الرؤية التموزية عند السياب جيكور الذات والعالمالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2019-02-05 13:44:55

د. بهيجة مصري إدلبي

شاعرة وناقدة سورية

عتبة أولى:

لاشك إن الأسطورة في تأويلاتها المختلفة، عبر انفتاحها على الذات الشاعرة، تشكل ظاهرة من أكثر الظواهر انتماء للقصيدة الحديثة، وتشكيلاتها، ولم يوفر الدرس النقدي جهدًا في استبصار هذه الظاهرة، وتحليلها وتفكيكيها، ومحاولة تأويلها، عند شعراء الحداثة وعلى وجه الخصوص عند جماعة شعر. إلا أن هذه الظاهرة بانتمائها إلى الطقس الأسطوري، من جهة وإلى الطقس الذاتي للذات الشاعرة من جهة ثانية مازالت قابلة للاختبار في البصيرة النقدية.

وفي هذا البحث لا أنوي استدراج الأساطير التي اختبرتها التجربة السيابية، على خلفية التناص والتماس النصي بين النص الشعري والأسطورة، وإنما سأختبر الرؤية التي أشار إليها السياب ذاته في حديثه عن دور الأسطورة في استدراج القصيدة إلى خيالها البكر، بعد أن أغطش العصر شعريتها بفتنته المادية، لتصبح الأسطورة حاجة من حاجات القصيدة، وأداة من أدوات الشاعر الحديث لإنتاج نص أكثر انتماء إلى فضاء الحداثة، وأكثر انتماءً إلى ذاته، وبالتالي أكثر انتماءً إلى روح الشعر.

فالسياب كان مدركًا بأن الأسطورة والخرافة والرمز، مختبرات لشعرية النص الشعري، فكما يقول "نعيش في عالم لا شعر فيه، أي أن القيم التي تسوده قيم لا شعرية والكلمة العليا فيه للمادة، لا للروح، وراحت الأشياء التي كان في الشاعر أن يقولها أن يحولها إلى جزء من نفسه، تتحطم واحدًا فواحدًا، أو تنسحب إلى هامش الحياة، إذن فالتعبير المباشر عن اللاشعر لن يكون شعرًا لذلك عاد  الشاعر إلى الأساطير إلى الخرافات التي ما تزال تحتفظ بحرارتها لأنها ليست جزءًا من هذا العالم .. ليستعملها رموزًا وليبني منها عوالم يتحدى بها منطق الذهب والحديد. كما أنه راح من جهة أخرى يخلق له أساطير جديدة"1. 

فالسياب لم يكتف بأن استلهم الأساطير في نصوصه، وإنما سعى إلى خلق أسطورته الذاتية، إلى الكشف عن العمق الأسطوري في ذاته الشعرية، عبر انفتاحها، على الأساطير وبالتالي تحولت الأساطير في قصيدة السياب إلى دفء نصه لتنهض في تشكيل آخر أكثر انتماءً إلى ذاته الشاعرة، وهذا البعد الأسطوري هو ما سأستجليه عبر أسطورة من أ كثر الأساطير التي استدرجها الشاعر الحديث، لأنها تقع في كنه السؤال عن الوجود، وفي كنه السؤال عن الخلود الذي يطمح إليه الكائن الشاعر وهي أسطورة تموز.

عتبة ثانية:

إن استدراج الأسطورة في الشعر إنما هو استجابة لروح القصيدة التي تبحث عن وجودها المختلف وتبحث عن خصوصية المعنى وخصوبة الوجود وبالتالي هو شكل من أشكال انعتاق الذات من عزلتها، وتأملها الذاتي إلى عوالم غرائبية عجائبية توسِّع أفق المعنى، تضع الشاعر أمام قراءة مختلفة لعالمه الذاتي وللعالم من حوله، فالأسطورة هي تأويل الكائن للعالم المحيط به بظواهره وعجائبه وغرائبه عبر اختبار تلك الظواهر في الوعي وإعادة إنتاجها أي أنها أسلوب في التعبير عن الوعي لترتيب العلاقة بينه وبين المحيط لتحقيق التوازن بين الذات والموضوع إلى جانب أنها وعي أسلوبي ينهض بالقصيدة إلى مقام من الشعرية يدرك الشاعر خلالها من الأسرار مالم يكن له من قبل، حيث يستعيد صوته الأول الكامن في الزمن الأول لتشكيل اللغة وتشكيل المعنى، وانفتاح العلاقة بينه وبين العالم.

  فبين الشعر والأسطورة تراسل ظاهر وخفي لأن الشعر في تجلياته التي تستبصر الذات في تحولاتها ماهو إلا أسطورة الشاعر الذاتية لأنه لم يعد مقتصرًا على استدراج غنائيته المحضة، وإنما انفتح  على أفق العلاقة بين الذات والموضوع في فهم العلاقة الجدلية التي انزاحت بالقصيدة الحديثة إلى رؤى جديدة وبالتالي إن هذا التراسل هو تراسل الخصوصية في ابتكار المعاني وتراسل التخطيب بين أنساق الأسطورة وأنساق القصيدة التي تنشئها على خلفية من أنساق الذات الشاعرة ومن هنا يرى مرسيا إلياد "أن الأسطورة ليست وهمًا ولا كذبًا وإنما هي تجربة وجودية" يدرك الشاعر خلالها خافية الوجود2  فهي حسب  فيريزر في الغصن الذهبي "نشأت علمًا بدائيًا يهدف إلى تفسير الحياة والطبيعة والإنسان، وأنها متأخرة عن الطقوس"3   أما ليفي شتراوس فيرى أنها "حلول يصنعها الخيال لتسوية التناقضات الاجتماعية الواقعية"4 لكنها في علم النفس تستفز اللاشعور الفردي والجمعي، وتثير جوانب النفس الإنسانية حسب يونغ الذي يرى "أن المجتمع الذي يفقد أساطيره بدائيًا كان أم متحضرًا، يعاني كارثة أخلاقية تعادل فقدان الإنسان لروحه"5 وباتفاقنا مع يونغ حول العلاقة الوجودية بين الكائن والأسطورة وبين الحضارات والأسطورة يمكننا القول: "إن الأسطورة هي احتكاك وعي الإنسان لوجوده مع طاقته على الحلم لدرء ظاهرة الفناء التي لم يجد لها حلاً، فكانت الأسطورة بكل رموزها وكائناتها وخيالها وميتافيزيقيتها وفي كل الحضارات والأزمنة هي شكل من أشكال الاستجابة لحلم الإنسان الفردوسي في أن يكون خالدًا سواءً بابتكاره لعوالم غيبية واختراقه لها عبر طاقة الحلم لديه أو ببحثه الدؤوب عن شيء ما يساعده على الخلود كما هي عشبة جلجامش.

وبقدر ما تحمل الأسطورة من التأويلات عبر الأزمنة المختلفة وبقدر ما تنفتح على أفق الحلم الإنساني في الوجود بقدر ما اختلف حولها النقاد والدارسون والباحثون في العلوم المختلفة لأنها بطبيعتها تستجيب لكل العلوم وتستجيب لكل الرؤى لأنها كتاب الإنسان الأول الذي يعبر عنه فهمه للحياة الحاضرة والحياة الغائبة أي أنها رؤيته الخاصة دون أن تنغلق تلك الرؤية على زمن محدد أو حضارة معينه بل إن أكثر ما يميز الأسطورة قدرتها على التداول الزمكاني وقدرتها على تحفيز الطاقات المختلفة في الكشف عن المعاني الغائبة في ما ورائية الرؤية التي تعبر عنها.

ومن هنا فإن اختبارها في الشعر كأسطورة للذات لا ينفصل عن اختبارها في كينونة وجود الكائن، بل هي المصدر الذي انبثقت منه فنون الموسيقى والرقص والرسم والنحت"6  كما عبر فريزر الذي "استند إلى نظرة دينامية تطورية تقول بأن الأسطورة تنمو في الدين والأدب والفن بعد أن تموت الطقوس التي كانت علة وجودها".... ليؤكد نورثروب فراي ارتباط العمل الفني بالتراث الإنساني كأنه تطبيق لقول شتراوس بارتباط  الأسطورة الواحدة بالتراث الأسطوري الإنساني.... ليعيش الشاعر وصانع الأساطير لدى كاسيرو في عالم واحد..7 وعلى هذا يصبح الشعر الحافز الأكثر استجابة لروح الأسطورة وروح الوجود الإنساني لأن شعرية القصيدة الحديثة لا تتأتى فقط من حيث الاستجابة الظاهرية للأساطير وإنما من خلال ترهين الطاقة الأسطورية السحرية في طاقة القصيدة حيث تنمحي المسافات الزمنية ليكون ثمة انتماء متبادل بين القصيدة والأسطورة بانتماء كل منهما إلى زمن الآخر، وانفتاح معانيهما لتستوي في مقام الحلم ومن هنا "عرف فراي الأدب في دوره الأسطوري بأنه طقس وحلم، وقال إن الطقس محاكاة الفعل الإنساني المتكرر والحلم صراع الرغبة والواقع، وأن التكرار والرغبة يتدخلان ويحملان الأهمية ذاتها في الطقس والحلم"8  وعلى هذا الأساس " إن كل شعر هو جهد يبذله الشاعر من أجل إعادة خلق اللغة، أي إزالة اللغة المألوفة ذات الاستعمال اليومي، ومن أجل إبداع لغة جديدة، شخصية وفردية، وهي في نهاية الأمر لغة سرية وبالإضافة إلى ذلك إن الإبداع في الشعر شأنه شأن الإبداع في اللغة، يستلزم إلغاء الزمان، والتاريخ المركز في اللغة  ويطمح إلى الالتحاق بوضع فردوسي أولي، حينما كان الإبداع يتم بصورة عفوية، وحينما لم يكن للماضي وجود، لأنه لم يكن للشعور بالزمان وجود، كذلك لم يكن وجود لذاكرة تتناول الديمومة الزمنية"9 "فالشاعر الكبير يعيد صياغة العالم، لأنه يجد ليراه كما لو أن الزمان والتاريخ لم يكن لهما وجود"10 وبالتالي ثمة تفاتح وجودي بين انبثاق القصيدة وانبثاق الأسطورة، يؤكد أهمية انفتاح الخطاب الأسطوري على الخطاب الشعري ويؤكد على الطاقة الشعرية التي تؤول هذا الخطاب، في الخطاب الشعري. وبرأي شكري عياد أن القواعد التي بنيت عليها القصيدة العربية إنما هي في جانب من تفسيرها "ظواهر طقوسية بدليل التأثير السحري الذي ينسب للقصيدة في العصر الجاهلي وعقيدة الجاهليين في ارتباط الشاعر بالجن، يضاف إلى هذا وذاك ما جاء في الأخبار عن تهيئة ظروف معينة للإنشاد أشبه ما يلاحظ في الممارسات الشعرية  حتى يومنا هذا وأن هذه الظواهر هي التي تدعونا إلى القول بأن  للقصيدة العربية أصلاً أسطوريًا مرتبطًا بشعائر معينة."11 إلا أن الأمر يختلف لدى الشاعر المعاصر فقد أصبحت الأسطورة أفقًا  للقصيدة ومظهرًا من مظاهر شعرية الخطاب الشعري.

ويرى الباحثون أن الاهتمام بالأسطورة ازداد إبداعًا ونقدًا مع حركة أبوللو في الثلاثينيات المبكرة، ليبلغ ذروته في الحركة التموزية ومجلة شعر في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، .. حيث كان لأساطير الخصب وطقوسه الحيز الأوسع من حركة الشعر الحديث لكونها جزءًا من ميراث الشرق الأدنى القديم ومن حوافز الاعتزاز القومي بتراث المنطقة، وأن أسطورة العنقاء رجحت على كل الأساطير الأخرى ونافست أساطير الخصب التي تسمى الشعراء التموزيين باسم رمز من رموزها12 لذلك إن فهم القصيدة الحديثة لم يعد سبيلاً سالكًا دون فهم الخلفية الثقافية الأسطورية التي نهضت عليها القصيدة سواء أكان هذا الاستخدام مباشرًا يستغرق القصيدة كلها أم إشارة أم رمزًا أم استلهامًا لروح الأسطورة ويرى نورثروب "أن الأسطورة مفتاح لفهم القصيدة من داخلها لا كرمز مفروض من الخارج لأن الشعر كالأسطورة يستدعي الخبرات الجمعية وينبثق من ذاكرة النماذج الكلية فالوظيفة الأسطورية هي الباقية أمام تراكم المعارك العلمية"13. 

ولا نريد الاستغراق أكثر في بحث العلاقة الجدلية بين القصيدة والأسطورة لأن ذلك أصبح من مسلمات النقد ومسلمات البحث الشعري المعاصر في القصيدة الحديثة14. 

الأسطورة وتأويل الخطاب:

حين يختبر الشاعر ذاته في الأسطورة لغةً ورؤيًا وكشفًا، إنما يختبر طاقة الحلم التي تحرض طاقة القصيدة، وبالتالي تصبح الأسطورة موازية للحلم، والحلم محرض للأسطورة في القصيدة لتصبح الأسطورة طقسًا من طقوس التحريض الشعري، وتصبح القصيدة طقسًا من طقوس التحريض الأسطوري، فتستوي الأسطورة في القصيدة لتصبح القصيدة  أسطورة  الشاعر  التي يصنعها في انفتاحها على الخطاب الأسطوري بكل حوامله وأنساقه.

ولاشك إن السياب من أكثر الشعراء شغفًا بالأسطورة، اقتباسًا واستلهامًا، وتأويلاً، وابتكارًا، وهذا الشغف فتح له باب البحث عن كل الرموز الأسطورية في حضاراتها المختلفة، ليكون شغفه الأكبر بأساطير الخصب والجدب، والموت والحياة، تأويلاً لرؤاه الحداثية في ريادته للشعر الحديث، وبحثًا عن خصوصية قصيدته الشعرية خارج السرب التقليدي ليصل بذلك إلى خلق أسطورته الذاتية، عبر تأويلها الأسطوري، في مقامها الإنساني. 

وفي هذا البحث سأتوقف عن القصائد التي تشير في مناصتها العنوانية إلى قرية الشاعر جيكور، لأكشف عن سر تلك العلاقة التي تتوحد فيها الذات الشاعرة بالمكان والزمان، وبالتالي تتوحد بالواقع لترفضه، وتتوحد بالحلم لتصل إليه.

فالرؤية التموزية هي رؤية الشاعر الذي يبحث عن خلاصه الجمعي، دون الغفلة عن خلاصه الفردي، وبالتالي اصطدام القصيدة بالواقع ومفارقتها له في الوقت ذاته واتحادها بالحلم، حتى حين كان يفرد مساحة واسعة للموت الفجائعي في قصائده، لم يكن ذلك انتباهًا للواقع أكثر من الحلم وإنما ليحفز الطقس التموزي في البعث والحياة، ليبتكر سبيلاً للخلاص وسبيلاً للبعث الجديد، سواء أكان الموت للمكان أو للزمان، أو للذات، وبالتالي تصبح القصيدة هي المحفز الأسطوري، لأسطورة الذات، من أجل أن تبث وتنفث الروح في الكائنات، وفي الوجود، لابتكار الحلم الذي يحلم به الشاعر.

ومن هنا فإن الذات هي التي تتمحور حولها الرؤية التموزية، لأنها تتوحد مع الأشياء، وتتوحد مع المكان والزمان، لتبني وجودها وحلمها في مرآة المستقبل، وبالتالي في مرآة القصيدة.

ولا يخفى على الدرس النقدي ذلك الأثر الواضح بين رؤية السياب التموزية ورؤية ت س إليوت في الأرض الخراب، ذلك لأن العوامل الذاتية والموضوعية التي كانت وراء إنتاج الأرض الخراب، تتقاطع تقاطعًا واضحًا في إنتاج  النص التموزي لدى السياب سواء في أنشودة المطر أو في مدينة بلا مطر، أو في جيكوراته وغيرها.

ولكي لا يتشعب البحث آثرت أن أكتفي بالتوقف عند القصائد التي كتبها لجيكور، عبر مسارات التحول في الذات والعالم لتصبح جيكور هي العراق من جهة وهي العالم من جهة ثانية، وهي الذات من جهة ثالثة، ولعل باستبصارنا للمناصات العنوانية (شابت جيكور، مرثية جيكور، تموز جيكور ، جيكور والمدينة، العودة إلى جيكور) تتضح لنا الإشارات العميقة إلى هذا التصاعد في الرؤية السيابية التموزية في البحث عن ذاته في المكان والزمان، من أجل تشكيل عالمه الذي يحلم به.

فالشيب يستدرج الرثاء لأنه لدى السياب إشارة إلى النهاية لتنهض الأسئلة بجدلها في مقابلة المرايا بين مرآة المدينة ومرآة جيكور، بين مرآة الصدمة المادية للعالم وبين مرآة الفطرة الأولى للكائن للبحث عن سبيل لاستعادة جيكور من رمادها، ومن غيابها، ليكون تموز/جيكور بعثًا جديدًا لها عبر بعث الذات وبالتالي بعث العالم، لتكتمل الرؤية التموزية في العودة إلى جيكور الحلم ـ  جيكور الوجود.

ففي قصيدة جيكور شابت تتجه الذات إلى جيكور وهي تتجه إلى الغروب، فيصاب الشاعر بصدمة الواقع المفجع، وبالتالي تنهض أسئلته المؤلمة في البحث عن جيكوره، التي كانت:

آه جيكور جيكور

ما للضحى كالأصيل

يسحب النّور مثل الجناح الكليل؟

ما لأكواخك المقفرات الكئيبة

يحبس الظل فيها نحيبه؟

أين أين الصبايا يوسوسن بين النخيل

عن هوى كالتماع النجوم الغريبة

لتصبح جيكور سؤالاً مفتوحًا على سؤال القصيدة، فإذا هي قصيدة الشاعر، التي تنهض ذاته في مفرداتها، لتنشئ وجودها، لكن الشاعر لم يستطع أن ينهض بجيكور وهي تفسح له قبرًا وموتًا.

أين جيكور

جيكور ديوان شعري

موعد بي ألواح نعشي وقبري

ما يجعل الشاعر يتساءل في حيرة وقلق، عن جيكور، بل يلقي بأسئلته المقلقة عليها، ليبقى السؤال قائمًا في جدله اللامنتهي، بين جيكور الذكريات جيكور الماضي، جيكور الحاضر، جيكور الموت، جيكور الغياب:

إيه جيكور عندي سؤال أما تسمعينه

هل ترى أنت في ذكرياتي دفينة

أم ترى أنت قبر لها؟ فابعثيها

و ابعثيني

وهيهات ما للصّبى من رجوع

إن ماضيّ قبري و إني قبر ماضي

موت يمدّ الحياة الحزينة

أم حياة تمدّ الرّدى بالدموع

لتكون مرثية جيكور ترسيخًا لموتها مصلوبة كما المسيح، بل وكأنها قبر مظلم يبتلع الحياة:

يا صليب المسيح ألقاك ظلاً فوق جيكور طائر من حديد

يا لظل كظلمة القبر في اللون و كالقبر في ابتلاع الخدود

بهذه الرؤية التي ترسم صورة لموت جيكور، تنهض أسئلة الشاعر في مقابلة مرآة جيكور مع مرآة المدينة، لتكون المدينة في هذا المقام معادلاً موضوعيًا لصدمة الشاعر بالعالم الجديد، عالم المادة الذي أشار إليه في مقولته التي تقدم وأشرنا إليها، أي العالم الذي لم تعد قيمه قيما شعرية، وكأن هذا العالم هو الخنزير الذي صرع تموز وأرسله إلى العالم السفلي، وهو الذي أحرق جيكور في روح الشاعر:

وتلتفّ حولي دروب المدينة

حبالا من الطين يمضغن قلبي

ويعطين عن جمرة فيه طينة

حبالا من النار يجلدن عرى الحقول الحزينة

ويحرقن جيكور في قاع روحي

ويزرعن فيها رماد الضغينة

دروب تقول الأساطير عنها

على موقد نام ما عاد منها

ولا عاد من ضفة الموت سار

كأن الصدى والسكينة

ليشير بشكل واضح ومباشر إلى موت تموز/جيكور، الذي بموته مات الربيع ومات المطر (ولاة) الحزينة تبكي ابنها، كما يبكي الشاعر جيكوره، التي بموتها مات العالم أيضًا:

وتموز تبكيه لاة الحزينة

ترفع بالنواح صوتها مع السّحر

ترفع بالنواح صوتها كما تنهّد الشجر

تقول يا قطار يا قدر

قتلت إذ قتلته الربيع والمطر

هكذا تصبح قصيدة تموز جيكور موازاة واضحة بين تموز وجيكور، ففي مقطعها الأول نجد الخطاب يأتي على لسان تموز الذي يصرعه الخنزير  فينساب دمه ويتدفق، لكنه لم ينبت شقائق بل ملحًا، حتى عشتار التي تلثمه كان على فمها ظلمة انطبقت على تموز ليمعن في موته ودخوله في العتمة والموت.

 فتكريس رؤى الموت في هذا المقطع إنما هو لتحفيز الرؤية الأسطورية التي سنجدها في المقطع الثاني حيث يقرر الشاعر بيقين بأن جيكور ستعود وتبعث من جديد، وذلك من خلال هذا التوحد بينه وبين جيكور ليتحول الخطاب إلى خطاب ذاتي للشاعر الذي يبشر بولادة جيكور من جرحه، ما يوازي بين الشاعر وتموز وبين الشاعر وجيكور، فيتحد المكان والزمان، الذات والعالم، عبر رؤية استبصارية لعالم أجمل، وولادة جديدة، فينهض تموز وتنهض جيكور وتنهض الذات في انفتاحها على العالم: 

جيكور ستولد جيكور

النور سيورق والنور

جيكور ستولد من جرحي

من غصة موتي من ناري

سيفيض البيدر بالقمح

والجرن سيضحك للصبح

والقرية دارا عن دار

تتماوج أنغاما حلوة

والشيخ ينام على الربوة

والنخل يوسوس أسراري

إلا أن هذه الولادة التي يبشر بها الشاعر لم تكن ولادة طبيعية، ولا ولادة ينبثق فيها خلاص الشاعر، وكأن الشاعر يفدي جيكور من أجل أن تولد حتى وإن بقي في سجنه الذاتي، في ليل الطين الممدود، وهنا يصبح الشاعر مقابلاً للمسيح الذي يفدي البشرية لتحيا من موته:

جيكور ستولد لكنّي

لن أخرج فيها من سجني

في ليل الطين الممدود

لن ينبض قلبي كاللحن

في الأوتار

لن يخفق فيه سوى الدود

لكن الشاعر يعود فيستدرك على ذاته هذه البشرى ليعود إلى جدل الأسئلة، وجدل العلاقة بين ولادة جيكور وموته، أو بين ولادتها من خضة ميلاده، وذلك عبر مقابلة بين الواقع والحلم حيث يتغلب الواقع المؤلم على الحلم، وبالتالي يتغلب انكسار الذات و حلمها في الخلاص، إلا أن هذا الانكسار وتغليب الواقع على الحلم ليس تغليبًا انتكاسيًا، لأنه  يوحي بكل ما يحمل من عتمة الوجع والموت والانكسار إلى أن ثمة ولادة لابد من أن تكون، وهذا ما يجعله يكتب العودة إلى جيكور، التي تصور  هرب الشاعر من واقعه المؤلم، ومن موته، من موت جيكور:

على جواد الحلم الأشهب

أسريت عبر التلال

أهرب منها من ذراها الطوال

من سوقها المكتظ بالبائعين

من صبحها المتعب

من ليلها النابح والعابرين

من نورها الغيهب

من ربها المغسول بالخمر

من عارها المخبوء بالزهر

من موتها الساري على النهر

فهرب الشاعر لم يكن هربًا نهائيًا، بل كان هربًا من أجل أن يستعيد جيكور الحلم في دمه، جيكور التي يصنعها من ذاته من جرحه، من قصيدته، في مقابلة بين وجوده ووجودها:

على جواد الحلم الأشهب

وتحت شمس المشرق الأخضر

في صيف جيكور السخي الثري

أسريت أطوي دربي النائي

بين الندى و الزهر و الماء

أبحث في الآفاق عن كوكب

عن مولد للروح تحت السماء

عن منبع يروي لهيب الظماء

عن منزل للسائح المتعب

وبالتالي يصبح الخطاب الموجه إلى جيكور خطابًا ابتهاليًا في بعض جوانبه، خطابًا أسطوريًا بين الحلم والواقع، بين الذات الشاعرة وبين القصيدة التي تنهض عبر ولادة الحلم فيها، وكأن جيكور في الابتهال ـ عبر تكرار اسمها في القصيدة ـ  هي التي ستبتكر خلاص الشاعر، كما هو يبحث عن خلاصها، فالعلاقة بين الشاعر وجيكور علاقة جدلية، يتجلى فيها خلاص الفرد في الكل، وخلاص المكان في الذات، وخلاص الذات في المكان والزمان، فالخلاص ليس طريقًا مستقيمًا يمتد من الوجع إلى الحلم، وإنما هو طريق وعر، مرصود بالموت في كل خطوة من خطواته، حتى يبلغ مبتغاه:

جيكور مدّي لنا بابا فندخله

أو سامرينا بنجم فيه أضواء

           ***

أواه يا جيكور لو تسمعين

أواه يا جيكور لو توجدين

لو تنجبين الروح لو تجهضين

كي يبصر الساري

نجمًا يضيء الليل للتائهين

وهنا لابد من الإشارة إلى أن قصائد السياب عن جيكور رغم عناوينها المختلفة، إلا أنها تتخذ مسارًا واحدًا وهو تكريس الوجع، وتكريس الألم، ما يشي بتأويلي سيابي لأسطورة تموز، يتجه بها إلى مسار مختلف، أي يعيد إنتاجها عبر ذاته، فالقصائد الجيكورية لا تشي بالولادة، بقدر ما تشي بالموت، ليكون ذلك صدعًا للواقع ذاته، وصدعًا للذات المفجوعة بذاتها، ووجودها، من أجل أن يكون الخلاص والولادة والبعث الجديد، كامنًا في تأويل الرؤية الشعرية، وفي تأويل النص عبر قراءته الإستبصارية.

وبالتالي تصبح جيكور/تموز، هي ذات الشاعر، وهي العالم، سواء أكان ذلك في مرآة الواقع أم في مرآة الحلم، لأن الشاعر التموزي الذي يتمثله السياب، لم يكن يبشر بالولادة السهلة، وإنما يبشر بولادة مؤلمة بحجم الواقع المؤلم دون أن يغلق باب الخلاص، فجيكور كما هي ألم الشاعر، ووجعه اللانهائي كما هو العراق كما هو العالم، كذلك هي قصيدته اللانهائية، وحلمه اللانهائي، وخلاصه الحتمي.

 

الهوامش:

- بدر شاكر السياب، الشاعر الحديث، مجلة شعر، س1 عدد 2، 1957

- خليل أحمد خليل، مضمون الأسطورة في الفكر العربي، دار الطليعة بيروت، ط2 ، 1980 ص 11

- محمد عجينة، موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها، دار الفارابي، بيروت، ط 1، 1994، ص 41

- محمد شاهين، الأدب والأسطورة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1996، ص 10

- الأسطورة توثيق حضاري، قسم الدراسات والبحوث، جمعية الجديد الثقافية مملكة البحرين ن ط1، 2005، ص 19

- ريتا عوض، أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث، رسالة ماجستير، متاحة على الإنترنت، ص 5

- م ن، ص5 ـ  16

- م ن، ص 23

- ميرسيا إيلياد، الأساطير والأحلام والأسرار ، ترجمة حسيب كاسوحة، وزارة الثقافة، دمشق، 2004، ص 40 ، 41

-  م ن، ص 41

- د. عبدالله أحمد المهنا، الحداثة وبعض العناصر المحدثة في القصيدة العربية المعاصرة، مجلة عالم الفكر، المجلد التاسع عشر، العدد الثالث، أكتوبر نوفمبر ديسمبر 1988 ص 48

- د. نذير العظمة، سفر العنقاء، حفرية ثقافية في الأسطورة، وزارة الثقافة، دمشق، 1996، ص 49 ـ 52

-  م ن، ص 48

- د. بهيجة مصري إدلبي، الأسطورة في شعر محمد الثبيتي، كتاب الفيصل/ 23 ـ / 2018


عدد القراء: 15135

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-