ما بعد الحداثة – الحداثة البعدية الإزاحة والإبدالالباب: مقالات الكتاب
عباس عبد جاسم ناقد وكاتب من العراق |
قبل إزاحة مصطلح "ما بعد الحداثة" وإبداله بمصطلح "الحداثة البعدية"، لابد من فك الالتباس بين الـ(بعد) كفاصلة زمنية وتاريخية أولاً، وفك الالتباس أيضًا بين "ما بعد الحداثية – post modernism " كـ "ظاهرة ثقافية" و "ما بعد الحداثة – post modemisdm" كـ "عملية جغرافية سياسية عالمية"(1).
وبذا نحن إزاء مقاربة اختلافية للبنيات التحتانية التي تشكّلت منها "ما بعد الحداثة" في سياقها الانقلابي على "الحداثة" بصيغة الإزاحة والإبدال.
من هذا المنطلق؛ تتبنّى هذه المقاربة فكرة "الحداثة البعدية" بوصفها صيرورة دينامية متحّركة بحيوات متجدّدة مستوعبة لأية حداثة من الحداثات القادمة، ومتقدّمة عليها في آن من جهة، وتسعى إلى إبدال مصطلح "ما بعد الحداثة" في التداول النقدي والثقافي بصيغة النفي القائم بالإثبات.
لهذا اختارت هذه المقاربة أن تتحرّك في فضاء اختلافي تتقاطع فيه قوانين تطور حركة البعديات المعرفية المتحّولة من دون ترقين حدودها الزمنية والتاريخية بمراحل معينة أو تأطير حدودها الجغرافية والسياسية بحدود معينة، لأن "الحداثة البعدية" تتحرّك بدينامية التحوّل الذي يجلب التغيير بقوة العابر والمختلف والمتجاوز باستمرار، لأنها "حالة ولادة دائمة"(2) تتجاوز عبثية كل تحقيب زمني وتاريخي.
إذن؛ كيف شكّلت الحداثة البعدية ما يسمى بـ "الثورة اللاثورة" داخل الرأسمالية؟(3) وكيف حرّرت الحداثة البعدية – (الحداثة) من "إيديولوجية" الحداثة نفسها؟(4) وكيف واجهت الحداثة البعدية – النزعة الاستهلاكية في مجتمعات السوق الرأسمالية المتأخرة؟
وقبل ذلك، ما نهاية الحداثة بالمعنى" الكارثي"؟ أي كارثة نهاية التاريخ أو نهاية التاريخية، وخاصة بعد أن بدأ التاريخ بالخلاص المسيحي، ثم تحوّل نحو تاريخ التقدم، ثم انحلَّ تاريخ التقدم إلى تاريخ تقدّم جديد، حتى تكاثرت مراكز التاريخ، وبضمنها فكرة ما بعد التاريخ – post istria.
وإن كانت "نهاية الحداثة" تشكّل بداية "تحوّل جذري" نحو الـ"ما بعدية"؛ فهل تحمل عدمية – Nihilism نيتشه – Nietzsche، وتجاوز – verwindung الميتافيزيقيا لها عند هيدجر – Heidegger ؛ فكرة ما بعد ميتافيزيقيا الحداثة – العابرة للحداثة؟
قبل معاينة أهم تمثلات النماذج العليا لما بعد الحداثة، ينبغي تأمين نقاط ارتكاز أساسية لأهم مرجعيات ما بعد الحداثة بصيغة الانطلاق منها والعودة إليها بسياق دائري.
أعلنت ليندا هيتشيون – Lind hutcheon وفاة (ما بعد الحداثة) في الطبعة الثانية من كتابها "سياسة ما بعد الحداثية"2002 بقولها: "ماتت وانقضى الأمر"!! ، ولكن هل توقفت دينامية الحداثة؟
وعند تعريف مابعد الحداثة، رأى لويد سبنسر Lioyd spencer: "لم يستقر أي تعريف لما بعد الحداثة، فهي (مزاج) أو(روح العصر) أو (إحساس عام)(5)، غير أن اللا إستقرار في تعريف ما بعد الحداثة نتاج قلق حضاري، وهو قلق إيجابي مشروع.
واصطلح فردريك جيميسون – Fredric Jameson على تسمية ما بعد الحداثة بـ "المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة" 1991، أي الرأسمالية المتعدّدة القوميات، فقد استعارت منطق تناقضات الرأسمالية، واستبدلت مفهوم الفردية الحديثة بالفردية المطلقة، وأطاحت أنوار التنوير، لتتجه نحو إنتاج الجسد واستهلاكه، ومن ثم تتجه وفق فرضية المؤرخ البريطاني كول كامبل في كتابه (الأخلاق الرومانسية وعقل النزعة الاستهلاكية الحديثة)؛ نحو تنمية (مُتعيّة - hedonis) الوهم الذاتي، وهو يتسم برغبة البرهنة على لذّات يخلّفها الوهم في الواقع، وتظل متعتها أيضًا وهمية، تقود هذه الرغبة إلى استهلاك لا ينتهي لكل جديد"(6).
لقد ظهرت النماذج الأولى لما بعد الحداثة في أزمنة وأمكنة وتواريخ متباينة:
في عام 1917، أفزع مارسيل دوشمان marcel Duchanp قاعة العرض الفنية بتقديم "مبولة" للرجال من الخزف الصيني تحت عنوان "نافورة".
وقدّم دو شامب "دراجة فوق كرسي صغير"، وفي معرض تيت في لندن عرض كارل أندريه عمله الطوبيّ لمستطيل الشكل "يساوي 8"، وشيّد المعماري جون بورتمان فندق "ويستن فنتشر" في لوس أنجلوس، وظهرت بناية الاتصالات الأمريكية "إيه آند تي" 1984 للمعماري فيليب جونسون، وأخرج جودار أفلامه "باستخدام الصور المعادية لذاتها"، كما حقّق كتاب "الجنس – Sex"1992 للمغنية مادونا –Madonna صدمة لكثير من أتباع الحركة النسوية، وجاءت "مكنسة هوفر الرباعية الاثناء الجديدة" مثيرة للسخرية والتهكم بالنزعة الاستهلاكية.
أما في السرديات المضادة للسرد التقليدي تكتفي هذه المقاربة بإشارة إيهاب حسن lhab hasan إلى انتقال جيمس جويس James Joyce من (Ulysses) إلى ( (Finnegan’s wake على إنه أحدث مفتاح لتعريف ما بعد الحديث(6).
لقد قدّمت هذه الأعمال تجارب جديدة صادمة للذائقة والوعي، يشكّل فيها الغموض أهم خاصّية من خوّاص ما بعد الحداثة.
وإن كانت نشأة ما بعد الحداثة غير بداياتها في هذه الأعمال الفنية والسردية الخارجة على السائد، والسائرة خارج النسق المألوف، فإنها تُعيد علينا سؤال نشأتها وبداياتها من جديد: متى ظهرت ما بعد الحداثة؟
يقول جان فرانسوا ليوتار Jean francois lyotard: إن ما بعد الحداثة "لا يعطي إشارة إلى إنها وصلت إلى النهاية، بل إلى بداية الحداثة، وهذه مفارقة أولى، وإلا ّ "ما الحداثة الجديدة التي ينبغي مع ذلك أن تبزع من سياسة ما بعد الحداثة"(7).
بدأت ما بعد الحداثة تنتشر مع كتاب شارل جينكس:
The languge of post – modern Architcture 1975.
فقد رأى جينكس – إن ما بعد الحداثة تنشأ حالما تلتقي الحداثة مع التكنولوجيات الجديدة، فينتج خليط من الأساليب ومعه إحساس مختلف بالفراغ والفضاء"(8).
يقول ليوتار – Lyotard في كتابه "حالة ما بعد الحداثة": "نفهم ما بعد الحداثة على إنها ليست الحداثة في نهايتها، بل في حالتها الناشئة، وهذه الحالة مستمرة"(9) وهذه مفارقة ثانية.
إذن تستدعي هاتان المفارقتان، إعادة تصحيح انحراف مفهوم "ما بعد الحداثة" عن معيار، باعتبارها المفهوم الخاطئ (تاريخًا)، وكأنه قائم بذاته الزمنية ولذاته التاريخية، وإنما هي قائمة على مبدأ نفي نهايتها بإثبات بدايتها، أي إثبات ديمومة الميتا حداثة في التحول أو التبدّل في الأحوال المتغيّرة باستمرار، "فالحداثة البعدية ليست مصطلحًا ليأتي بعد الحداثة (التقليدية)، لكن هو الوصف المائي (الرجراج) لحالة الحداثة، وهي في طور الولادة دائمًا"(10).
ولعل أشهر تعريفات ليوتار – Lyotard هي "كارتياب في الميتا رواية – الرواية الشارحة Meta narratires و"يتعيّن تعريفها بوصفها صيغة حديثة من المذهب الشكّي مع اهتمامها بالتركيز على تقويض أسس النظريات الأخرى ومزاعمها بامتلاك الحقيقة"(11).
ويميز تيري إيغلتون بين مصطلح ما بعد الحداثة-post modernity ، ويعني به مرحلة تاريخية مخصوصة، أما ما بعد حداثية –modernism ، ويعني به شكل من أشكال الثقافة المعاصرة (12).
وان كانت ما بعد الحداثة "أسلوب في الفكر، وما بعد الحداثية أسلوب في الثقافة، فإن إيغلتون يتمسّك بالمصطلح "ما بعد الحداثة" ليشير به إلى الشيئين كليهما، لارتباطهما بالأفكار أكثر منه بالثقافة الفنية.
ولكننا نرى على نحو مختلف في أن ما بعد الحداثة ليست مرحلة تاريخية "مخصوصة"، كما أن هذا التخصيص جزء من طاقة الخطأ الاصطلاحي والمفهومي، وإلاّ فما تعليل حيواتها الدينامية العابرة للمرحلة التاريخية والزمنية الثقافية (المخصوصة) بأفق مفتوح، لاستيعاب أي تعديل أو تغيير قائم أو ممكن أو محتمل؟
لهذا قرّر ليوتار – Lyotard أن يستخدم كلمة "ما بعد حداثي" لتسمية وضع المعرفة في المجتمعات الأكثر تطورًا، كما أن هذه الكلمة تحدّد حالة الثقافة في أعقاب التحوّلات التي غيّرت قواعد اللعب منذ نهاية القرن التاسع عشر(13).
ويعرّف ليوتار – Lyotard: "ما بعد الحداثي" بأنه التشكّك إزاء "الميتاحكايات"(14) كالتشكّك في العقل والتنوير والتقدم والرخاء الذي أفضى الى النزعة الاستهلاكية لتحويل المعرفة إلى سلعة تجارية، ولكن ليوتار – Lyotard يسأل: (ما المعرفة؟) بعد أن جرى تعريف المعرفة "العلمية" بالتعارض مع الأيديولوجية، وبالعكس، فالحداثة البعدية لم تُمهِل الاستهلاك (....) لينشئ أيديولوجيته البديلة عن كل تراث الأنظمة المعرفية السابقة التي دمّرها عن بكرة أبيها"(15).
لهذا ظهرت ما بعد الحداثة (قبل) انهيار النظام الاشتراكي، وسقوط جدار برلين، ومبدأ الريبة في ميكانيكا الكم، و(بعد) ظهور فيزياء الكوانتم، وتضخم رأس المال، وتفكّك العمل، والتراكم المرن، وتدحرج الإنسان نحو المجهول، وذلك بالتزامن مع ظهور الإنسان العابر وتكنولوجيا النانو والثورة البيوتكنولوجية.
وتتمّيز الحداثة البعدية، في إنها مستوعبة للتحوّلات الجديدة ومفتوحة على ما بعد ذلك من تحوّلات قادمة.
إذن مصطلح "ما بعد الحداثة" ينقض ذاته، لأنه يفترض حداثة جديدة، تتجاوز الحداثة بصيغة منفصلة عنها ومتصلة بها في آن.
وبداهة أن يتعرّض الخط الكرونولوجي للحداثة، وما بعد الحداثة كذلك إلى الانكسار الناتج عن التقدّم المستمر للحداثة البعدية، نتيجة انبثاقات جديدة عبر صيرورة دينامية وسيرورة تاريخية، تُعيد فيها الحداثة تحديث ذاتها دائمًا وباستمرار.
وبذا فإن مصطلح "الحداثة البعدية" لا يشير إلى ما يأتي عقب الحداثة، بل إلى "الوظيفة" التي تربط فيما بين: الذات والموضوع/العقل والجسد/الطبيعة والثقافة/الصانع والمصنوع/الحقيقي والافتراضي/الجزئي والكلي.
لهذا اتجهت الحداثة البعدية منذ البدء نحو تحطيم العقل، وإزاحة الذات بوصفهما ركيزتين أساسيتين في مشروع "عصر التنوير"، وبذلك إطاحة الأيديولوجيات الشمولية، وشكّكت بالحقائق اليقينية، وفكّكت الثوابت والمسلّمات العقلانية والدوغمائية.
إحالات:
(1) لمزيد من التفصيل ينظر: عباس عبد جاسم/ النظرية النقدية العابرة للتخصصات – تحولات النقد العربي المعاصر/ دار أزمنة للنشر والتوزيع/عمان/ الأردن/ ط 1 / 2016/ ص11.
(2) في معنى الحداثة - نصوص في الفلسفة والفن/ جان – فرانسوا ليوتار/ ترجمة السعيد لبيب/ المركز الثقافي العربي/الدار البيضاء – بيروت / ط1/ 2016/ ص 60.
(3) إشارة إلى ما ذهب إليه مطاع صفدي، من أن الحداثة البعدية "شكّلت الثورة اللا ثورة الوحيدة الممكنة في ظل السيادة المطلقة للرأسمالية وطنيًا ودوليًا" ينظر: مطاع صفدي/ نقد العقل الغربي – الحداثة ما بعد الحداثة البعدية/مركز الانماء القومي/ بيروت – لبنان /1990/ ص 313.
(4) يرى مطاع صفدي أن اختراق الحداثة البعدية يتحقّق في الجديد ( من أجل أن يكون جديدًا) إذ "انها بضربة تُعيد تحرير الحداثة – من ايديولوجية الحداثة". ينظر: مطاع صفدي/نقد العقل الغربي/مرجع سابق/ ص 211.
(5) نهاية الحداثة/جان فاتيمو/ترجمة نجم بو فاضل/المنظمة العربية للترجمة/ بيروت / د . ت /ص 24.
(6) دليل ما بعد الحداثة/الجزء الأول: ما بعد الحداثة: تاريخها وسياقها الثقافي/تحرير ستيورات سيم/ترجمة: وجيه سمعان عبد المسيح/ المركز القومي للترجمة – القاهرة / ط 1/ 2011 / مجموعة باحثين/ ينظر: الفصل الثالث: إيان هاملتون – lain Hamilton / ما بعد الحداثة والسياسة/ ص 67.
(7) دليل ما بعد الحداثة / الجزء الأول: ما بعد الحداثة تاريخها وسياقها الثقافي/تحرير: ستيورات سيم/ مرجع سابق / ص 33.
(8) دليل ما بعد الحداثة / الجزء الاول : ما بعد الحداثة تاريخها وسياقها الثقافي/ تحرير: ستيوارت سيم / مرجع سابق/ ينظر: الفصل الرابع عشر: ما بعد الحداثة وتراث المخالفة والاعتراض/ لويد سبنسر/ ص 245.
(9) مطاع صفدي/ نقد العقل الغربي/ مرجع سابق/ ص 255.
(10) دليل ما بعد الحداثة / الجزء الأول: ما بعد الحداثة: تاريخها وسياقها الثقافي/ تحرير: ستيوارت سيم/ مرجع سابق/ ينظر: الفصل الأول: ما بعد الحداثة والفلسفة / ستيوارت سيم / ص 26.
(11) أوهام ما بعد الحداثة / تيري ايغلتون / استهلال / ترجمة ثائر ديب / دار الحوار – اللاذقية – سوريا/ ط1/ 2000.
(12) الشرط ما بعد الحداثي/ فرانسوا ليوتار ترجمة أحمد حسان تحت عنوان ( الوضع ما بعد الحداثي) دار شرقيات/ القاهرة/ 1994/ الصفحات: 25 – 23.
(13) الشرط ما بعد الحداثي/ فرانسوا / ليوتار / مرجع سابق/ الصفحات نفسها.
(14) مطاع صفدي/ نقد العقل الغربي/ مرجع سابق/ ص 313.
(15) مطاع صفدي/ نقد العقل الغربي/ مرجع سابق/ ص 211.
تغريد
اكتب تعليقك