج توًّا من فرن بلدي، فمه عامر بالأسنان، التي تقبض بحنو على (غليون التدخين)، أو السيجار الفاخر، نعم، تموج في الذاكرة انفعالات وهج الحياة الماضية، فأنت، إذ لم تعرف (أمبرتو إيكو) من سابق كلامي، فخلاصة الأمر- يا من تريد أن تعرفه أكثر وأكثر، عليك فقط بفعل بسيط، لن يكلفك إلا أن تتخيله بكلمة (بشوش) التي كنا نصف بها الوجه الإنساني أيام الإنشاء المدرسي.. وكفى..!
تلويحة البَدء:
لعله من المناسب أن نفتح موضوع البدايات، فقد بدأ (أمبرتو إيكو ) محاولة كتابة الرواية منذ سنوات شبابه في عهد (موسوليني )، كما جاء في (اعترافات روائي شاب). اللافت للنظر، أن (أمبرتو إيكو) فتح قوسين؛ ليبدأ الرواية باحثة عن حروف تهاوت من الأبجدية، ثم تدرَّج ليزيل تلك الأقواس، لتبدأ التهاويم والأمنيات من أوقات وحِقبْ زمنية كان إناء الخيالات غضًّا بها .. وتشوب كتاباته بهاء وحكمة. فقد رفض مُبكِّرًا مقولة الأدب الملتزم، منذ أن انخرط في (الطليعة الجديدة)، وساهم في صدور مجلّات ذات توجهات يسارية، كما اشترك مع بعض من مثقفي وفناني جيله الشباب في تأسيس مجموعة أخذت على عاتقها الاهتمام بالجماليات الجديدة، من خلال (آثار جيمس جويس) و(إزرا باوند) و(خورخي بورخيس) وغيرهم، وعُرفت المجموعة الطليعية باسم Gruppo63 ..
الصحافة في حياة أمبرتو إيكو:
لقد ارتبط (أمبرتو إيكو) بالصحافة منذ أن بدأ محرّرًا ثقافيًّا في التلفزيون والإذاعة الإيطالية، وهو ما أتاح له أن يتعرَّف عن قرب، إلى كوكبة من الأدباء، والرسامين، والموسيقيين، ولم يؤثر ذلك على مستقبله ككاتب وروائي، وبرغم إغواء عالم الصحافة الذي كان قريبًا منه، إذ كان صحافيًّا خصب الإنتاج، ويكتب، بشكل دوري، أعمدة مرحة للعديد من اليوميات والأسبوعيات الكبيرة في إيطاليا، فإنّ مُدخّن الغليون وهاوي الإسكواش الاسكتلندي لم يترك التعليم الجامعي، فقد واصل سلسلة محاضراته طوال ستينيات القرن، سواء في كلية فلورنسا أو ميلانو للهندسة، ثم جامعات ساو باولو (1966)، ونيويورك (1969) وبوينس آيرس (1970).
(أمبرتو إيكو) رائد السيميائيات، وفلسفة اللغة:
ومنذ عام 1975، تولى كرسي ( السيميائيات ) في كلية الآداب والفلسفة في جامعة بولونيا الأعرق، (وكان الأول من نوعه بالنسبة لكل الجامعات)، ويؤسس- بموازاة ذلك- مجلة (Vesus) الدولية للأبحاث السيميائية، عادًّا الفرنسي (رولان بارت) أول من دشَّن هذا العلم التجريبي، وهو، أكثر من كونه منهجًا، بمثابة تمفصل بين التأمل والنظرية الأدبية، وبين الثقافتين العالمة والشعبية..
الثابت لدينا، أن هذا الكاتب الراحل لم يكتب أبدًا باشمئناط، كما يكتب الكثير منا، عندما يكتب عن وطنه، بل كان أسلوبه منيرًا، وقلبه عامرًا بالوطن، أما إحساسه بهويته فهو إحساس يقيني لا اهتزاز فيه .. فمنذ هذا التاريخ، صار (أمبرتو إيكو) رائد السيميائيات، كما يتّضح من تحليلاته اللمَّاحة في كتبه )البنية الغائبة (، و)العلامة: تحليل مفهوم وتاريخه(، و) موجز السيميائيات العامة(. مثلما ساهم بالقدر نفسه في بلورة جماليّات التأويل كما يظهر من كتابه) العمل المفتوح(، الذي يُبسط فيه أسس نظريته، مبرزًا عبر سلسلة من الفصول التي تركز أساسًا على الأدب والموسيقى، أنَّ العمل الفنّي هو رسالة غامضة ومفتوحة على تأويلات لانهائية، حيث تتساكن مجموعة من المدلولات في قلب الدالّ الواحد. ومن ثم، ليس النص موضوعًا نهائيًّا، بل إنه – على العكس من ذلك- موضوع (مفتوح) لا يمكن للقارئ أن يتلقاه باستكانة، وإنما عليه أن يَتَدَخَّل ويبذل طاقته التأويلية. وهذا ما سيتوسع فيه (أمبرتو إيكو) أكثر، من خلال كتابه (القارئ في الحكاية)، حيث يدعو القارئ إلى التعاون مع النص، لأنّ النص وحده ليس بإمكانه أن يقول أيّ شيء. هو صاحب الخيال الشهي، على رأسه يحمل بوتقة بها جميل الأسلوب، الألفاظ، يحافظ على نقاء سريرته، الإبداعية، دون الانخراط في التشظي، والتمزيق، والألفاظ النابية، والتعبيرات الحوشية، وكافة أنواع الحداثة المفتعلة، دون استعراض أو تصارع أو مزاحمة، فقد كان دائم الدفق متألقًا.
أمبرتو إيكو .. صانع الأعداء:
ويُلفت (أمبرتو إيكو) إلى أنه عندما انهار ما كان يسمّى بــ(الاتحاد السوفييتي)، وجدت (الولايات المتحدة الأمريكيّة) نفسها في حيرة من أمرها، بسبب احتياجها إلى من يتشرف بتعويض “إمبراطورية الشر”. ولم ينقذها من تلك الحيرة غير ظهور (القاعدة) بزعامة ابن لادن وأيمن الظواهري. ثم يكتب قائلاً: "أمر مهمّ أن يكون لنا عدوّ لتحديد هويّتنا، ولكن أيضًا لمواجهة العقبات، وتبيّن مدى صحّة وقوّة نظام قيمنا، وإظهار شجاعتنا. لهذا حتى وإن لم يكن لنا عدوّ فإنه يتحتّم علينا صناعته"... ولكي يثبت صحّة فكرته هذه، يعود (أمبرتو إيكو) إلى التاريخ القديم، الروماني بالخصوص؛ ليسوق لنا من خلال خطب (شيشرون) أمثلة عن كيفيّة “صناعة العدو”، والحاجة إليه ومما ورد في خطبه: «هذا القطيع النذل ليس سوى عصابة من كلّ اللاعبين، والزوجات الخائنات، ومن كلّ ما هو نجس وفاحش وفاسق».. وقد اكتفى (أمبرتو إيكو) بتحديد مقاييس العدو، من خلال الثقافة الأوروبية القديمة، والحديثة، غافلاً عن ذلك في الثقافات الأخرى كالعربية، والصينية، واليابانية، وغيرها..
وفي الختام:
شكَّل رحيل الأديب الإيطالي" أمبرتو إيكو" عن عالمنا، مثلما شكَّلت العودة المتسللة المملوءة بالخوف، فالزمن لم يعد – بعد رحيله- كالمعتاد، بل كان ذا مسار أسطوري ينتقل من الذروة إلى الهوية، في عالم يمور بالفزع و والضياع.. فقد كان معظم أعمال الراحل "أمبرتو إيكو" حالة من التجاذب بين البقاء والرحيل، ينتقل من الواقعي إلى الرمزي، ومن العادي إلى الخارق، والعكس، فيقدم مشاهد قَلَّ أن تتكرر عند أمثاله، المشهد بجملته زحمة وربكة حياتية تحوي العناصر الصراعات معًا، لكن وجب علينا أن نؤكد المحاولة التي قام بها الراحل "أمبرتو إيكو" إيجاد منهجية تطبيقية وتنظيرية، يمنة ويسرة، في قصصه ومقالاته، وأعماله الروائية، فقد حاول أن يقدم ما سبق ذكره؛ ليثبت أن الهزيمة لا تشكل نهاية التاريخ.. نعم لم يغص" "أمبرتو إيكو" عميقًا في بناء شخصياته وعالمه السردي التلقائي، لكنه يستحوذ على اهتمام قارئه ويمنع عنه الملل متوسلاً بخفة المادة السردية التي يقدّمها بأشكال مختلفة حتى الطريف منها .. هكذا نرى ((أمبرتو إيكو)) يرقد وحيدًا، في آخر المشوار، وهو الذي شغل الدنيا بحله وترحاله. . سواء اختلفت معه أو اتفقت، سواء استمتعت برواياته أو شعرت بالإرهاق الشديد لدسامة ما تقرؤه، وتجتهد في فهمه، يبقى الواقع الراهن أن (أمبرتو إيكو).. يصطحب قارئه- عبر سطوره، في رحلة لاكتشاف تشعرك من خلالها أنك أمام مؤلف جاد ومحترم..
تغريد
اكتب تعليقك