سنوك هورجرونيه في مكة المكرمة .. في خدمة إدارة المستعمرات الهولندية!!الباب: مقالات الكتاب
عرفه عبده علي كاتب ومؤرخ - مصر |
فـي الندوة الدولية التي أقامها "معهـد العالـم العربـي" في باريـس خلال شهـر نوفمبر 2003 عن "الرحالة المستشرقون"، قدم أ.د. "عبد الله المدني" تحليلاً لشخصية الرحالة المستشرق الهولندي: " كريستيان سنوك هورجرونيه - C. Snouck Hurgronie "، والتداعيات التي أتت به إلى الحجاز، وتباين الآراء بشأنه، هل كان اعتناقه للإسلام حقيقيًا أم مجرد "قنـاع" لدخول مكة المكرمة والمدينـة المنورة، وهل كان ذلك من أجل البحث والدراسة ولوجه العلم فحسب أم كان "جاسوسًا" يعمل لحساب السفارة الهولندية ؟!
كان الاستشراق جزءًا من تراث الدول الاستعمارية، والرحالة المستشرقـون أدوا أعظـم الخدمات لدولهم، وكان هورجرونيه واحدًا من أبرز هؤلاء.
ولـد د. هورجرونيه في "دوسترهوت - Dusterhout" الواقعة في الشمال الشرقي من مدينة "بريدا - Breda" بهولندا عام 1857، كان والده راهبًا، فنذر ابنه لدراسة اللاهوت، وألحقه بجامعة "ليدن" في يونيو عام 1874 ليدرس اللاهوت، واجتاز اختبار الكانديرات في الفيلولوجيا الكلاسيكية (اليونانية واللاتينية) في مايو 1876، و خلال دراسته الجامعية، عنى بدراسة اللغات السامية وآدابها، خاصة اللغة العربية التي قادته لدراسة الحضارة الإسلامية، وفي سبتمبر 1878، اجتاز اختبار الكانديرات في الفيلولوجيا السامية.
في عام 1880، حصل على درجة الدكتوراه!، و كان عنوان رسالته "الحج عند المسلمين وأهميته في الدين الإسلامي" وانتهى من رسالته إلى القول بــأن "الحج الإسلامي هو بقية من بقايا الوثنية العربية"!!، وفي عام 1881، سافر إلى المستشرق الألماني "نولدكه" في ستراسبورج، وكان له حوار دائـم من خلال مراسلاته مع "جولدتسيهر"، وفي العام التالي، عين محاضرًا في الشئون الإسلاميـة بـ "إعـداد وتدريب موظفي الخدمة في جزر الهند الشرقية" بمقـره في لندن.
وكتب المؤرخ "رالـي - Ralli" أن هورجرونيه بعد أن حصل على درجة الدكتوراه "كان يطمح إلى الرحيل لجزيرة العرب، ليتعرف على حياة المسلمين وحقيقة الدين الإسلامي، وكان يهدف إلى دراسة أثر الإسلام في الحياة السياسية والاجتماعية في مجتمع لا يعرف الأوروبيون عنه إلا قليلاً، متهمًا المستشرقين في قصر نظرهم باعتمادهم في تحصيل معلوماتهم على ما ينقلونه من الكتب، وهو ما دعاه إلى السفر والإقامة في مركز الإسلام الروحي"!
تـم ترتيب رحلة د. هورجرونيه إلى مكة، من خلال منحة دراسية من جامعة ليدن سنة 1884، ولقد أعدت ترتيبات الرحلة بالتنسيق مع القنصلية الهولندية بجده، فسافر بحرًا برفقة القنصل العام لهولندا إلى جدة، وأقام لمدة خمسة أشهر بالقنصلية الهولندية بجدة، تعلم خلالها اللهجة المحلية الدارجة، بالإضافة إلى إتقانه اللغة العربية إبان دراسته الجامعية وفترة إعداد رسالته للدكتوراه.
ويــرى "السامرائي" من خلال اطلاعه على المذكرات التي كتبها سنوك بخط يده، والموجودة في مكتبة جامعة ليدن بدفتر مذكراته، أن سنوك أشهر إسلامه رسميًا أمام القاضي، وبشهادة شاهدين لهما صفة رسمية، و قد بلغ هذان الشاهدان الوالي العثماني بذلك، وفي اليوم التالي مباشرة جاء القاضي مع ترجمان الوالي وآخرين لتهنئة سنوك نيابة عن الوالي. و الشيء الذي يسترعي الانتباه أن سنوك لم يعلن ارتداده عن الإسلام بعد خروجه من مكة، وقد استمر بادعاء الإسلام في أثناء وجوده في اندونيسيا، ولمدة سبعة عشر عامًا، وقد تزوج أمرأه مسلمة في إندونيسيا أنجبت منه عددًا من الأولاد!
وبالرغــم من أن بعض المصادر تؤكد أن - سنوك هورجرونيه - قد مات مسلمًا! .. إلا أن د. "عبدالله المدنـي" يشكك في ذلك، بدليل أنه عندما غادر مكة المكرمة، قام بتغيير اسمه إلى الهولندية مرة أخرى، ويؤكد أنه جاء من أجل التجسس بالفعل. لأن هولندا كانت تستعمر جزر اندونيسيا في تلك الفترة، وكانت السلطات الهولندية تخشى من موسم الحج و توافد الحجاج الإندونيسيين، وتزايد الشك في أنه كان يعمل جاسوسًا لحساب بلاده عندما عين في منصب - مدير مكتب البحوث للشئون المحلية بالسفارة الهولندية بالحجاز - و قام بتغيير الحروف العربية المستخدمة في مكاتبات السفارة إلى اللاتينية!، ويضيف د. المدني: "أنا لا أعتقد أن هروجرونيه اعتنق الإسلام، ولكن أقر أنه كان محبًا للإسلام"!
آثـاره العلمية:
ترك الرحالة المستشترق هـورجرونيـه عـددًا من المـؤلفـات العلميـة، من أبرزهـا:
(1) "الحـج عند المسلمين وأهميته في الدين الإسلامي" باللغة الهولندية، وهو رسالته لنيل درجة الدكتوراه من جامعة ليدن، سنة 1880م.
(2) "مكــة" باللغة الألمانية، في مجلـديـن:
- الجزء الأول بعنوان "مدينة مكة وأشرافهـا" 228 ص، ظهر في مدينة "دن هاخ" بلاهاي 1888، و يتضمن دراسات تفصيلية عن: جغرافية مكة وطبوغرافيتها، مكة في العهد الإسلامي الأول تحدث فيه عن انتشار الإسلام وحكومة النبي والخلفاء الراشدين والنظم الإسلامية في النواحي الإدارية والاقتصادية والاجتماعية ونشأة العلوم الإسلامية، أهم الأحداث التاريخية بمكة منذ القرن الثالث عشر الميلادي حتى القرن الثامن عشر ثم تاريخ مفصل لمكة خلال القرن التاسع عشر.
- الجز الثاني بعنوان "من الحياة المعاصرة" 397 ص، ظهر في مدينــة "دن هـاخ" بلاهاي 1889، ويتضمن دراسات عن الحياة اليومية في مكة، الحياة العائلية وبناء الأسرة، الحياة العلمية، سكان مكة.
(3) "أهل آتشيه - De AtiJehers" في جزئين، ظهرًا في بتافيا 1893 وليدن 1894 وترجم إلى الإنجليزية.
(4) "بلاد الجابو وسكانها" بتافيا سنة 1903م.
(5) "محاضرات عـن الإسلام" ألقاهـا في الولايات المتحدة الأمريكية بدعوة من "اللجنة الأمريكية للمحاضرات المتعلقة بتاريخ الأديان" سنة 1914 - 1915 عرض فيها للإسلام عرضاً شاملاً على النحو التالي: نشأة الإسلام، التطور الدينـي، التطور السياسي للإسلام، الإسلام والفكر الحديث.
(6) مجموعة دراسات وأبحاث نشرت في عدد من الدوريات العلمية، تحت عنوان "كتابات متفرقة لكريستيان سنوك هورجرونه" أشرف على جمعها وفهرستها وإصدارها تلميذه "آرنت جان فنسنك - A.J. Wensinck" والذي خلف هورجرونيه في شغل كرسي الاستاذية بجامعة ليدن سنة 1927، وجمعت فــي ستة مجلدات نشرت في بون و ليدن بين عامي 1923 - 1927 على النحو التالي:
الأول: الإسلام وتـاريخه.
الثاني: الشـريعــة الإسـلامية.
الثالث: الجـزيـرة العربيـة وتركيا.
الرابع: (جزأين): الإسلام في جزر الهند الشرقية.
الخامس: اللغـــة والأدب.
السادس: نقد الكتب، متفرقات، فهارس، مراجـع.
رحلته إلى مكة المكرمة:
وصل هورجرونيه إلى مكة المكرمة في 22 فبراير سنة 1885، ومكث بها حتى شهـر أغسطس من العام نفسه، أقام في حي "سوق الليل" وقد تسمى باسم "عبدالغفار" وصار يختلف إلى مجالس العلماء وشيوخ التعليم، فوطد علاقاته بالكثير من علماء مكة المكرمة، وبعدد من علماء جاوه وسومطره وآتشيه ممن كانوا يقيمون بمكة زاعمًا أنه مسلم صادق هدفه التعرف على جوهر الإسلام ودراسة القرآن الكريم!
وبالرغــم من أنه مكث بمكة ستة أشهـر ونصف الشهر، إلا أنه لم يتمكن من الحج بسبب إبعـاد السلطـات العثمانية له وطرده من المدينة المقدسة! وقد ارتبط خروجه من مكة - بقصة شهيرة - لدى المستشرقين!
لقد أعتقد القنصل الفرنسي "Lostalot" بجدة أن هورجرونيه كان يحاول الحصول على الحجر وإرساله إلى ألمانيا بدلاً من فرنسا، وقد ظهرت في 5 يوليو مقالة في جريدة الزمان الفرنسية (Le Temps) تناولت مقتل هوبر كما تناولت محاولة سرقة الحجر من قبل هورجرونيه، وقد زود القنصل الفرنسي الجريدة بهذه الأخبار، وقد نقلت الخبر جريدة استانبول العثمانية، وفيها ظهر أن هناك هولنديًا تحت اسم عبدالغفار يحاول الحصول على نقوش أثرية، ولهذا أمرت الحكومة العثمانية بإبعاد سنوك من بلاد الحجاز.
وقد أشار هورجرونيه إلى هذه القصة في كتابه الأصلي عن مكة باللغة الألمانية فكتب:
«هي قصة نقش تيماء أو حجر تيماء الذي كان يتنافس عليه ثلاثة من مستشرقين من جنسيات مختلفة (هوبر من فرنسا ويوتنج من ألمانيا وسنوك من هولندا)، وقد قدم هوبر ويوتنج معًا للحصول على الحجر الذي يقدم معطيات جديدة عن وجود دين قديم خاص في منطقة تيماء، وقد أخذ العالمان ملحوظات عن الحجر، ثم قاما بالحصول عليه.
لقد استدعى هورجرونيه من قبل القائم مقام العثماني، وطلبت الدولة إليه مغادرة مكـة حالاً، وقد أعطي بضع ساعات، ليحمل أمتعته، وأرسل مخفورًا بجندييـن من الأتراك على جدة، غادرها بعد ذلك إلى هولندا»!
وقـد أحزنه الرحيل على هـذه الصورة، لكن ما أحزنه أكثر أنه كان على وشـك حضـور "موسـم الحـج" ويرى ويشارك في مناسك الحج الذي كان موضوعًا لرسالتـه، لكن اعتمادًا على الكتب والمخطوطات وكتابات الرحالة!!
في خدمة إدارة المستعمرات الهولندية:
عاد د. هورجرونيه إلى هولندا، واستأنف نشاطه في ليون في مجـال التدريـس بمدينة "دلفت - Delft" في معهد مماثل لمعهد لندن، خاص بتدريب وإعداد الكوادر العاملة في جزر الهند الشرقية.
وفي عام 1889، عين مستشارًا بـإدارة المستعمرات الهولندية "مختصًا بالشئون الإسلامية" وباعتباره خبيرًا في اللغات الشرقية والشريعة الإسلاميـة، ونقـل مستشـارًا للحاكم العام الهولندي في جزر الهند الشرقية (اندونيسيا) ومقـــره "جـاوه" إلى جانب عمله كمستشار للشئون الداخليـة بإقليم "آتشيه - Atijeh" والذي كان - مملكة - لم تتمكن هولندا من إخضاعه بالكامل، بالرغم من سياسة القمع والمجازر، وما زال هذا الإقليم أو هذه المقاطعة تشكل "صداعًا مزمنًا" للحكومة الإندونيسية حتى يومنا هذا! ووضع د. هورجرونيه كتابًا ضخمًا عن "أهـل آتشيـه" في مجلدين عام 1893، وهو الذي وضع قانون الزواج الخاص بجزر الهند الشرقية، وقام بشرح وجهة نظره حول السياسة التي يجب أن تتبناها دولته تجاه المسلمين وكيفية مواجهة ثوراتهم في هذه الجزر.
وقـد أفاد هورجرونيه كثيرًا من رحلات العمل التي قام بها في قلب شمال جزيرة "سومطرة" حيث درس أحوال بلاد "جـابـو - Gapo" وقدم وصفًا للبلاد والعباد سنة 1903، كما التقى كثير من الحضارمة وأفاد منهم معلومات ضمنها رسالة عن "حضر موت".. وفي عام 1906، عاد د. هورجرونيه إلى هولندا وتابع مهمته كمستشار للحكومة الهولندية ومشرفًا على تدريب الدبلوماسيين الذين سيعملون بالبلاد الإسلامية، إلى جانب عمله استاذًا للدراسات الإسلامية بجامعة ليدن حتى عام 1927 وخلفه تلميذه المستشرق د. فنسنك (1882 - 1939).
ظل د. هورجرونيه على نشاطه العلمي الدؤوب، و نشر عدة دراسات بمجلة جمعية المستشرقين الألمان الشهيرة ZDMG تناولت مشكلات الإسلام المعاصر، الخلفية التاريخية والحضارية لكتب الفقه العربية، الفتاوي والقواعد الشرعية المثلى ومدى اتفاقها مع القانون العرفي النابع من العادات والتقاليد المتوارثة .. وتوفي في 26 يونيو سنة 1936 بعد حياة حافلة!
وتجدر الإشارة إلى ما سجله رالي: "ليس من الواضح لدينا، كيف دخل سنوك إلى مكة، هل قدم نفسه للوسط المكي على أنه أوروبي اعتنق الإسلام؟ أو أنه أخفى حقيقة كونه أوروبيًا واعتبر نفسه من جاوه أتى طلبًا للعلم"؟
ويـرى د. "قاسم السامرائي" أن ترتيبات زيارة سنوك كان قد أعد لها خلال مؤتمر المستشرقين الذين عقد بليدن سنة 1883م، وحضره أحد علماء المسجد النبوي "أمين المدني الحلواني" الذي يرى السامرائي أنه كانت تربطه علاقة مع سنوك الذي ترجم له بعض المقالات التي دونها الشيخ عن انطباعاته حول مؤتمر المستشرقين، ويرى السامرائي أن سنوك لم يدخل متنكرًا، بل دخل عالمًا مسلمًا هولنديًا، لتلقي العلم و تأدية فريضة الحج، لأن ما عمله سنوك في أثناء وجوده في جدة يدل دلالة واضحة على اعتناقه الإسلام - ظاهرًا على الأقل - وينفي السامرائي مزاعم أحد المستشرقين الذين ذكروا أن الطريق إلى مكة قد فتحت لسنوك هورخرونيه نتيجة العلاقات التي كانت تربط القنصل الهولندي، ووكيل النقل البحري الهولندي مع المطوفين، وقد استغلها القنصل في دعوة بعض علماء مكة للحضور إلى جدة، لأن متعلمًا هولنديًا شابًا درس الإسلام يود مقابلتهم، وقد حدث اللقاء بالفعل، وفي هذا اللقاء جرى الحديث حول بعض الموضوعات الدينية، وقد أعطي المجال لسنوك ليتحدث عن نفسه وكتبه، وبعد أن تعرفـوا على وجهة نظره في الإسلام أعلن الزوار المكيون: أننا نشعر أنك واحد منا!
دراسة تفصيلية: لأحوال البلد الأمين!
يقـول د. معراج مرزا ود. محمود السرياني في تقديم كتاب "مكة" للمستشرق هورجرونيه:
«لقد أثار كتاب مكة اهتمامًا كبيرًا في دوائر الاستشراق في العالم الغربي، فكتب في تقريظه الكثير من علماء الاستشراق، بوصفه الكتاب الوحيد الذي اعتمد فيه المؤلف على السماع المباشر من أفواه الناس والمشاهدة الحية. فلم يكن الكتاب كغيره من كتب الرحالة الذي وجدوا في مكة لبضعة أيام خلال موسم الحج، فدونوا ملحوظات عابرة وسطحية، اعتمدوا في أكثرها على ما هو موجود في بطون الكتب، فجاءت هشة ينقصها العمــق.
وإزاء الشهرة التي ذاع صيتها لهذا المؤلف القيم، قام قنصل بريطانيا في جدة المستر هـ . موناهان Monahan بترجمة الجزء الثاني من الكتاب، والمتعلق بالحياة الاجتماعية للمدينة المقدسة إلى اللغة الإنجليزية، وظهر بعنوان (مكة في نهاية القرن التاسع عشر)، وقد طبعة الترجمة أول مرة في عام 1931م (1350 هـ) في مدينة ليدن، ولقد نالت الترجمة شهرة واسعة في أوائل القرن العشرين بين قراءة الإنجليزية، مماثلة للشهرة التي نالها الكتاب بالألمانية عند صدوره، واعتمد عليها أكثر من كتب عن تاريخ مكة في العصر الحديث».
لقـد جـاء الكتاب بجزأيه سفرًا كبيرًا يلقي الضوء على تاريخ مكـة المكرمـة وعلى أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والسكانية. يقول سنـوك: «إن نشر التفاصيل الكاملة عن تلك الرحلة التي أكملت بعد صبر طويل، لهو هدف بعيد يحول دون تحقيقه كثرة المراجع المتوفرة، وجهد المؤلف المحدود في استيفاء مثل هذه الدراسات فأهمية مكة التي ولد فيه الإسلام كمركز روحي، وكونها هدف الحج للمسلمين عبر الأزمان، تجعل من المستحيل على المرء قراءة الآلاف العديدة من الإنتاج الأدبي العربي الذي سطر حول هذه المدينة، وتجعل المرء يلجأ إلى ما لجأت إليه من الاكتفاء بالنظرة العامة، دون الدخول في التفاصيل، مع إضافة أشياء كثيرة تتناسب مع تشخيصنا للأمور، وخاصة مما تحويه كتب التاريخ والسير ووصف الرحلات، وآمل ألا أكون أغفلت أشياء أساسية حول الموضوع، كما آمل أن يحصل القاريء على صورة متكاملة وحقيقية عن ذلك المجتمع، خاصة وأنه قد سمح لي أن أقيم بين المكيين ما يزيد عن ستة أشهر، وأن أعيش معهم كفرد منهم، وأن أكون في موضع يسهل معه جمع الكثير من التقارير عن الماضي، مما مكنني من الكتابة بصورة أفضل من الكتابة من خلال غرفة الدراسة»!
«إن النتيجة الرئيسية لرحلتي لم تكن إنتاج هذا الكتاب (مكة) فحسب، بل كان لإقامتي في المركز الروحي لعالم الإسلام أثره المستمر في دراساتي المستقبلية عن الإسلام. لقد كان الدافع لرغبتي في العيش لبعض الوقت في العالم الإسلامي، هو ذلك الشعور الحيوي بالحاجة للعيش كليًا ولو لبعض الوقت في هذه البلاد، لأنه بالنسبة لأي مستشرق في أوروبا يدرس اللغات ستكون تصوراته عن الحياة الفكرية والاجتماعية للشرقيين مليئة بالفجوات ما دام سيستخدم الكتب فقط كشاهد عيان لتلك البلاد ومما يشرح الصدر بأن المهتمين في موضوع الاستشراق - كما هو الحال في باريس وبرلين - قد بدؤوا يؤسسون مدارس للاستشراق بمساعدة معلمين شرقيين: لسد الفجوات في هذا المضمـار».
ثم وصف بيوت مكة، بنائها وتخطيطها ومحتواها بشكل مفصل، ونظام إيجار البيوت. وتحدث عن التقويم الإسلامي القائم على دورة القمر. كما تحدث عن الحياة الاجتماعية عقب موسم الحج، وأشار إلي قلة أسفار أهل مكة، وبالتالي كانت "معلوماتهم عن الأوروبيين لا تتجاوز ما تلقوه عن أمهاتهم"!، وعرض لوصف مظاهر الحياة في بعض أشهر السنة، كشهور المحرم وصفـر وربيع الأول، وما يتخللها من الاحتفالات مثل عودة قافلة المدينة المنورة، ووصف الاحتفاليات الخاصـة مثل: ذكرى وفاة عبدالله بن عمر رضي الله عنه بمحلة الشهداء، ومولد النبي، وموالد "بشكات" الشيخ محمود بمحلة جرول - مخصص فقط للنساء! - والشيخ المهدلي والسيدتين آمنة وخديجة، والطريقة السنوسية، وذكرى الإسراء والمعراج، ويقول في الاحتفال بالسيدة ميمونة "إن الشباب من أهل مكة يأتون هنا لأغراض مختلفة تمامًا، فهم يأتون للاستمتاع بهواء الصحراء، ولإرضاء بعض رغباتهـم، وهم بعد تناول الطعام من "المبشـور" و"السلات" وهما من الأكلات المفضلة لأهل مكة، يتجمعون بالقرب من القبر لسرد القصص و الحكايات وإنشاد بعض الأغاني وقد يستخدمون بعض الآلات الموسيقية"!
واسترسـل د. هورجرونيه بذكر عادات أهل مكة، وفصل الحديث عن الزيارة الرجبية للمدينة المنورة، وعن أجواء وطقوس شهر رمضان في مكة، والاحتفال بالعيدين وما يجري من تبادل للزيارات فيهما ومظاهر البهجة العامة خلال ثلاثة أيام.
ويشير هورجرونيه إلى كثيـر من مظاهر الحياة الأسرية في مكة، كالاحتفالات في مناسبات الزواج، والختـان، وختم القرآن الكريم، والعودة من زيـارة ضريـح النبي بالمدينـة المنـورة، ولم يفته الإشارة إلى أن بعض مظاهر هذا الاحتفال الأخير يخالف الشريعــة، فمن يدخل مكة يجب أن يدخلها بسكينة ووقار وبملابس الإحرام، وليس في مظاهرة على قرع الطبول والإنشاد، وأضاف: "في عهد الخلفاء الراشدين لم تكن هذه الترهات موجودة، ولم يكن الناس يبنون بيوتهم أعلى من الكعبة"!
ويعد حديثه عن "التعليـم في مكة" من أغزر وأصقل ما كتب المستشـرقون، فقد تناول قضايا علمية يرتكز إدراكها على عمق الفكر والمعرفة الواسعة بأصول المعارف والعلوم عند المسلمين، وقال عن علوم العرب في عصر الجاهلية: "قبل الإسلام كان الشعراء هم أهل المعرفة إلى جانب بعض فروع المعرفة مثل السحر والكهانة والتطبيب" أما في العصر الإسلامي فقد أشار إلي أن دعوة النبي لم تقتصر على نشر العقيدة الإسلامية، بل تجاوزتها إلى وضع الأسس الأولى للعلوم عند العرب، كما تحدث عن ظهور المدارس الفكرية التي نشأت عن تجدد الآراء والأفكار حول تفسير القرآن الكريم والأحاديث النبوية وما يعرف بعلم أصول الفقه وانتهاء تلك المدارس إلى المذاهب الفقهية الأربعة المعروفة.
وتحدث عن اهتمام البعض باقتناء الكتب، والحرص عليها لندرتها، ومن الكتب التي يهتم بها المكيون: شرح إحياء علوم الدين للغزالي وسيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد وكتب الأدب مثل: العقد الفريد ومقامات الحريري، بالإضافة إلى كتب التاريخ والعقيدة ومؤلفات مؤسسي الطرق الصوفية وسير الأولياء، وأشار إلى كتاب: تاريخ الفتوحات الإسلامية "طبع أثناء إقامتي في مكة في المطبعة الحكومية" ثم أفاض الحديث عن تعليم الخط العربي، وتحفيظ القرآن وفن تلاوته، وتحدث عن المصدر المعيشي لطالب العلم، وتطور العلوم الشرعية في القرون الخمسة الأولى، وأشار إلى ظهور المدارس كمؤسسات تعليمية في عالم الإسلام.
ثـم يخلـص إلى الحديث عن "الحــرم الشريـف" أقدم جامعات مكة، الــذي يتلقى مدرسوه الدعم المالي من مصادر مختلفة.
وكم كان محقًا د. هورجرونيه عندما وصف مكة بأنها مركز للعلـم والثقافة، "وفي كل قرن من القرون، يظهر في مدينة مكة عدد من رجال العلم والثقافة، ولمئات السنين، تميزت بكونها مركز ممتاز للدراسات الشرعية الفقهية، ولقد تهيأت في الوقت الحاضر، أسباب عديدة جعلت من المدينة المقدسة مركزًا فريدًا للعلم والمعرفة لجميع بقاع العالم الإسلامي".
مراجع ومصادر:
(1) Bidwell, Robin : Travellers in Arabia, Garnet Publishing Limited, Berkshire, 1994.
(2) Burton, R. : Personal Narrative of a Pilgrimage to El Madinah and Meccah, 2 vol, London , 1907.
(3) Hurgronje, C.S.: Mekka in the latter Part of the 19 th Century, Daily life, Customs and learning, trans. By J.H. Monahan, London and leiden, 1931.
(4) Rutter, E.: The Holy Cities of Arabia, London, New York, 1930 - 2. First Publ. 1928.
(5) حمد الجاسر: رحالة غربيون في بلادنا، دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، 1417 هـ.
(6) الرحلات إلي شبه الجزيرة العربية، بحوث ندوة الرحلات إلى شبه الجزيرة العربية المنعقدة في الرياض من 24 - 27 رجب 1421 هـ/21 - 24 أكتوبر 2000 - جزءان، إصدارات دارة الملك عبدالعزيز (133) الرياض 1424 هـ.
(7) هورجرونيه، سنوك: صفحات من تاريخ مكة المكرمة في نهاية القرن الثالث عشر الهجري، تعريب: محمد السرياني، معراج مرزا، منشورات نادي مكة الثقافي الأدبي، 1411 هـ.
تغريد
اكتب تعليقك