اللغة العربية: عالميتها وإنسانيتهاالباب: مقالات الكتاب

نشر بتاريخ: 2019-06-05 13:59:28

د. معراج أحمد معراج الندوي

قسم اللغة العربية وآدابها، الجامعة العالية- كولكاتا- الهند

إن اللغة هي أداة الاتصال والتفاهم بين أبناء البشر، وهي آية من آيات الله العظمى، لأن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي ينطق ويعبر عمّا في ضميره من أحاسيس ومشاعر، وعواطف ووجدان، من آلام وأفراح. إن الإنسان لا يستغني عن وسائل تربطه بالعالم المتحضر، وإن مما لا يختلف فيه اثنان أن ارتقاء أي أمة بارتقاء لغتها، لاشك فيه أن اللغة تؤدي دورًا مهمًا في حياة الأمم وتاريخها بحيث هي ماضيها وحاضرها ومستقبلها وصورتها وفكرها وروحها ومصيرها. ولا وجود لأمة بغير وجود اللغة إذ يتم بها التواصل بين أبناء المجتمع، وعن طريقها يكتسب الناس خبراتهم ومهاراتهم، وتنمو معارفهم، ويرتبطون فيما بينهم، وبتراثهم وحضاراتهم، ويتواصلون مع ركب الحضارة والتطور.

لقد حظيت اللغة العربية بما لم تحظ به لغة أخرى من عوامل القوة والبقاء. فهي اللغة التي ولدت في مهد الأبجدية الأقدم في التاريخ الإنساني، وورثت بعض عناصر أمهاتها وأخواتها من لغات الشرق القديم. وهي لغة العرب قبل الإسلام. تظهر مكتملة ناضجة في الشعر الجاهلي. فاللغة العربية ليست لها طفولة ولا شيخوخة. وهي بمجيئ الإسلام أصحبت لغة القرآن ولغة الإسلام الدين العالمي الذي أنزل الله على رسوله للناس جميعًا. فكانت اللغة العربية لغة الإسلام الرسمية التي تعلمتها الشعوب والأمم عندما دخل الناس في دين االله أفواجًا أفواجًا. انتشرت العربية وحدها بقوتها الخاصة بقوة الإسلام وقوة القرآن الكريم واستطاعت أن تكون لغة عالمية لأول مرة في التاريخ الإنساني.

 ثم غدت اللغة العالمية الأولى في عصر الازدهار الحضارة العربية والإسلامية. إذا كان عدد الناطقين باللغة العربية من أبنائها وغير أبنائها من المؤشرات المعتمدة في تصنيف اللغات العالمية، فإن اللغة العربية لغة ما يزيد على 300 مليون من تعد العربية لغتهم الأم. وهي تحتل اليوم المرتبة الرابعة عالميًا من ناحية عدد الناطقين بها.

لقد ساهمت الحضارة العربية والإسلامية في عملية النمو والإبداع الحضاري العالمي فيما مضى التاريخ الإنساني خصوصيتها الشاملة على نحو فاعل وخلاق. وأثبتت اللغة العربية أنها قادرة على استيعاب كل ثقافات الأرض حتى غدت في أواخر القرن الثاني عشر للميلاد لغة العلم والحضارة. قد أصبحت لغة إنسانية منذ ظهور الإسلام. أبدعت حضارة راقية، اشعلت الأنوار التي بدت ظلمات العصور الوسطى في العالم، انبثق فجر النهضة في أوروبا الذي قام بها على أساس من التراث العربي الإسلامي باللغة العربية بطريقة مباشرة نقلاً عن المؤلفات العربية. إذن فاللغة العربية هي اللغة السامية الوحيدة التي قدر لها أن تحافظ على وجودها وأن تصبح لغة عالمية.  

ولقد بدت عالمية العربية في محتواها الأدبي والفكري والإعلامي الذي أسهم في تطويرها في العصر الحديث. قطعت اللغة العربية شوطًا كبيرًا في التطور من هذا الجانب،  ومن يراجع تطور الأدب الحديث، وتطور الصحافة العربية وتطور الفكر العربي سيعرف مقدار طواعية هذه اللغة ومرونتها وإمكانياتها على مستوى العالم.

وبنزول القرآن باللغة العربية حدث للغة العربية ما لم يحدث لغيرها من اللغات، ألا وهو حفظ وتثبيت اللغة ومنعها من التغير والتحول. وقد نزل بها القرآن الكريم فجعلها أكثر نضوجًا وأمتن بنيانًا وأقوى استقرار، وبفضله صارت أبعد لغات العالم مدى أوسعها أفقًا، وأقدرها على النهوض بتبعاتها الحضارية والدينية عبر التطورات التي يعيشها المجتمع الإنساني. إن القرآن هو الذي حفظ اللغة العربية ، فإن إعجاز القرآن وبلاغته وبيانه لا يمكن فهمها  واستيعابها إلا من خلال اللغة العربية.

اللغة العربية هي اللغة العالمية من حيث أن المسلمين في ناحية من نواحي العالم لا يمكنهم أداء عباداتهم وفرائضهم الدينية بغير معرفة العربية. ومن الطبيعي أن يكون هذا العامل سبب رئيسيًا في عالمية اللغة العربية من ناحية ضرورة تعلمها واستخدامها إذا ما تذكرنا أنها اللغة الوحيدة المرتبطة ارتباطًا مقدسًا بواحد من الأديان الكبرى في العالم.

واستطاعت أن تسهم في إثراء التراث العربي في مجالات الحياة المختلفة كالطب والصيدلة والرياضيات والكيمياء والفلك، ولم تكتف بكل هذا فأسهمت أيضًا في الأدب واللغة والنحو. وفي عصورها الزاهرة استطاعت اللغة العربية أن تستوعب تراث الأمم القديمة من فرس وإغريق وسريان وغيرهم، وأن تقدمه للبشرية سائغًا شرابه، لذيذًا طعمه، فأثرت الفكر الإنساني والحضارة الإنسانية في مجالات العلوم المختلفة.

لقد نجحت اللغة العربية في الماضي لأن تكون اللغة العالمية الأولى كلغة عالمية وعلمية تطلعت الشعوب والأمم الأخرى إلى تعلمها. واللغة العربية بخصائصها وقدراتها الهائلة قادرة على تعريبها العلوم الحديثة المتطورة وتقود العالم من جديد في اكتشاف العلوم الجديدة. واللغة العربية في حاضرها تعيش نهضة عصرية جديدة، وإنها لقادرة على استيعاب مصطلحات العلوم والفنون والصناعات والتكنولوجيا الحديثة. واليوم تتوسع مساحات انتشار اللغة العربية في العالم بدخولها الفضاء الرقمي وتبؤها مكانة متقدمة بين اللغات الحية التي تستخدم في شبكة المعلومات العالمية. إن المنطقة العربية هي أوفر مناطق العالم جغرافيًا وثقافيًا وإقبالاً على استيعاب تكنولوجيات الاتصال الحديثة، مما يؤكد أن اللغة العربية لغة الحاضر والمستقبل.

إن اللغة العربية ككائن حي، تحيا بحياة أبنائها، وتقوى بقوتهم، وتعز بعزتهم، وتسود بسيادتهم، وتتجدد مع الأجيال. إن هذه اللغة، ككائن حي، روحها القرآن الكريم، وجسمها الإسلام العظيم، وأعضاؤها أبناء الإسلام جميعًا. تكمن أهمية اللغة العربية بكونها مرتبطة ارتباطًا كبيرًا بأكثر الديانات انتشارًا في العالم، وهي الديانة الإسلامية، فاللغة العربية ليست لغة المسلمين فحسب، وإنما هي ذاكرة الأمة العربية الإسلامية، ورمز كيانها وثقافتها ووحدتها القومية.

إن اللغة العربية ستبقى، بحفظ الله، ما بقي القرآن، وستعيش ما عاش الإسلام، وستنمو وتتجدد ما تجددت الأجيال والحياة. ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى اللغة العربية التي هي أقدر اللغات على البقاء والخلود. إن مستقبل اللغة العربية قضية بالغة الأهمية في الفكر المعاصر، لها صلة قوية بسيادة الأمة العربية الإسلامية على ثقافتها وفكرها وعلى كيانها الحضاري وعلى حاضرها ومستقبلها. فليست هذه القضية، قضية لغوية وأدبية وثقافية فحسب، بل هي عاملة مؤثرة في النهضة على الركب العالمي.


عدد القراء: 11689

اقرأ لهذا الكاتب أيضا

اكتب تعليقك

شروط التعليق: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.
-