فكر المنعطف ومنعطف الفكر عند هيدغرالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2019-02-05 17:19:04

محمد أزرار

كاتب من المغرب

إن العلاقة بين الفكر والمنعطف توحي بكثير من التواشج والتماهي، وذلك إلى درجة يمكن القول معها أن تلك العلاقة قد تصل إلى التصادي أو وقوع الحافر على الحافر (لويس بورخيس) بين الاثنين، وقد تجعل أيضًا مقولة "الفكر والمنعطف" غير مجدية بما يكفي، حيث إنه يصبح بذلك الفكر سابقًا في الزمن على المنعطف، وهذا الأخير لاحق له، وهذا كله يكمن أساسًا في لغز حرف "الواو"، مما جعل هيدغر يدعو إلى توازي الفكر والمنعطف، ورهن تحقق الأول بتحقق الثاني. فما منعطف الفكر عند هيدغر؟ وأين يتمثل انعطاف الفكر لديه؟ ولم جاء "المنعطف" بصيغة المفرد ولم يأت بصيغة الجمع؟.

لقد كان وراء اختلاق هيدغر للعلاقة التلازمية بين الفكر والمنعطف وقفة تأمل طويلة في الكينونة والزمان وما يعرفانه من التواءات وانعطافات، فاستخلص منها كون الفكر عطاء للكينونة وليس فعلاً اختياريًا للأنا المفكرة، هذا العطاء لن يكون سوى خاضع للزمان، فكل تفكير في التنصل من الزمان هو بحد ذاته تفكير داخل حيز الزمن، فاتسم الفكر عنده بميسم الكينونة ينعطف بانعطافها، ينكشف إذا انكشفت ويتخفى إذا تخفت، ولقد استخدم هيدغر المنعطف بصيغة المفرد ليس ليعبر عن حدث محدد في الزمان والمكان، وإنما للتعبير عن سيرورة انعطاف لا ترتبط بالحقيقة على نحو أصيل، وقد ذهب معظم شارحي هايدغر إلى كون سنة 1930 سنة المنعطف كرستها مقالته "ماهية الحقيقة".

يرى هيدغر أن تاريخ الفكر ليس تاريخًا خطيًا كرونولوجيا، وإنما هو تاريخ أركيولوجي (فوكو) تطبعه انعطافات ومنعرجات، ولكي يبرز ذلك، اتكأ هيدغر على مفهوم "المقايسة"، المقايسة بين العصر الحديث والعصر اليوناني، هذا الأخير الذي يستبعد أي فكرة لوجود علم طبيعي أو رياضي ويزور منها ازورارا، هذه الفكرة هي العقلانية الرياضية كما دشنها ديكارت، تلك المقايسة صورة لانعطاف الفكر الذي شكل تحول مفهوم العلم أساسًا له، هذا الأخير لم يسلم من قاعدة المنعطف، بأن تنصل من يافطة السكولائية واعتنق مذهبًا ميتافيزيقيا يتماشى والمعطى التاريخي للعصر الحديث، إنه تجريب مسارب هروب أخرى كما يقول "جيل دولوز"، تمثل المنعطف إذا في هذا التحول الذي لامس روح العلم الذي انسلخ من أغلال السكولائية التلقينية وسطوة اللاهوتية، نحو الفكر العقلاني الذي أسهم في بناء تصورات تقوض الكلية الغائية ويقوم على تقصي الحياة انطلاقًا من نفسها، والاعتماد على النظام التحليلي  organisation analytique لا على النظام التركيبي organisation synthétique، لأن الموضوعات التحليلية تفضي بنا إلى اليقين عكس الموضوعات المركبة التي تزيد حدة الشك والريبة، وذلك بوساطة سنّ الذاتية كنظام معرفي حديث جاء به ديكارت من كوة قوله الشائع "أنا أفكر إذن أنا موجود"، فتحوّلت هيأة الوجود من "أؤمن كي أفكر" إلى "أفكر كي أؤمن".

إن منعطف الفكر هو في الأساس منعطف زمان وكينونة لدى هيدغر، بالنظر إلى اتساع بؤرة الوعي بأولوية الزمان، إذ أصبح تحديد المعنى رهينًا بأفق الزمان، فحتى محاولة التفكير في التنصل من الزمن كما قلنا هو فعل داخل الزمان، وإذا كانت مسألة أولوية الزمان ولا حتى فعاليته وتأثيره واستقلاليته لا تعود لهيدغر، إلا أنه كان صاحب قصب السبق في ربط الزمان بالسؤال ووضع السؤال موضع سؤال في كتابه "الكينونة والزمان"، وجعله لغزًا بمثابة مقصلة قطع بها رأس الملك بين الفلسفة والفكر، فلما رهنت الفلسفة نفسها بالعلم وإن كانت تسأل، فإنها تسأل حيث لا تسأل السؤال الأساس كمن يصرخ في واد سحيق، لماذا؟ لأنها ارتبطت بالعلم والعلم لا يفكر، في حين أن الفكر استشكل ماهية السؤال بما هو بحث، والبحث بحث عن الجذور (موريس بلانشو).

وبهذا يمكن تحديد منعطف الفكر عند هيدغر في التحول التي طرأ على الفكر الذي يساير تحول العالم، ثم الطلاق بين الفكر والفلسفة وانفصالهما، ووفاء الفكر لمنطق السؤال.


عدد القراء: 4175

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-