تقويض مركزية الكلام في تفكيكيات جاك ديريدا من خلال نقد فكرة أفعال اللغة لأوستينالباب: مقالات الكتاب
د. الحسين أخدوش أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي - المغرب |
لمّا كان نظر التفكيكيات (Déconstructions) في النصوص والعلامات يستلزم عند جاك ديريدا ترك التوسل بالأدوات والمنهجيات اللسانية والمنطقية التقليدية جانبًا، والدخول رأسًا في علاقات استراتيجية جديدة تقوم على الإرجاء وتفكيك العلامة والكلمة الواحدة إلى سلسلة من الكلمات الأخرى حتى يكون مقتضى النظر فيها على ما بينها من علاقات التوزيع والترابط والتسلسل؛ فإنّ هذه الاستراتيجية الجديدة في التفكير هي ما يجعلنا بحقّ ندخل في أكثر من علاقة دلالية مع الكلمة الواحدة.
غير أنّ ما ترتّب على هذا المنظور المختلف للدلالة، هو أن اعتبر ديريدا مثلاً لفظة "الاختلاف" لا على أنّها تصوّر أو مفهوم، بل سلسلة من الحروف التي قد يُنظر إلى كل واحدة منها على حدة وبمعزل عن الحروف الأخرى. وبمقتضى هذا الاعتبار أصبح مثلا ًحرف «E» في لفظة «Différence» (اختلاف) حرف «A» في لفظة «Différance» المقابلة، وذلك بمجرّد استحضار معنى آخر يخالف للمعنى الأوّل في اللفظة السابقة (إرجاء/خلاف). وهكذا أصبح تفكيك اللفظة الأولى، وفق هذه الاستراتيجية الجديدة، عملية خلخلة وتصدّع للمعنى الواحد فيها اعتبارًا ممّا يتعلّق بهذا المعنى من آثار «Les traces» دلالية وميتافيزيقية، استهدافها ديريدا بالنقد التفكيكي بعد إبراز ذلك المعنى واستحضاره لتقويضه.
كان غرض هذا الفيلسوف من ذلك أن تصبح هذه الخلخلة مَحْوًا لتلك الآثار العالقة بالمعنى الأوّل للعلامة بعد إبرازها وكشفها. لذا يصبح تفكيك الآثار العالقة بتلك الآثار ممارسة لعملية تخصيب مستمرة للكلمات والعلامات والنصوص، وإبرازًا للاختلافات التي تقبع فيها وتوجد بداخلها. تغدوا الاختلافات الثاوية في البنية الداخلية للنصوص والعلامات والكلمات، بمقتضى هده الممارسة النقدية، استراتيجية توزيع الدلالة وتشتيتها، وفي هذه الحالة لا تغدو لفظة "الاختلاف" تصوّرًا أو مفهومًا، كما قد يمكن أن يفهم للوهلة الأولى خطأ في فلسفة ديريدا، بل هي علامة مفتوحة الدلالة وغير قابلة للترجمة.
غالبًا ما يطرح السؤال بهذا الخصوص حول ما يميّز هذه الطريقة الغريبة التي يدّعي من خلالها ديريدا استحالة ثبات معنى الألفاظ والنصوص والخطابات بالشكل الذي عرضناه سابقًا. وبالتالي نتساءل إلى أيّ حدّ يمكن أن يتعارض منظوره هذا الرافض لوحدة الدلالة والمعنى مع المنظور الذي يصدر عنه التصور اللساني التقليدي القائل بشفافية اللغة ومركزية الكلام في كلّ عملية تواصلية كما تتدّعي ذلك نظرية أفعال الكلام1 المؤمنة بوجود دلالة ثابتة للكلام؟ كيف يتعارض منظور التفكيكيات للكلام والصوت مع التصوّر التقليدي لشفافية اللغة؟
لمقاربة هذه الأسئلة، نقترح تناول نقد مركزية الكلام2 في فلسفة ديريدا انطلاقا من أنموذج لساني/ فلسفي يعتبره ديريدا تجسيدًا صارخًا لسيادة هذه المركزية في سياق الفكر الغربي المعاصر. يتعلّق الأمر هنا تحديدًا بنظرية "أفعال الكلام" كما أسّس لها الفيلسوف الانجليزي جون لانغشو أوستين أواسط القرن الماضي3. تزعم هذه النظرية القول بأنّ للعبارات والأقوال اللغوية طابعًا إنشائيًا وليس فقط إخباريًا كما جرى القول على ذلك، فحين يتكلّم المتكلّم بكلمات إلى مستمع له ينشئ الأول أفعالاً تكلّمية تجعل الثاني يستجيب بإنجاز أفعال وطقوس لغوية، وهذه الطقوس الإنجازية هي ما يسمّيه أوستين وسورل أفعال الكلام.
رفض ديريدا هذا التصور للكلام عامّة ولمقولة الإنجاز خاصة، معتبرًا نظرية أفعال الكلام لا تخرج عن الإطار الفلسفي العام للتصوّر الكلاسيكي للغة باعتبارها قناة تواصل وتبادل للمعاني والمقاصد وإنجاز الأفعال السلوكية. وتقوم هذه النظرية على القول بأنّ أداء فعل طقوسي عن طريق الكلام، يعني أو يفترض ضمنيًا وجود معنى معيّن ثابت لما يتلفظ به المتكلم في سياق محدّد غير ذي شعاب تكون فيه مقاصد المتكلّمين (نوايا) شفافة4.
ينطلق ديريدا من هذه القناعة فيزعم العكس تمامًا، حيث يعتبر أنّ نية المتكلّم ليست حاضرة وشفافة بشكل دائم إلا إذا كان السياق الذي يحكم تلفظاته سياقًا كليًا ومحددًا بصورة شاملة وعامة، وهذا مستحيل وغير ممكن. فاعتبار القصد شفافًا في سياق غير محدّد بشكل كلي، ما هو إلاّ تجريد من التجريدات النظرية الوهمية التي تحكم تصورات أوستن في اللغة العادية؛ لذا فإنّ أي سياق كيفما كان لا يمكن أن يكون تامًا أو محدّدًا بشكل نهائي، لذلك لن نجد هنالك ما قد يسعفنا لأن نقول بإنتاجية ما يسمى بـ(أفعال الكلام)5.
بمقتضى هذا الرفض لثبوتية السياق الذي من شأنه أن يسمح بنقل القصد أو النية، وكذا استحالة وجود سياق كلي شامل، يُسْقِط ديريدا الفكرة القائلة بأنّ تكرار الكلمات أو التلفظات وترديدها لا ينال من هويتها بل يميل إلى تقوية معناها وزيادة تماسكها الدلالي وإفادتها للمعنى. إن قابلية تكرار التلفظات، أو ما يسميه هذا الأخير «Iterabilité» ينقض في عمقه فكرة أوستن في مقولة الأداء التي يعتمدها، لأنّه يفضي من خلال تنافر السياقات وتغيّرها إلى تشتيت «Dissémination» معناها ودلالتها من خلال تفتيت هويتها الأولى.
لذلك يعتبر ديريدا أن القول الإنجازي الذي يعتمده أوستن لا يستطيع حقيقة أن يحيل على ما يقع خارج دلالته الخاصة، وذلك لأن معناه يبقى محصورًا في ذاته كما لو أنّه حدث أو فعل تام في سياق شامل. إنّ وصف دلالة الحدث الأدائي (فعل الكلام) يبقى ناقصًا دائمًا مادام أنّه يهمل حقيقة دلالية أخرى، هي أنّ كل قول أدائي إلاّ وينطوي على آثار «Les traces» أخرى غير ما قصّره عليه أوستن من دلالة الانجاز فقط.
بالنسبة لـ "ديريدا" إذًا، هناك أمورًا أخرى خارج السياق الدلالي اللساني أو المقامي الضيق الذي تحشر فيه نظرية أوستن فكرة الإنجاز، لذلك ليس ثمة هنالك انغلاق للسياق في نظره حيث يبقى مفتوحًا كل الإمكانيات الأخرى بما فيها تلك التي تنقض المعنى القائم بداخله6. أكثر من ذلك، رأى ديريدا في الوضعيات السياقية المشوّشة، والتي انتبه إليها أوستن واعتبرها عناصر تسبب في تعثر التواصل، مسائل تقع في صميم اللغة والخطاب وليس عرضية على الكلام، وتمثّل بالنسبة إليه بنية كل تلفظّ وبالتالي هناك دومًا إمكانية ضرورية لمثل تلك التعثرات. سجّل ديريدا بصدد هذه الخاصية أن التقليد الفلسفي ظلّ دومًا يتعامل مع مسألة الكتابة على أنّها عنصر تشويش؛ لذلك ليس بغريب أن يبحث أوستن بدوره عن هذه المشوشات التي تعوق إفادة الانجاز لتفاديها بالنسبة لدلالية أفعال الكلام.
ليس التشويش بظاهرة غريبة عن اللغة، بل هي من صميم اللغة، لذلك لا جدوى من البحث عن نقاوة الانجاز، لأنه لا يوجد هنالك تلفظ إنجازي يخلو من عناصر التشويش، بحيث تبقى التلفظات الانجازية كلها معرضة لما يسميه ديريدا بقابلية التكرار «L’itérabilité» الذي يجعلها مرتبكة ومفتتة وقابلة للتغاير والاختلاف. ولهذا السبب تحديدًا، ينبغي، بحسب الموقف الجديد لديريدا، أن يؤخذ الانجاز داخل نسيج الاختلاف وليس داخل المطابقة التي تبتغيها تصوراته اللسانية، ذلك النسيج الذي يجعل مقاصد ونوايا الكلام والمتكلمين مستبعدة وغير ذات شأن أو بال في ما يخص تحليل الخطاب.
انطلاقًا من هذه المقاربة الجديدة للخطاب، لا يتوانى ديريدا نفسه عن استعمال أو الحديث عن الأداء في بعض المواقع لديه في كتاباته الفلسفية، لكن في سياق مختلف تماما لذلك الذي وضعه فيه أوستن. ففي عمله حول «L’autobiographies»، حين يحلل الإعلان الأمريكي الشهير لاستقلال الولايات المتحدة الأمريكية نجده يقف مطولّا عند مقولة الإنجاز. كما ظهر لديه أيضًا في إطار تصوير مفاجئ له يعتبر فيه فعل الوعد، وهو فعل كلام بالنسبة لأوستن، تلفظًا تقريريًا محمولاً على حدث غير تقريري، وذلك في مقال له بعنوان7: «Le monolinguisme de l’autre»، عندما اعتبر فيه صيغة الوعد ليست انجازًا لفعل الكلام في شيء مادامت صيغته متضمنة في كل الأساليب الإنشائية الأخرى.
أمّا يمكن استخلاصه من اعتراض ديريدا على مقولة الانجاز «Performatif» هذه، فهو رفضه الشديد لمنطق تداولية اللغّة القائلة بشفافية الكلام ومركزية الصوت في التواصل. تشكّل هذه المقولة أجلى تجليات استحكام ميتافيزيقا الحضور التي تمجّد الكلام في صورته الشفويّة. أفرز هذا الاحتقار للكتابة إقصاء واحتقارًا للكتابة، فغدت ثانوية مقارنة بالصوت والكلام وأصبحت ملحقة مكمّلة للصوت تعلب دورًا هامشيًا من حيث أنّ الكلام حضور اتصالي للحدث وللمتكلّم والسامع والقصد معًا. لازم هذا الاقصاء للكتابة تاريخ الثقافة الغربية منذ سقراط (في محاورة فيدر) مرورًا بروسو (في أصل اللغات) وانتهاء بـ"دوسوسير" (في أبحاثه حول اللغة واللسانيات)، ولم يفعل أوستين وسورل في نظريتهما لإنجاز الأفعال بالأقوال غير استعادته وتعزيزه أكثر فأكثر.
خلافًا للتصوّرات التمثّلية والميتافيزيقية التي تصدر عنها مركزية الكلام، تَعْتبر الممارسة التفكيكية الكتابة أصلاً للغة وليس الكلام كما يزعم التقليد اللساني عادة. لقد كانت الكتابة منذ البدء حسب ديريدا ولم يكن الكلام كما تزعم النظرية الكلاسيكية للغة. هذا ما كشفت عنه تصريحات هذا الأخير في مؤلفه حول "النحويات" حين قال8: "إنّ اشتقاق الكتابة المزعوم من الكلام، مهما كان حقيقيا، لم يكن ممكنًا إلاّ بشرط أساسي هو: أنّ اللغة الأصلية الطبيعية... لم توجد بتاتًا أو قل لم تمسّها الكتابة ولم تلمسها، وإنّما كانت على الدوام كتابة في حد ذاتها... فهي الكتابة الأم، تلك التي نريد أن نبيّن ضرورتها هنا ونحدّد مفهومها الجديد، والتي نستمر في إطلاق اسم الكتابة عليها لأنّها تتّصل أساسًا بالمفهوم البسيط للكتابة. إنّ هذا المفهوم البسيط لم يتسنّ له أن يفرض نفسه تاريخيًا إلاّ بإخفاء الكتابة الأم، وبالرغبة في كلام يقصي كلامًا غيره، أي يقصي نظيره، ويعمل على تقليص اختلافه."
يكشف ديريدا في هذا التصريح عن الدعوى الفلسفية المؤسّس لموقفه ككل من مركزية الكلام، تزعم هذه الدعوى منظورًا جديدًا لبحث مسألة اللغة وذلك انطلاقًا من اعتبار الكتابة أصل اللغة حتى قبل أن تتحقّق في الخطاب الشفهي. وبهذه الدعوى يقلب المنظور الفلاسفة التقليديين القائل بأولوية الصوت والكلمة الشفهية على العلامة المكتوبة، ومن ثم تغدو الكتابة على غير مألوف التصوّر التقليدي ذات أولوية في كلّ تأويل وقراءة وتفكيك. فهي لم تعد طفيلية ولا قشرة أو غلافًا ولباسًا للكلام، بل أصله ومفصله. لقد استدعى منه إثبات أولوية الكتابة أن يسلك مسلكًا مختلفًا، بأن أقام أنموذجًا فلسفيًا جديدًا ومختلفًا كلية عمّا سبقه ينطلق من اعتبار اللغة خطابًا مكتوبًا وليس شفهيًا كلاميًا، كما زعم الموقف التمثّلي التقليدي للغة. وهذا ما نهض بالقيام به علم الكتابة الذي أسّس له في كتاب "النحويات"9.
لم تعد الكتابة في هذا الأفق الجديد الذي وضعها فيه ديريدا ظاهرة ثانوية مقارنة بالكلام، كما أنّها ليس مجرد نسخًا للخطاب الشفهي أو صورًا تمثيلية له، ولا هي ترجمة للأصوات وكفى؛ بل هي لغة مكتوبة تسبق الكلام نفسه، من حيث كونها أشكالاً وحروفًا مكتوبة ترتسم فيها الآثار ويحضر فيها الاخـتـلاف. الكتابة بهذا المعنى إذًا تتجاوز ما نفهمه من اللغة عادة، إنّها تعني في استخدامها الجديد: العلامة وما وراءها، الدال وما وراء، الفكر والتفكير، الوعي واللاوعي، الحضور والغياب. إنّها ظاهرة أوسع من أن يحيط بها مفهوم معيّن، وبالتالي تتجاوز النسق التصوري الكلاسيكي الذي أسّس من خلاله دوسوسير لازدواجية العلامة اللسانية (دال/مدلول).
إنّ اللغة من حيث هي كتابة تعتبر لعبة أكثر منها دلالات ومعاني محدّدة يتم تداولها أو نقلها والتعبير عنها. لذلك ليس في الكتابة حضورًا مسبقًا للمعنى ولا إبلاغًا عنه، بل على خلاف ذلك تعني خلق دائم لهذا المعنى عبر صياغته المستمرة حين إيداعه الحروف والنقوش والرسوم على سطوح معيّنة، ليبقى بذلك قابلاً للإيصال الدائم إلى ما لا نهاية. انطلاقًا من هذا التعويم الفلسفي للغة، باعتبارها كتابة، ينتقل بنا ديريدا إلى القول بوجود الاختلافات بين المعاني والدلالات إلى حدّ تعذر المعنى داخل النص والخطاب الواحد. أمّا السبب في هذه الاستحالة للمعنى القار الثابت، فيعود إلى خلخلة التصور الدلالي اللساني الكلاسيكي للعلامة اللسانية كما صاغه عالم اللسانيات دوسوسير، وذلك لغرض رفض أسبقية الكلام على الكتابة التي يقوم عليها التصور اللساني.
أمّا أوّل ما تقوّضه هذه الخلخلة النقدية، فهو الادعاء القائل بالوظيفة التعبيرية التواصلية الحصرية للغة، حيث أصبح مثل هذا الزعم مجرد فرض مسبق لا يقدر على الصمود عند تفكيك التصور اللساني للعلامة اللغوية، كما أسّس له دوسوسير. فلمّا انتفى عن الكتابة، كما تصورها ديريدا، مثل هذا التمثل الحضوري من خلال تأكيده على أنها ليست استحضارًا لمعنى سابق؛ أصبح الطريق أمامه مشرعًا للقول بعكس ما تقول به النماذج الدلالية التأويلية اللسانية والمنطقية الأخرى. لذا لم يجد صاحبنا بدًا من أن يصوب تفكيكياته تجاه المنهجيات الدلالية التي ترى عكس ما يقوله.
إنّ الكتابة هنا ليست ردّ فعل على هيمنة مركزية الصوت في التقليد الفكري الغربي، وإنّما هي استراتيجية نقدية لتفكيك ميتافيزيقا الحضور القاضية باعتبار اللغة مقولات وقوالب للتفكير العقلي. وبالتالي يستتبع تقويض مركزية الصوت أو الكلام مباشرة تقويض مركزية اللوغوس أيضًا، من حيث كونه مفهومًا ميتافيزيقيا محمّلاً بالدلالات والإشارات العقلية والتمثّلية المشبعة بميتافيزيقا الحضور. لا يمكن للكتابة هنا أن تكون مفهومًا ولا موضوعًا لممارسة منهجية محدّدة، إنّها لا يمكن أن تعرف كموضوع للدراسة المنهجية، وبالتالي فـ"النحويات" (De la grammatologie) أم علم الكتابة لن يكون علمًا إطلاقًا بالمعنى التقليدي الذي نعرف به العلم. ولكن خلافًا لذلك، الكتابة هنا لعبة تدمير إمكان قيام أي نسق تصوّري للدال والمدلول للعلامات، إنّها لعبة تأويل لانهائي للعلامة حدّ تقويضها وخلخلتها10.
إذًا ليست الكتاب لدى ديريدا حضورًا مسبقًا للمعنى، بل هي معرفة أنّ ما لم ينتج من علامات ليس له مأوى آخر غير الحرف. وبالتالي على المعنى المزعوم فيما يُقال أو يُكتب أن يخلخل وقوّض بالتفكيك حتى يصبح ما يكون باختلافه. الكتابة هنا ليست مأوى الصوت أو جسدًا له، بل هي مجرّد رسم في سطح يخلق المعنى بإيداعه في نقش نسعى إلى أن يكون قابلاً للإيصال إلى ما لا نهاية. في مقابل هذه الاستراتيجية التفكيكية تغدو فكرة أفعال الكلام القائمة على أطروحة التكرار (Irratibilité) القائلة بأن معاودة إشارة ما أو علامة وترددها لا ينال من هويتها، إنّما يميل إلى تقوية معناها وزيد من تماسكها الدلالي. غير أنّ ديريدا ما فتئ يفكّك قابلية التكرار هذه وينقد عبرها نظرية أفعال الكلام لأوستن11.
ختمًا للكلام حول هذا الموضوع يمكن القول بأنّ التفكيك، كما مارسه ديريدا يؤكّد أنّ قابلية معاودة الإشارة التي تقوم عليها فكرة أفعال الكلام، إنّما يفضى بالنهاية إلى تقويض هذه النظرية وتفكيك مكزية الكلام من خلالها، وذلك لتنافر السياقات ووجود تغييرات مختلفة في السياق الخطابي الواحد. يلاحظ ديريدا بهذا الخصوص أنّ نظرية أوستن ترتكز في كلّيتها على مقاصد المتكلّم الحاضرة في كلامه، لكن مقاصد المتكلّم تلك لا تكون دوما حاضرة وشفافة إلا إذا افترضنا السياق كليًا ومحدّدًا بشكل شامل، وذلك مستحيل في إطار لعبة الدلالة واستحالة المعنى الواحد12. نتيجة لذلك، يردّ ديريدا نظرية أوستن إلى التقليد الميتافيزيق الغربي القائم على ميتافيزيقا حضور المعنى، الأنا، القصد في الكلام، ومن ثم فهي نظريّة تعبر عن تجريدات وهمية لا غير. يفكك ديريدا مفاهيم هذه بصفة عامّة حوار متخيّل مع جريدة "لوموند" الفرنسية، أكّد فيه استحالة وجود سياق شفاف وأنّه لا يوجد هناك ما يضمن انغلاق مضمون السياق13.
المراجع:
1- Théorie des actes de langage
2- Phonocentrisme
3- Austin. J: Quand dire c’est faire, tr Gilles Laure. éd du Seuil, Paris, 1970
4 - هذه هي فكرة أوستن تماما بشأن دور الكلام الأدائي في إحداث تأثيرات وأفعال سلوكية وطقوسية تتجاوز مسألة الإخبار بحقائق أو أكاذيب معيّنة كما رأينا سابقا. فبناءً على ذلك تؤدّي اللغة دورها في أن تنتج تأثيرات سلوكية وليس تعبيرية فقط. ويعتمد معنى الإنجاز هنا على السياق، حيث يكون التلفظ بعبارة: “أعلنكما زوجاً وزوجة” مثلا في نهاية مراسم الزفاف، غير أنّ معناها وتأثيرها يعتمد على توافر شروط مُعينة. فإذا تم النطق بنفس الكلمات في مسرحية أو على شاشة السينما، فسوف يختلف فهم المعنى قليلاً، وهذا ما يوحي بأن المعنى ليس أسيرًا لمجموعة من الرموز والعلامات والأصوات بشكل صارم ودائم؛ بل يعتمد أساسا تأثير الكلام الوظيفي من خلال السياق الذي يُقال فيه.
5- Derrida. J: Marges de la philosophie. Paris, éd Minuit, 1972. P 369
6 - Derrida. J: L’écriture et la différence; éd Seuil, collection tel quel, paris 1967
7 - Derrida. J: Le monolinguisme de l’autre; éd Galilée, paris, 1996
8 - Derrida. J: De la grammatologie; éd minuit, Paris 1967, pp 82-83.
9 - La grammatologie
10 - سيلفان أورو، جاك ديشان، جمال كولوغلي: فلسفة اللغة، ترجمة: بسام بركة، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسة الوحدة العربية، الطبعة الأولى، سنة 2012. بيروت/لبنان. ص 132.
11- Derrida. J: Signature, événement, contexte ; in lecture, communication: congrès international des société de philosophie de langue française. Montréal, August 1971. Cité dans: Marges de la philosophie; Paris, éd Minuit, 1972. P 369
12- Dekens. O: Derrida pas à pas; ellipses, éd marketing, 2008, p64.
13 - جاك دريدا: الكتابة والاختلاف، ترجمة كاظم جهاد، الطبعة الثانية، دار توبقال للنشر، المغرب، سنة 2000، ص 71.
تغريد
اكتب تعليقك