اللـغـة في الفلسفة البنيوية والميتافيزيقاالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2019-02-05 11:33:21

علي محمد اليوسف

العراق - الموصل

إن في الاعتماد على الواسطة اللغوية التواصلية التداولية في نقل الأفكار والمعارف معناه أن شكل اللغة كحامل لا يسبق الفكرة العلمية والمضمونية في تراتيبية الإنتاجية العقلية لهما (الفكرة واللغة), شكل اللغة حامل, ومضمون الفكرة أو (الموضوع) كمحمول دلالي. يستوعبه تعبير اللغة كحامل دال تواصلي له أي المدلول للموضوع, وتتم هذه العملية المركبّة البسيطة داخل مصنع إنتاجية العقل, عبر اللغة- المضمون كأداة استقبال وتلّقي في مرموزاتها وإشاراتها المكتوبة المقروءة. وتجريد اللغة المكتوبة والمقروءة عن هذه المواضيع والمعارف كمضامين ومباحث متنوعة لا محدودة, يصبح من المحال نقلها كمادة تلقّي استقبالي وتواصل معرفي وثقافي مع الآخرين. فاللغة تجريد أبجدي و صوري سابق على مضمونه, ولا شكل لغوي يمكننا إدراكه من غير محمول دلالي يتضمنه شكل وتعبير اللغة. أي لا وجود للغة بلا مضمون, وإلا أصبحت اللغة هذاءات لا معنى لها غير منظّمة ولا مترابطة, وبهذا المعنى المقارب يقول دي سوسير: «اللغة سابقة على الفكر بل هي تستوعبه وتحتويه كما يحتوي الكوب الماء. وهذا يعني أيضًا عدم وجود شيء خارج اللغة. وحقيقة الفكر ليست مادية. وإنه ليس ثمة أفكار مسبقة ولا شيء واضح المعالم قبل ظهور اللغة».

إن قول دي سوسير كما نسب إليه في الاقتباس أعلاه, إن حقيقة الفكر ليست مادية اجتهاد منهجي باعتباره يعتمد المثالية في التفكير المجرد ذهنيا فقط. وهذا لا يلزم غيره الأخذ به كمسلمات. كما نجده يحذّر من اعتبار اللغة بعدية غير قبلية في إنتاج المعارف الإنسانية وهو ما يدعم وجهة نظرنا التي نؤكد عليها أن اللغة بعدية.*

ولا تتقاطع تمامًا مع ما جاء على لسان دي سوسير في الاقتباس أعلاه في قوله: «ليس ثمة أفكار مسبقة ولا شيء واضح المعالم قبل ظهور اللغة. في هذا يؤكد دو سوسير أن اللغة ليست متعين مادي أو حتى خيالي خارج فعالية التفكير العقلي داخل/الدماغ العاقل في شيء أو موضوع, بمعنى استحالة وجود لغة خارج مادية العقل في إدراكه للأشياء الواقعية خارج الفكر, مجردًا من واسطة اللغة التعبيرية الناقلة, كما أن من المحال أن يصدر تفكير أو فكرة من غير واسطة توصيل انتقال التفكير من العقل إلى المستقبل المتلقي. أي أن لا مادية تواصلية وجودية للغة بلا مضمون يداخلها ومعها باستثناء التفكير الذاتي الخيالي في موضوع لا يعبّر عنه لغويًا تواصليًا, والعكس صحيح فلا وجود لفكرة أو موضوع يمكن إدراكه ذهنيًا, لا يجد تعبيره اللغوي أو الإشاري أو الإيحائي أو الرمزي كي يصبح وجودًا مدركًا من قبل مستقبل متلقي أي أن تكون اللغة في أبسط معانيها المعجمية غير الفلسفية (دال ومدلول) حامل ومحمول في التواصل. وفي حال الاكتفاء بالتفكير المجرد خياليًا فقط بموضوع ولا يعبر عنه بوسيلة لغوية أو غير لغوية تجعل من إدراكه واقعًا وجودًا متعينًا, عندها تتعطل اللغة أن تكون واسطة التعريف بالوقائع والأشياء في وجودها الخارجي, ويحتفظ التفكير الذهني المجرد بإدراك موضوعه خياليًا فقط, التفكير كحوار داخلي صامت هو لغة أيضًا غير معبّرة عن مضمون واقعي في العالم الخارجي. ويصبح الفكر هو اللغة وبالعكس.

لنذهب أكثر من ذلك فنقول إن كينونة الإنسان العاقل تتألف من التالي: الوعي بالذات, العقل, الحس, الإدراك, خاصية التفكير, اللغة, الذكاء, الخيال, التجريد, الضمير, الوجدانيات, والعواطف. هذه الملكات الفطرية والمكتسبة متعددة الابعاد هي ما تعطي الإنسان طبيعته كوجود وكينونة ماهوية, وأي نقص أو خلل في واحدة منها أو أكثر من الصفات التي ذكرناها كفيلة بإعادة الإنسان إلى (الحيوانية) في التعامل مع الطبيعة كما تفعل الحيوانات في تكيفها مع الطبيعة من أجل البقاء.

في المقابل نجد العلوم الطبيعية العلمية الصرف التي تهتم بالإنسان كجسد وروح وعقل ونفس, هي الأخرى لا يمكنها الاستغناء عن مرموزية التواصل بـ(اللغة) مع الآخرين اجتماعيًا, كمعادلات علمية تخصصية أيضًا تواصلية. حتى في علوم الرياضيات والهندسة والطب والكيمياء والفيزياء تكون فيها مرموزات اللغة تواصلية – سيميائية في شكل المعادلات الرياضية وكتابة صياغة النظريات التي في الغالب عادة ما تكتب بغير اللغة الأبجدية الدارجة المتداولة اجتماعيًا. فهذه العلوم تكتب وتنقل مفاهيمها بلغة رمزية صورية خاصة تسمى المعادلات الرياضية والفيزيائية والكيماوية كما هو معلوم.

وفي العودة إلى علاقة البنيوية باللغة والميتافيزيقا, لا نعتقد هنا يبقى معنى مطلوبًا القول إن البنيوية كفلسفة علمية وبحثية انتشرت خارج نطاق بنية اللغة الصوتية أو المكتوبة أو التصويرية, كما في علوم اللغة واللسانيات كما بدأها واعتمدها دي سوسير. فهذه مسألة لا تحتاج كثيرًا من النقاش إذ يتعذر دراسة كل موضوعات المعرفة بنيويًا نظريًا ومنهجيًا بلغة الصوت والكلام الشفاهي المنقول فقط بلا تدوين لغوي, ولا معرفة تواصلية من دون تدوين لغوي توثيقي. حتى في تدوين دلالة الصوت المنطوق لغويًا. كما في تدوين أصوات النوتة الموسيقية.

وعندما نأخذ شتراوس في الأنثروبولوجيا البنيوية او التوسير في نقده السرديات الكبرى والأنساق الإيديولوجية الماركسية القارة, نجد من العسير المتعذر في هذه الموضوعات التاريخية والفلسفية نقل وتوصيل رؤى وأفكار جديدة من غير اعتماد فك شفرات ورموز لغوية وصورية مكتوبة توارثتها أجيال. وهي رسومات وكتابات لغوية جيولوجية يتم دراستها وفق نظرية ومنهج البنيوية في حفريات المعرفة والأثنولوجيا التاريخية, التي نجدها في مخلفات الإنسان البدائي وقبائل ما قبل التاريخ, وفي الأساطير والأديان وما تركوه لنا من آثار حضارية وثقافية قديمة جرى اكتشافها في أحقاب تاريخية متلاحقة تقوم البنيوية بنقدها وإعادة قراءتها نسقيًا.      

على سبيل الاستشهاد كان من الصعب جدًّا دراسة الحقبة التاريخية الفرعونية من دون اعتماد الكتابة والنقوش والرسومات في اللغة الهيروغليفية القديمة لغة المدونات الحجرية والآثارية والحفريات لتلك الحضارة, ومثلها في اللغة المسمارية السومرية, كما ليس بإمكان دراسة شعوب وأمم وحضارات تملأ الأرض من دون مراجعة تدوينات آلاف اللغات واللهجات المنتشرة اليوم عالميًا بما فيها المندثرة تاريخيًا. وفي دراسة مخلفات وآثار ولغات أية حضارة عالمية سادت على الأرض في حقبة زمنية تاريخية معينة.

وللتوضيح في مثال على ذلك فقد لعبت الصورة والعلامات والرسومات البسيطة في المرحلة البدائية للبشرية دورًا مهمًا في توصّل الإنسان اختراع الكتابة.

وتعبر عن ذلك الباحثة د. فاطمة بدر قائلة: «إن الصورة هي أول شيء لجأ إليه الإنسان البدائي للتعبير عن نفسه وعن أفكاره. فقد كانت الحروف الهجائية تشكّل صور الأشياء والطيور والحيوانات المحيطة بالإنسان الأول. فالصورة مخزونة في عقل الإنسان الباطني ومحفورة في خياله ومصبوبة في تجاربه الذاتية لتعبر عن مكنوناته لأنها تمثل وعيه الأول. فقد كانت الجماعات البشرية قبل اختراع الكتابة تقوم بمطابقة دوال العلامات وما تشير إليه وتوحد بين الشيء وصورته. لذا كان الإنسان في العصر الحجري القديم عند رسمه للحيوان على الصخر يعتقد إنه أنتج حيوانًا حقيقيًا. ويذكر ليفي بريل في كتابه العقلية البدائية عن اعتقاد شخص هندي أحمر رأى باحثًا يقوم بإعداد صور تخطيطية لمجموعة من الثيران البرية, بأن الباحث في عمله ذاك عندما وضع الثيران البرية في كتابه لذا لم تعد عندهم ثيران (افتقدت) منذ ذلك الحين»1.

ما أردناه في هذا المثال أن اللغة قرينة الفكر أولاً وقرينة الوجود البشري ثانيًا ولا لغة ولا معطيات لغوية خارج ثنائية الوجود-اللغة. الشيء الآخر أن اللغة في جميع مراحلها هي وجود عقلاني حتى في أشكالها البدائية في مثال الرجل الهندي الذي فهم اللغة فهمًا ميثولوجيا سحريًا خرافيًا فحدود فهمه الأسطوري هو تفكير إيماني روحي وعقلاني ابن مرحلته التاريخية البدائية.

وعندما نقول إن البنيوية في منهجها حفريات المعرفة تسعى لفك مرموزات الأساطير أو بعض الرسومات النقشية الآثارية الحجرية وكذلك في المدونات التوثيقية التاريخية للاستدلال على معطيات معرفية غير مكتشفة فإنها لا تعتمد في تنقيباتها غير اللغة النقشية التصويرية المكتوبة والمقروءة أو الشفاهية المتداولة وليست اللغة الصوتية إذا ما كان ذاك متيسرًا ومتاحًا. أو في اللغة المكتوبة أو التنقيبية أو اللغة الصوتية في حال توفرها, هي الوسيط والوسيلة المعرفية الوحيدة في نشر وتثبيت الجديد في مكتشفات وحفريات جيولوجيا المعرفة. ونقلها وتداولها على وفق منهجية واستدلالات جديدة غير مكتشفة من خلال التوظيف الأنثروبولوجي أو البنيوي البحثي.

ومن تناقضات الباحث العنزي في البنيوية الخلط بين البنيوية نظرية ومنهج نقدي نسقي لكافة الموضوعات التي تعنى بالإنسان والطبيعة والتاريخ وعلم النفس وبعض العلوم الأخرى وبين اللغة المكتوبة المقروءة كأداة توصيل وتلقي وحيدة لتلك الموضوعات. يقول الباحث من بحثه المشار له سابقًا ص40: «المحاولة البنيوية من وجهة نظر جاك دريدا تقوم على مركزية الصوت وأسبقية الكلام على الكتابة. وكذلك تكريس مركزية العقل والأصل الميتافيزيقي من خلال اللغة». طبعًا دريدا بخلافه مع البنيوية يعتمد أولوية اللغة على الكلام, ولا يقر ما تذهب له البنيوية في أسبقية الكلام على اللغة عندها.

كما أشرنا سابقا لا تعتمد البنيوية في دراستها المعارف والموضوعات الأنثروبولوجيا والسرديات التاريخية العامة وعلم النفس والطبيعة والاجتماع أو الاقتصاد, بالاعتماد على مركزية الصوت في اللغة واسبقية الكلام الشفاهي المنقول اجتماعيًا على ثانوية اللغة المكتوبة التدوينية المقروءة. أو فك مرموزات وشفرات اللغات البدائية والغابرة في التاريخ بلغة الكلام والصوت كدال وحيد, بل هي تعتمد اللغة التدوينية المكتوبة أيضًا.

نعم بعض فلاسفة وباحثي وعلماء البنيوية اشتغلوا في مجال النقد الأدبي والثقافي  على مركزية الصوت واللسانيات وتفكيك مفردات اللهجات الشفاهية لدى الأقوام البدائية في تدوين مرموزاتها الصورية والإشارية لغويًا, في التعبير عن آرائهم الفلسفية, لغة الكتابة في التواصل المعتاد. في مقدمتهم يأتي شتراوس, فوكو فينجغتشين ونعوم تشومسكي ودي سوسير. أي أنهم درسوا النص الماثل لغويًا ونقده بما يحمله من خصائص تجنيسية تجعل منه أدبًا أولاً وأخيرًا.

الموضوعات الهامة الكبرى في الفكر والفلسفة لم يتم الاهتمام في دراستها ونقدها ومراجعتها منهجيًا بنيويًا في اعتماد مركزية العقل فقط دونما وظيفة اللغة, هذه التراتبية انعكست في الفلسفات المعاصرة في اعتمادها (اللغة) مرتكز أساس يسبق أية مرجعية مثل العقل او اللوغوس. فمدارس الحداثة وخصوصًا ما بعد الحداثة والبنيوية والتفكيكية جميعًا شككت بكل اليقينيات العلمية والتاريخية والسردية والفلسفية القارة طويلاً ومن ضمنها التشكيك بهيمنة العقل والعلم والإنسان والتاريخ. واعتبروا الكثير من الانجازات البشرية في تلك الموضوعات غير مقنعة وناقصة, بل ذهب بعضهم على إنها أكاذيب اخترعوها وتم لهم تصديقها. كما اعتبروا كل نص في تلك الموضوعات غير بريء. بمعنى وجود غايات ودوافع سياسية مصلحية وراءها, ونقص دائم تحمله اللغة في مردود المعنى فيها, في مجاوزتها المسكوت عنه. واعتبروا أيضًا تلقي وقراءة وتأويل أي نص مكتوب يحتاج قراءة نقدية مغايرة للسائد. بمعنى في مثل التفكيكية التي لا يمثل لديها الحضور المتجاوز بالتفكيك دومًا في (نشدانها) الغياب الذي تحمله اللغة في متعين النص وفائض المعنى, الذي لا يلبث الآخر أن يصبح واقعًا يطاله التفكيك إلى ما لا نهاية.

نؤكد للمرة الثانية استحالة التطبيق التجريبي للأفكار في اعتماد مركزية الصوت اللغوي وأسبقية الكلام على الكتابة اللغوية المجتمعية, نعم هذا صحيح ومقبول في دراسة أهمية الكلام وأسبقيته على الكتابة فيما يخص مجتمعات وأقوام ما قبل التاريخ البدائية, أي قبل اختراع الكتابة التدوينية في القرن الثالث أو الرابع قبل الميلاد.

وفي غير الدراسات التخصصية المعرفية باستثناء ما يتعلق بالأدب والموسيقا والفنون, فالبنيوية كمنهج يشتغل على حفريات جيولوجيا البحث والمعرفة تكون لغة الكتابة التوصيلية التداولية مركزية في هذا النوع من الموضوعات والدراسات تتراجع فيها مركزية اللغة الصوتية (الكلام) التي هي تخصص معرفي دقيق يخص اللغة من حيث هي تجنيس أدبي. أمام الطموح السيسيولوجي في المعرفة التي لا تبتغيه البنيوية بخلاف الشكلانية التكوينية أو التوليدية عند نعوم تشومسكي.    

إذن ما المقصود قول الباحث تكريس الأصل الميتافيزيقي من خلال اللغة... وأي لغة يقصدها الباحث... وأي أصل ميتافيزيقي... !؟

اللغة وعاء للوجود البشري في جميع ظواهره وتمظهراته. ووسيط تواصل اجتماعي بشري ولم تكن اللغة ميتافيزيقا يومًا ما. وحتى الموضوع الفلسفي أو المعرفي أو الأنثروبولوجي, من غير تعيّنه في شكل لغوي معّبر عنه لا يمكن أن يكون ميتافيزيقيا أو أي شيء آخر من غير تعينه في شكل لغوي. واللغة التواصلية أداة توصيل ونقل الموضوع ووعاء للأفكار, كما هي شكل تعبيري للمضمون الذي يستحيل في حالة تجرده عن شكل اللغة في توصيله وتداوله أن يكون شيئًا أو وجودًا ماديًا.. واللغة حيادية بالنسبة لمضمون الأشياء والموضوعات, ولا تتحمل اللغة سوء وضحالة مضمون التفكير. وهي الحيّز الذي تصب فيه المعارف الإنسانية.

اللغة بالمعنى المجتمعي كأداة توصيل وتلقي, تسبق الفكرة المعرفية أو الموضوع** أو البحث النظري أو التطبيقي وهي التأطير الشكلي الظاهري والموضوعي في المعرفة والسرد على السواء. وأهمية أولوية اللغة على الفكر تكون في العقل الداخلي غير المفصح عن تفكيره لغويًا, عندما يكون التفكير واللغة في الذهن صمتًا مطبقًا لا يعبر عن أي شيء موجود واقعيًا. والخطيئة المتهمة بها اللغة ليس في عجزها عن نقل الأفكار نقلاً أمينًا واضحًا مفهومًا, بل في عجز الفكرة المعرفية والفلسفية الاتساق مع المضمون التوصيلي للغة. وما يدعى خيانة اللغة ومخاتلتها في الإفصاح عن المعنى, يجب أن توجه هذه التهمة إلى تقصير العقل التوليدي للأفكار في الذهن, وفي وسوء استعمال اللغة التعبير عن الفكر القاصر في اكتمال المعنى لديه قبل دفعه إلى شكل اللغة التعبير عنه كمضمون. لذا اعتبر عبقرية اللغة سابقة على عبقرية الفكر.

الدراسات الألسنية للأدب فقط تؤكد – ظهور البنيوية التكوينية أو التوليدية كحركة وكاتجاه أو مدرسة نقدية في البحث اللغوي والنقد الأدبي والثقافي وكذلك في علم الاجتماع والسرديات.. إلخ-. وتعتبر البنيوية التكوينية هي الأبرز في مجال النقد الأدبي معتمدة المبدأ التوفيقي الذي يمزج ما بين الجدل المادي والتفسير التاريخي الماركسي من جهة, وبين الشكلانية البنيوية من جهة أخرى. في عملية توفيقية توليدية للأفكار الجديدة أو نقد القديم منها وتخليصها من المخطوء. وهذه تختلف عن البنيوية كفلسفة تقوم على توظيف علوم اللغات الألسنية ولغة الصوت فقط كما هي عند دو سيسير في اعتماده اللغة قاموسًا نحويًا في تفكيك مفردات اللغة في لعبة  إعدام وظيفة اللغة أن تكون قاموسًا حافظًا لكل تاريخ و معاني الحياة.

البنيوية نظرية ومنهج مثالي عند دي سوسير لا تقيم وزنًا للتفسير المادي للأشياء والتاريخ. البنيوية الصوتية واللغوية تروم لوي عنق الوقائع والموضوعات والفكر تحت وصاية مراجعتها المثالية النقدية المقطوعة الصلة في التجريبية التطبيقية والفهم العقلي التجريدي بما يتوجب أن تكون عليه تلك الموضوعات.

البنيوية اللغوية الشكلانية استبدلت الفيض الميتافيزيقي في الفلسفة منذ فلاسفة الإغريق القدامى وصولاً إلى أفلاطون وأرسطو. وكذلك التخمة الميتافيزيقية في التفسير اللاهوتي للعصر الوسيط إلى نوع من الفيض اللغوي الشكلاني الذي يعتمد اللغة منهج ومرتكز معالجة الموضوعات وقراءتها قراءة نقدية شكلانية جديدة. ولا تقر البنيوية (الكلام الشفاهي) إن اللغة وجود مادي مثل باقي الموجودات, لكنها لا تسبق  الوجود الواقعي للأشياء والطبيعة والإنسان فهذه الموجودات والأشياء جميعها مع اللغة وجود مادي سابق على أي نظرية أو منهج أو تفسير فلسفي. اللغة معطى عقلي اجتماعي تسبق أي تفسير أو نظرية أو منهج يتوخى نقد أو إعادة صياغة أو تفكيك للوقائع الموجودة باستقلالية موضوعية لغوية في الواقع. نعيد مرة أخرى إن اللغة في تعالقها بالتفكير داخل العقل, تكون ثانوية تراتيبية بالمقارنة مع الفكر التوليدي ذهنيًا, قبل انطلاقته في تعبير لغوي عن الشيء الذي تم التفكير به, وما أن تخرج اللغة من مكمنها في صياغتها الفكرة كمتعين واقعي مضموني تصبح هي سيدة الموقف وتمتلك أوليتها على الفكر. (يرجى ملاحظة توضيح هذا التعالق في الهامش).

لا أعرف لماذا يتحفظ الكثير عن حسم مصطلح البنيوية على صفحات بحوث كاملة.. في أن تكون البنيوية فلسفة أو حركة أو اتجاه أو مدرسة أو نظرية أو تيارًا أو منهجًا. ويعتبر الباحث التمييز في أن تكون البنيوية نظرية أم منهجًا.. سؤال تقليدي ليس من واجب الباحث الإجابة عنه.!!

ثم إذا كانت البنيوية باعتراف باحثين متخصصين ربما تكون في إحدى اهتماماتها مدرسة نقدية في البحث اللغوي والنقد الأدبي والثقافي... وفي موقع سابق أشرنا له إن البنيوية عندهم حركة علمية في مجالات معرفية أخرى غير الأدب. فأين يكون موضع اللغة في هذا المتحف البنيوي؟ هل هي لغة الصوت والكلام...أم هي لغة الكتابة المقروءة أم هي كما يعبر عنها إشكالية ميتافيزيقا اللغة...؟ وإن كنا نتحفظ كثيرًا على تسمية ميتافيزيقا اللغة لعدم وضوح المعني والمقصود بذلك. فاللغة برأينا رموز وإشارات متفق على عقلانيتها سواء في الأساطير والميثالوجيا والعقائد الدينية الخرافية. أو جاءت هذه الرموز عبر الموروث المنجز للبشرية في المجالات البحثية المعرفية كافة. وهي بعيدة تمامًا عن المجال الميتافيزيقي إلا فقط كونها وسيلة التعبير عن الأفكار بضمنها الأفكار الميتافيزيقية.

بالتأكيد إن تغليب لغة تفكيك الصوت والكلام الشفاهي في النقد الأدبي وفي دراسات علم اللغة بعيدًا عن اللغة التواصلية في المنهج البنيوي النقدي لا يكفي. فقد يصبح النقد الأدبي البنيوي المعتمد لغة الصوت والكلام يشبه كتابة – نوتة – موسيقية بعيدة عن معالجة إشكاليات الأدب والنقد الثقافي في مرجعية النص المكتوب.

وحتى النوتة تحتاج تدوين سيميائي رمزي إشاري خاص, من هنا يمكننا طرح أهمية ما جاء به غولدمان في البنيوية التكوينية لحل هذا الإشكال الصعب. وذلك في تظافر المفاهيم الماركسية مع البحث التوليدي التوفيقي. والأدب يحتاج لغة كتابة أيضًا في كل الأحوال ولا غنى عن ذلك. لذا نجد خروج البنيوية على الرموز الصوتية واللسانية التي لم تكن صالحة في التطبيق الأنثروبولوجي لدى شتراوس ولا لدى لاكان في علم النفس البنيوي ولا لدى جاك دريدا أو فوكو أو التوسير في مباحث البنيوية في السرديات والأنساق الايدولوجية الكبرى. ولا في المعارف والدراسات الفلسفية التي كانت قيد المراجعة والقراءات الجديدة للمنهج البنيوي.

 

الهوامش:

1 - د. فاطمة بدر/الصورة في السرد الروائي والسرد السينمائي/ مجلة الأقلام العراقية العدد 2 حزيران، 2010.

*عندما نقول اللغة تسبق الفكر، فهي تبدو لنا غير صحيحة في تراتيبية الوظيفة الفسلجية للدماغ في توليده الفكر واللغة, من حيث أن اللغة وعاء الفكرة المعبّر عنها, والفكرة أو الإدراك الموضوعي لشيء ما هي نتاج العقل, وبهذا المعنى تكون الفكرة أو التفكير بالموضوع أسبق على لغة التعبير عنها, لكن عندما نعبّر عن الفكرة لغويًا تواصليا فهي من حيث التراتيبية المحصورة بين لغة تعبير ومستقبل لها في تموضعهما واقعيًا, تنعدم هنا أسبقية الفكرة عن لغة التعبير عنها, كونها فكرة اخترعها العقل في كمون غير مدرك قبل اللغة, ولو لم يأت دور اللغة في التعبير عنها, لكانت الفكرة نتاج التفكير العقلي المجرد تسبق الإفصاح اللغوي عنها.(كاتب المقال).


عدد القراء: 5012

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-