مـرارة الـحلوى (قصة قصيرة)الباب: نصوص
عبد الله زمزكي المغرب |
يشرق الأطفال كعادتهم كل صباح، ويوسف أيضًا يشرق معهم، وأزقة القرية الضيقة تردد صدى ضحكاتهم الذهبية الرقيقة وهم يلعبون في أرجائها، والشمس الربيعية تلهو أشعتها الجميلة فوق أزهار اللوز الناصعة المنفتحة أحضانها، والنحل ينغمس في لذة رحيقها المختوم.
تتعالى أصوات الأطفال فجأة، وهم يرددون بشكل جماعي عبارة لا تكاد تميز فحواها لاختلاط صيحاتهم، فإذا بشيخ في عقده الخمسين يظهر في آخر الزقاق قادمًا نحوهم، فتعرف حينها أنهم يرددون "باجلول.. باجلول.. باجلول".
"باجلول" كما يعرفه الصغار، أو كما يحب هو أن ينادوه به، أو "الحاج جلول" كما يعرفه الكبار، الذي لم يغادر القرية يومًا، إلا أنه يوهمهم أنه حج المقام المكرم رفقة شيخ الزاوية ذات ليلة مباركة. هو رجل ستيني يسكن في بيت منطو على نفسه في زاوية ملتوية وسط الزقاق الرئيسي، المؤدي نحو مسجد الحي الذي يقع في منحدر في الجانب الشرقي من مدخل القرية، وتحيط به أشجار النخيل الباسقات من كل حدب سوى واجهته الأمامية المنفتحة على ساحة فيحاء، مخصصة في الغالب للاحتفال بطقوس الموسم السنوي من ذبح الذبائح وترتيل المدائح وإطعام الطعام، تبركا بروح الولي "سيدي بو الرجاء" الصالح عملُه المنغرسةُ كراماتُه في نفوس الساكنة، والراقدة روحه في ضريح وسط قبور السالفين معه، المترامية على طول سفح جبل نائم مترصد في الجهة المقابلة للقرية، وكأنه يعكس لأهلها كل يوم مصير كل السابقين الأولين بهذا المكان ويتوعد من بقي منهم.
لم يكن "با جلول" أبا أحد من أطفال الحي، فهو الذي لم يتزوج يومًا ولم تكن له صاحبة ولا ولدًا، كان فيما يحكيه أهل القرية، الناجي الوحيد من أهله الذين فقدهم جميعًا، وهو ابن الثلاث عشرة سنة، إثر سيل جارف هدم الشق الأدنى من بيوت القرية الموالية للواد الذي قصم القرية نصفين. فمنذ ذلك الحين لم يبق له من هذه القرية إلا الذكرى تؤنسه، فلزم بعدها شيخ الزاوية "الدرقاوية" الموجودة في القرية المجاورة لهم، يأكل ويشرب ويتعبد، فصار من مريديها خوفًا وطمعًا.
تسابق الأطفال نحوه والغبار يتصاعد خلف أرجلهم الرقيقة، ويوسف أيضًا يجري وهو لا يقل فرحة عن أقرانه، فقد اشتاقت حناجرهم الصغيرة إلى حلوى يستلذون مذاقها، أو كسرة "خبز السوق" الذي يسيل للونه الناصع البياض لعابهم، والذي لا يشبه "خبز الدار" في شيء. فيحومون حوله كحمامات تنتظر ذر حبات الذرة لها، وهو يقف وسطهم، يشد طرف سلهامه الأحمر اللون المتهالك بيده اليسرى، ويحمل باليمنى عصا يتكأ عليه وكيسًا صغيرًا، وأعناقهم الصغيرة تشرئب إلى ما بداخل الكيس.
ينظر العجوز يمنة ويسرة ويبحث عن مكان يصلح للجلوس، عتبة دار أو حجرة مركونة يستريح عليها، فيميل الأطفال معه ميلة واحدة، وأعينهم لا تفارق ما يحمله. ينظر إليهم في سرور، فيربت على كتف هذا ويضم إليه هذا ويفرك شعر هذا، ثم يسأل: يوسف.. أين يوسف؟ فيظهر الصغير بين الصغار فتتفتح أسارير العجوز فيقربه إليه ويفرك شعره ويأخذ بيده، ثم يفتح كيسه الذي سحر حناجر الأطفال وشد إليه أعينهم، فيملأ يد يوسف حلوى، وهو يردد: خذ يا يوسف أنت الأول، خد أكثر منهم كلهم، ويندهش الأطفال شاغرين أفواههم وهم يحملقون في ما امتلأت به يدي صديقهم من ملذة، وينظرون إلى شيخهم المحبوب ليجود عليهم أيضًا بما ينتظرون من حلوى.. فيتفرقون وقد امتلأت أعينهم مرحًا وسرورًا، تاركين له غبار أرجلهم بعد أن قضوا منه وطرا.
تلملم الشمس أهداب أشعتها المنسدلة طوال النهار، وتختفي خلف الأفق لتستريح من تعب السماء التي ظلت تجوب أقطارها اليوم كله، ويغيب الأطفال معها في هدوء خلف أبواب بيوت قديمة يساند بعضها بعضًا ضد عاديات الزمن، ويغيب يوسف معهم أيضًا في بيت مع أمه الوحيد التي أضناها تعب الحياة القاسية، فليس لها إلا هذا الطائر الغريد في أرجاء حياتها القاتمة، والذي قلما تجد له متسعًا من الوقت بين متاعب الحياة لتملأ به فراغ قلبها، بينما يظل هو خارج البيت النهار كله فلا تراه إلا بعد أن يرغمه الجوع على دخول البيت.
يأتي الصباح ويأتي معه الأطفال، ويوسف أيضًا يأتي، والشمس لم تخلف موعدها معهم، تلامس أشعتها وجوهم بلطف، فتبعث فيهم حياة جديدة، لينطلقوا في سرورهم وينطلق صياحهم المعتاد، تارة يتسابقون، ويلهثون من التعب مجتمعين متكئين على ركبهم الصغيرة، أو يتبادلون السباب والشتائم تارة أخرى..
يخرج "الحاج جلول"، بعد أن أثارته صيحات الصغار المترددة في الزقاق، فيقف بباب بيته يتابع حركاتهم يتضاربون أحيانًا ويتسابقون أحيانًا أخرى وهو يتأملهم. ينظر يوسف نحوه فيراه ثم يشير إليه بيده أن أقبل، فيتجسس الطفل حوله إن كان أقرانه قد رأوه أم لا، فينسل في غفلة منهم نحو منزل "با جلول" الذي جره بلطف داخل بيته وأوصد الباب خلفه..
تركض الأم لاهثة وهي تجر أذيالها، خصلات شعرها الداكن تدلت على وجهها المستدير المحمر من هول الصدمة والخوف، وعيناها منفتحتان عن آخرهما، ترمي بهما في كل حدب وصوب لعلها تجد ريح يوسف، تستمر في الركض بأقصى ما أوتيت من جهد، يكاد المار يسمع تقطع أنفاسها، وشفتاها لا تنفك تتمتم باسم ولدها يوسف..
تصل وسط الزقاق عند الزاوية الملتوية حيث البيت المنطوي على نفسه، الذي قالت لها جارتها أنها ضبطت يوسف يدخله رفقة العجوز، فتجد بابه لا يكاد يظهر من كثرة المزدحمين حوله من أهل القرية الظالم شيخها، وأعناقهم تتطاول لمعرفة ما يجري بالداخل، والصغار ينسلون بين الكبار ليكونوا في مقدمهم. فتصيح الأم مولولة: ولدي.. أين ولدي..؟ فتبدأ نساء القرية في تهدئة روعها وعزائها في مصابها..
يُفتح الباب، فيخرج العجوز منحنيًا ظهره ناكصًا وجهه، ويداه مغلولتان خلفه، يدفعه دركي نحو الأمام وهو يصيح في الناس: أفسحوا الطريق.. أفسحوا الطريق.. ويسوقه نحو سيارة الشرطة، ثم يتبعه دركيان آخران يحملان يوسف، وبعض حبات الحلوى تتساقط من جيبه، ترتمي عليه أمه وهي تبكي وتولول.. تتحسسه بيديها في حنو وخوف.. تنظر إلى عينيه الذابلتين، تسأله: ما بك ولدي.. يتجه الأربعة نحو سيارة إسعاف مركونة بمدخل الزقاق وتطلق لصفيرها العنان..
ينفض الجمع، وتنفض معه ضحكات الصغار، وينفطر القلب المكلوم فقدًا، يلعن الجميع ما وقع ويحذر البعض بعضًا. تبدو السماء كئيبة والشمس تختفي وتتحجب خلف السحب، وتهب الرياح شرقية فتتناثر وريقات أزهار اللوز البيضاء، وتنسل النحلات نحو بيوتها في الجبل قبل أن تمطر السماء، ويعود الأطفال إلى بيوتهم نحو أحضان دافئة، لكن يوسف لم يعد هذه المرة، رغم برودة هذا المساء ...
تغريد
التعليقات 1
رواية رائعة ،وأسلوب جميل،مزيدا من التألق سيدي واصل
اكتب تعليقك