تشكيل الإعلام للهويةالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2016-05-19 06:21:13

أحمد عتيق

باحث في الإعلام والتواصل – المغرب

لا شك في أن اللغة العربية في وطننا العربي، تشكل حضنًا للهوية وباعثًا على التقارب ولمّ الشمل بين مختلف الأقطار، وأداة لصهر الأثنيات الثاوية على ربوعه الممتدة من المحيط إلى الخليج، التي على امتداد التاريخ استطاعت أن تسهم بفعالية في بلورة ثقافة عربية ناظمة، استقطبت لها العديد من الأدباء والعلماء، الذين أغنوا الهوية العربية، وأثروا نتاجاتها.

هذا الأمر التمازجي للغة، دفع كلود ليفي ستراوس، إلى التصريح بأن الأسطورة بمعناها الوظيفي العام، قد تولدت من اللغة وانبثقت من قواها الحاملة للمعنى والدلالة1. وبالاعتماد على هذا الاستنتاج –برغم ما يمكن أن يقال عنه- بمقدورنا إضافة أن اللغة - في زمننا- تفرز وتنتج كذلك الأسطورة الإعلامية بمعناها الإنتاجي والتثقيفي.

فإذا كنت اللغة علامة من علامات الهوية، فإن الإعلام بدوره يشكل المظهر الحيوي لسيمياء الثقافة وتمظهراتها المتنوعة. فوسائل الإعلام الجماهيرية، تمثل قناة الاتصال الرئيسية ذات المنحى العمودي الرأسي، بينما اللغة هي أداة اتصال ذات منحى أفقي بيني. ومن هنا، يركن الناس عن طواعية ورضا إلى الأولى، نظرًا لقدرتها على تشكيل الآراء والتوجهات وبناء التطلعات والاختيارات2. وبالأحرى إلى تصميم ومساءلة الوعي بالذات.

إن مهمة الإعلام لا تقتصر على أدوار النشر والإبلاغ والإخبار بحيثيات الأحداث وتوصيلها للجماهير، إنها تتخطى وظيفتها الوسائطية، إلى أخرى بنائية أكثر جدارة وأعمق فائدة. ولهذا، تعد وسائل الإعلام مصدرًا أساسيًّا لنقل الخبرات الحياتية والتجارب الثقافية في مجتمع معين3 . إنها بهذا النسق، وحدة من وحدات الهوية وسوغ الهوية العلائقية، في مقابل الآخر المتربص بنا، الذي لا يعدم وسيلة في الإفادة من تقنياتها ومخرجاتها. ولعل أبرز مثال، هو الحروب التي أصبحت تخاض على القنوات وتجند لها الجنود على صفحات الإنترنت وتحصي ضحاياها على مستوى التصريحات والصور المرئية قبل أن ترسل قذائفها على أرض الواقع، وإلا فما الثمرة التي تجنيها الدول واللوبيات النافذة من رصد مبالغ طائلة من ميزانياتها العامة وتخصيصها للإعلام والعلاقات العامة.

وعلاوة عليه، فقد أضحى الإعلام أداة لتسويق الأفكار ونشر الأنماط الحياتية الخاصة بكل ثقافة، وهو ما لم ينتبه له للأسف القادة وصناع القرار في بلداننا برغم التحديات والإكراهات الوجودية التي تعترض مسار تنميتنا ثقافيًّا وعلميًّا.

الحديث عن الإعلام والنهوض بمخرجاته التثقيفية والهوياتية، تزداد حدته لا سيما مع الأحداث الفاصلة التي تشهدها منطقتنا في الأيام الأخيرة من صراعات وتدخلات ومماحكات، تستهوي العدو والصديق. فإذا كانت اللغة وعاء للفكر ومِجنًّا للوحدة وأيقونة للتاريخ، فإن الإعلام لا يقل أهمية، إنه اللواء الذي يتباهى الفرد بالانتماء إليه، لمساوقته لتطلعاته وميولاته ونزعاته.

وبرغم تلك الأهمية، إلا أن ما يمكن قوله عن اللغة من عدم الاهتمام والاستهجان، يقال بشدة على مجريات الإعلام. فالملاحَظ عليه هو سيادة صورة تركيبية "رتوشية" لهويتنا العربية، تقتبس من كل ثقافة مقابلة مرصعات متناثرة، دون أن تنتظم في خرز متناسق ومنسجم مع ما يروج له وما يعاش من حيثيات. مما يُصيّره نموذجًا للنقل المبتور من برامج أجنبية، زيادة على ضعف الإنتاج المحلي المنبثق من الهوية العربية. بل جل الوسائط تنتهز نهم الجمهور للموضات الكونية، دون أن تحمل على عاتقها الرفع من الاستقلالية الأدبية أو الإنتاجية، فحتى عناصر الهوية الصاهرة لبلداننا تكاد تختفي من منتجاته، ولا يلقي لها بالاً، وفي مقدمتها السنن اللغوي، الذي أصبح يحتضر ويتلاشى في مقابل الدفع بالعاميات واللهجات إلى منصة التتويج على مستويات الدراما والإعلان والنشرات، وكأن المتفحص لحالنا يرمقنا في حالات استيلاب تشبه أنوميا Anomia المجتمع، مفضية بنا إلى فقدان الذاكرة ونسيان الهوية4 .

إن الإعلام بلا منازع، صورة الهوية ومرآة الثقافة ونبراس الجيل الصاعد والمروج لأحلامه ووجوده وآماله، فما ينشره ويبثه للعالم من ثقافة وقيم هو رمز لمصدر السلعة وكينونتها. ومن ثم علامة على هويتها5، ضمن أطراف تلك القرية الصغيرة التي بشّر بها ماكلوهان في ستينيات القرن المنصرم6. تلك القرية أو المدينة "الكوسموبوليتانية" التي رسخت أركانها وغرست أوتادها بفعل الانفتاح الاتصالي، وتقاطر الشركات العابرة للقارات، مما جعل الهويات تتقابل فيما بينها، وتصطرع لأجل البقاء والانتشار.

إن الصورة المعروضة في الإعلام، هي العنوان الذي يختزن صانعه ومنتجه، ويختزل تاريخه الثقافي ومساره الوجودي، إنها صناعة هوياتية، كما أن الأدب هو صناعة ثقافية.

 

الهوامش:

1 - كلود ليفي ستراوس: الأسطورة والمعنى، ترجمة شاكر عبدالحميد، سلسلة المئة كتاب، دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والإعلام، الطبعة الأولى، 1986 بغداد، ص 76.

2  - أجنر فوج، الانتخاب الثقافي، ترجمة شوقي جلال، المجلس الأعلى للثقافة، الطبعة الأولى، 2005، القاهرة، ص 201.

3 - جبارة عطية جبارة: علم الاجتماع الإعلام، عالم الكتب، 1985، الرياض، ص 107.

 - جون جوزيف: اللغة والهوية، ترجمة عبدالنور خراقي، عالم المعرفة، عدد 342، أغسطس 2007، الكويت، ص 7.

4 - Jean Pierre WARNIER (1999) : La mondialisation de la culture, éd. La Découverte, Paris, p. 18

 5 - وفيق صفوت مختار: وسائل الاتصال والإعلام وتشكيل وعي الأطفال والشباب، دار غريب، 2010، القاهرة، ص 139


عدد القراء: 5088

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

التعليقات 1

  • بواسطة سعيد بن عمرو الذهبي من المغرب
    بتاريخ 2016-06-09 15:37:51

    إن المتتبع لواقع الحال، العارف بخبايا الزوايا ليدرك حقيقة الإعلام و الأدوار التي أضحى يلعبها في شتى مناحي الحياة، خصوصا في موضوع التوجيه، فهو يستطيع أن يقبح الجميل أو يجمل القبيح، والمتلقي يظنه الحق. رحم الله القائل : لقد كان الناس في الماضي يتبعون رسلهم و أنبياءهم و اليوم يتبعون إعلامهم.

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-