الصورة تنوع المقاربات وتقاطعهاالباب: مقالات الكتاب
د. محمد مصطفى حسانين أستاذ الأدب والنقد المشارك |
الكتاب: "الصورة"
المؤلف: جاك أومون
المترجم: ريتا الخوري
الناشر: المنظمة العربية للترجمة'.
عدد الصفحات: 480 صفحة.
تاريخ النشر: 2013.
تعد الصورة شكلاً من أشكال الوعي البشري، سواء أكانت ناقلة للواقع أو مبتكرة له، أو حالمة به. معبرة في تنوعها عن فيض من المعطيات الثقافية والاجتماعية والفكرية والسياسية والدينية والطقوسية المشتركة، أو تلك التي تعبر عن خصوصيات حضارية وثقافية. ولقد تصدرت أبحاث الصورة المشهد الثقافي والفكري منذ بداية التسعينيات بل واكب تمركزها الفكري مع صعود حركة ما بعد الحداثة، التي جعلت من "ثقافة الصورة" عنوانًا لعصرنا. لذا كان البحث الموسع عن تقاطعات الصورة مع حقول معرفية متنوعة مثل علوم الأحياء والكيمياء والطب والتشريح وعلم الإنسان والدعاية والإعلان والإبداع وعلوم النفس وغيرها من العلوم.
وفي ظل هذا التداخل برزت أهمية المقدمات العامة عن مستجدات حقل الصورة، لعرض مختصر تمهيدي حول نظرياتها. ويعد كتاب "الصورة" لمؤلفه العالم الفرنسي جاك أومون(1) المتخصص في حقل الصورة من الكتب المهمة في هذا الميدان. فالكتاب يلبي حاجة القارئ العام والمتخصص على حد سواء لاكتشاف هذا الحقل والإلمام بأهم قضاياه. رغم قدم بعض الأفكار التي طرحها الكتاب باعتراف المؤلف. لكن تأتي أهمية الكتاب فيما ترى المترجمة ريتا خوري في كونه: "يحيط بالموضوع من جميع الجوانب دون أن يغفل عن الجانب الجمالي، وذلك بتحليل واضح ودقيق، إنه مستند تعليمي ينطوي على عدد كبير من الأبحاث، كما يستعرض جميع النظريات المعتمدة في عالم الصورة"(ص 8). ومن مزايا الكتاب تطرقه لأنواع مختلفة من الصور من مثل: الصور الأوتوماتيكية، والثابتة، والمتحركة، والمرسومة باليد، والتصوير بالكاميرا.
وينبه مؤلف الكتاب منذ المقدمة على أن الكتاب يعد تمهيدًا لمقارابات أكثر تخصصًا حول الصورة، فهو يشير لتعدد تلك المقاربات ويحاول لم شمل التساؤلات المتنوعة حولها، تيسيرًا على الطلاب المتخصصين. فالكتاب يحاول أن يقدم خلاصات موجزة حول الصورة مما قد يستقطب انتباه جمهور أكثر تنوعًا.
ينطلق أومون من أن الصورة في الثقافة الغربية- ويمكن القول في كثير الثقافات أيضًا- تعد نسخة عن مظهر من مظاهر العالم، يلتقطها الفنان أو شخص آخر، برهافة إحساس لينقل لنا معلومات ومشاعر. فالصورة صنو العالم، ولكنها صنو مشوه رغم واقعيتها. ومن هنا، تتعدد أنواع الصور: الصور الذهنية، والحلم، والصورة الشعرية، والصورة الرمزية.. ولكن أومون يحدد لكتابه نوع خاص من الصور يركز على معالجته، فالكتاب يقتصر على تناول الصور "التي تشير إلى العالم بطريقة موضوعية – وإن كان بطريقة غير مباشرة أحيانًا مثل الرسم التجريدي"(ص 13). ويرجع هذا الاختيار الضيق لاعتقاد المؤلف بكثرة المشاكل التي يعرفها حقل الصورة والتي تحول دون التناول لميادين ومجالات متسعة تحتاج معالجتها لترو وتأن كبير.
ويكشف الكاتب عن موقفه من حقلين تصدرا أبحاث الصورة منذ 1990 هما: الثورة الرقمية، والوسيطية. فبالنسبة للصور الرقمية فرغم وجود فوارق بين الصورة الرقمية والصور الملتقطة قبل اختراع الأجهزة الرقمية فالأولى تظهر على الشاشة والثانية ورقية، فإنه يرى أنها فوارق غير كافية لنتكلم عن جنس آخر. أما بالنسبة للوسيطية فيرى أنه رغم اللمحات المهمة الموزعة في عدد من المؤلفات حولها، وفي كتب مؤسسها، فإنها لم تصبح علمًا مستقلاً بحد ذاتها، لذا اكتفى فقط بتقديم الاقتراحات حولها.
عالج أومون قضايا الصورة من زوايا متنوع نظر متنوعة، ولكنه ركز بشكل مركزي على ستة مداخل خاصة، هي: المدخل الفزيولوجي ليقف على الأبعاد التشريحية لجهاز الإبصار البشري، والمدخل النفسي، والمدخل الوسائطي، والمدخل الانثروبيولوجي، والتاريخي، والجمالي. هذا المداخل تمثل فصول الكتاب الست، حاول المؤلف خلالها الإجابة عن ظاهرة الصورة من خلال البحث في أسئلة كل مدخل. ويبدأ الفصل الأول بسؤال الرؤية والإبصار من منظور فزيولوجي، حول ذلك العضو المادي المسؤول عن الرؤية.
إدراك الصورة، كيف نرى الصورة؟
الإجابة البسيطة عن سؤال كيف نرى الصورة؟ هو أن الإنسان يرى بواسطة عينيه، ولكن الرؤية على المستوى التجريبي عملية تفترض وجود عدة أعضاء متخصصة، تنجم عنها ثلاث عمليات متميزة ومتتالية، هي عمليات بصرية، وكميائية، وعصبيىة. فبالنسبة للعمليات البصرية فإن العين عضو شبه كروي نصفها معتم وآخر شفاف، فالقرنية تمثل الجزء الشفاف تؤمن مرور الضوء وخلفها القزحية التي تعد عضلة عاصرة، مثقوب وسطها بفتحة البؤبؤ الذي يسمح بمرور كمية أكبر من الضوء؛ ولهذا غالبًا ما شبهت العين بغرفة مظلمة أو كاميرا. فهي بطريقة ما تقوم بالتقاط عدد كبير من الأشعة على سطح ما وتكثيفها في نقطة واحدة. وتلي تلك العملية التغييرات الكيميائية حيث نجد الأعضاء المستقبلة التي تنقسم لنوعين: الخلايا العصبية والخلايا المخروطية، ويحتويان على ملايين الجزيئيات المزودة بمادة كيميائية تمتص الضوء - الذي يتحلل إلى تفاعل كيميائي- فالشبكية بمثابة مختبر كيميائي مصغر، تقوم بتحويل الصور إلى معلومات ذات طبيعة مختلفة كليا. وتلي تلك المرحلة مرحلة التحولات العصبية فكل خلية متلقية من الشبكية موصولة بخلية عصبية مرتبطة بها بطريقة معقدة، تمتد بشبكات من الاتصال بالعصب البصري، الذي يتصل بجانب من الدماغ. فهذه المرحلة الأخيرة تمثل معالجة المعلومات، وهي مرحلة لا نعرف حتى اللحظة كيف تنتقل فيها المعلومات من المرحلة الكيميائية إلى المرحلة العصبية.
لكن يبقى السؤال المهم، ما الذي ندركه؟ إن الذي ندركه في تلك المرحلة يرتبط بالظواهر الضوئية التي تصل العين ويتم تحليلها، وهي: الكثافة، وطول الموجة، والتوزيع في الفضاء. ترتبط الكثافة بكمية الضياء؛ فالعين تتفاعل مع المدّ الضوئي الضعيف جدًا والقوي، وكلما ازداد الإحساس بالضوء تزداد الخلايا المتناثرة في الشبكية، وهناك نوعان من البصر يتميزان بسيطرة أحد نوعي الخلايا الشبكية، هما: الرؤية النهارية، وتشغل الخلايا المخروطية، وهي مسؤولة عن إدراك الألوان. وهناك الرؤية الظلامية: وتسيطر خلالها الخلايا العصوية وتمثل نوعًا من الإدراك البصري اللالوني. أما طول الموجة فهو مسؤول عن إدراك الألوان وفق أطوال الأمواج التي تصدرها هذه الأشياء أو تعكسها، ويتحكم فيها أيضًا الإشباع اللوني، والضياء المتعلق بدرجة الكثافة الضوئية. والعين أيضًا مجهزة لإدراك حدود الأشياء في الفضاء، عبر توزيع الضوء، فتدرك الحروف البصرية واتجاهاتها، والتعرف على الشقوق والزوايا والأجزاء، بل تمييز الحروف البصرية، وإن كان حجمها صغيرًا جدًا. لكن هذا لا يعني أن جهازنا البصري مجهزًا لتباين درجات الكثافة الضوئية بقدر ما هو مجهز لرصد التغيرات في درجات الكثافة.
هناك مقاربتان رئيسيتان للبعد الفزيولوجي للإدراك البصري في تفسيره، هما: المقاربة التحليلية، والمقاربة التركيبية. تحاول المقاربة التحليلية تحليل الجهاز البصري، بواسطة الضوء، بحثا في بنية الدماغ بهدف إثبات وجود خلايا متخصصة في وظائف أساسية مثل إدراك الحروف والأسطر.. وقد راجت تلك النظرية في الستينيات مع ظهور المعلوماتية. وتصر تلك المقاربة على وجود علاقات وترابطات أثبتتها التجربة، بين المعطيات البصرية والمعطيات غير البصرية. ومن هنا أطلق عليها اسم الترابطية. أما المقاربة التركيبية: فهي خلاف المقاربة السابقة إذ ترى أن الشبكية تحتوي على كل المعلومات اللازمة لإدراك الأغراض في الفضاء لأن جهازنا البصري مجهز بما فيه الكفاية كي يعالجها. وطرحت هذه المقاربة منذ القرن التاسع عشر على يد أتباع الفطرانية، مثل هيرينغ، الذي رفض افتاض وجود فترة للتدرب في مجال البصريات، وهناك أيضًا أتباع مدرسة الشكل الذي ذهبو إلى وجود قدرات فطرية تنتظم وفق قوانين عالمية.
الصورة، الإدراك، والعالم الخيالي:
تأتي وجاهة المقاربة النفسية للصور، من كون إدرك الصورة يخضع للقوانين العامة للإدراك، خاصة ما يرتبط بظاهرة "الانتباه البصري" حيث يركز الإنسان ملكاته الإدراكية والفكرية على غرض معين، وغالبًا ما يتم التمييز بين الانتباه المركزي الذي يقوم بالتركيز على المظاهر المهمة في الحقل البصري، والانتباه المحيطي ويتعلق بالانتباه إلى الظواهر الجديدة على الحقل البصري. ولإدراك خصائص العملية البصرية ظهر ميدان البحث البصري في العلوم النفسية ليقوم بربط كافة عمليات التثبيت بالمشهد البصري لاستكشافه بالتفصيل، فمنذ الثلاثنيات لوحظ أننا لا نرى الصور دفعة واحدة، ولكن من خلال عمليات تثبيت متتالية. يقول آمون: فالنظر المطلع يتنقل بطريقة مغايرة في الحقل الذي يستكشفه، وكما في أي مشهد بصري آخر، نحن نرى الصورة بحسب الوقت، بعد استكشاف ليس ببريء وإدماج هذا التنوع في عمليات التثبيت الخاصة والمتتالية، هو الذي يحدد ما نسميه رؤية الصورة". (ص 62).
ولكن يظل السؤال المحوري قائمًا: كيف ندرك الصور؟ يحصر آمون دراسته هنا، بالصور المسطحة التي ماتزال مع فن التخطيط، والرسم، والنقش، والصور الفوتوغرافية، والسينما والتلفزيون، والصور المعالجة بواسطة الحاسوب. يجمع كل الأنواع من الصور ظاهرة سيكولوجية واحدة، تسمى "الواقع الإدراكي المزدوج للصور، أو الحقيقة المزدوجة للصور"، فرغم أن الصورة في الحقيقة مسطحة كما تراها العين، فإننا نرى فيها أيضا قطعة من الفضاء بثلاثة أبعاد. وذلك لأن الصورة التي تعد قطعة من العالم ثلاثية الأبعاد موجودة فقط من خلال نظرنا. وهناك مصادر ثلاثة لثتائية أبعاد الصورة هي: إطار الصورة وسندها، السطح ذو الخامة نفسها، شوائب التصوير المماثل التي تميز الصورة عن مشهد حقيقي. غير أننا ينبغي أن نعي أنه رغم حضور خاصية ثنائية الأبعاد دائمًا، فإن حقيقية ثلاثية الأبعاد للإدراك لا تكون موجودة داخل الصورة إلا بشكل مدروس، فلقد حرص الرسامون منذ عصر النهضة على اعتماد نظام معين لإظهار ذلك. ومن ذلك ملاحظات دافينشي والتي تتضمن قواعد منها: يجب رسم الأغراض القريبة بالألوان المشبعة أكثر، مع محيط أوضح، وقوام أكثر سماكة، أما الأغراض البعيدة فتكون في أعلى اللوحة، أصغر حجمًا وباهتة أكثر.
غير أننا ينبغي أن نقر بأننا لا نرى هذه الأغراض على أنها ثلاثية الأبعاد حقًا، فهناك أمثلة غير قليلة في الرسم التصويري والتصوير الفوتوغرافي لا نعلم إن كان المصوّر زاوية أو ركنا .. ويبدو أن الدماغ قرة على اختيار الشكل الأكثر احتمالا من جملة الأشكال الهندسية الممكنة.
من جهة أخرى تنفتح الصورة على قضية إدراك الشكل، ويقصد به الشكل العام الذي يتميز به غرض مُجسد في صورة ما أو رمز لا وجود له ظاهريًا في العالم الحقيقي، أي إدراك الشكل على أنه وحدة. حيث يبدو مفهوم الشكل تجريديًا. هنا تثبت التجارب أولاً: أن الحروف البصرية الموجودة في الحافز هي التي تعطي المعلومات الدورية لإدراك الشكل. ثانيًا: إدراك الشكل يستغرق وقتًا طويلاً. ولقد أسهم علماء النفس والرسامون في تقسيم الحقل البصري إلى منطقتين تفصل بينهما دوائر، أي الصورة/ الخلفية الذي يعزى إلى نظرية الشكل (الجشطلت)، وهو المفهوم الذي انتقدته النظريات النفسية التحليلية؛ إذ رأت أن الفصل بين الصورة والخلفية ليس مباشرًا أو عملية أولية، بينما مالت النظرية البنائية إلى أن التمييز بين الصورة والخلفية مسألة حالة تعتمد على التدرب، ورأت نظرية المعلومات المعتمدة على نظرية (شانون وويفر) أن في صورة معينة ثمة أجزاء تعطي الكثير من المعلومات وأجزاء أخرى لا تعط سوى القليل منها.
الصورة، الوسيط، الجهاز:
تُظهر الصورة مجموعة ظروف؛ اجتماعية، ومادية، ونفسية، مختلفة في كل مرة، وتحدد بشكل جزئي عمليتي الإدراك والفهم، وتُجند الصورة وسيطًا وجهازًا.
أما عن مفهوم الوسيط، فبعيدًا عن تعدد دلالات الكلمة في الفرنسية (intermediaire) فإنها تدل على هيئة تقوم في الوسط وتتيح التواصل بين حقيقتين أو نظامي حقيقة. وفي ستينيات القرن العشرين شهد التلفزيون تطورًا مذهلاً فدار النقاش حول ترجمة العبارة الإنجليزية Mas media، وظهرت معها الكلمة اللاتينية medium التي سرعان ماتم التخلي عنها لصالح وإيجاد الكلمة الفرنسية الغربية medias التي احتوت مشكلة وسائل الاتصال، لكن لم تحل مشكلة الحقيقة الشكلية المتعلقة بالصورة التي تجعل الورق غير القماش أو الضوء أو الخشب.. فعاود مصطلح medium للظهور مرة أخرى ليشير لوسيلة الاتصال كما سبق. ومن البديهي أن علاقة الوسيط الخاص بصناعة الصور بالمواد متنوعة ولا حصر لحدودها؛ فالورق والكارتون والخشب والحديد والزجاج والحجر والبلاستيك ... كلها وسائط للصور، فمن الغير المجدي إعطاء نمطية شاملة، لتنوع المواد تشابكها من جهة، ومن جهة ثانية، فبوسعنا رسم فلم أو عرضه أو القيام بالاثنين معًا. وذلك لن يطلعنا على ماهية الرسم أو السينما أو التصوير كوسيط.
في مقابل هذا التنوع الوسائطي للصور يقترح آمون تصنيفا ثانيًا هو: الصورة المعتمة، والصورة-الضوء. فهناك صور مطبوعة معتمة نحصل عليها بتراكيب أصباغ ملونة على سطح- سناد ما يسمى سند الرسم. وهناك صور معروضة نحصل عليها بالتقاط حًزمة ضوئية. ونلاحظ من خلال هذه التفرقة أن الصور المطبوعة يمكن التلاعب بها بشكل أسهل، ومتحركة أكثر فهي غرض يمكن أخذه للبيت، ولرؤية الصورة المطبوعة لابد من وجود ضوء ما. أما الصورة المعروضة فيصعب تحويلها فهي كيان واحد يؤخذ بكليته أو لا يؤخذ. خلاصة القول: هناك نوعان عامان من الصور: نوع يضم الصور المطبوعة على أشياء يراها مشاهد حرّ الحركات ويمكن تناولها باليد. والنوع الآخر: فيشمل صورًا يتم عرضها، ويكون حجمها كبيرًا بشكل عام ويراها عددًا كبيرًا من المشاهدين في الوقت نفسه، في مكان معد لاستقبال العرض. يفتح الحوار حول أنواع الصور في علاقتها بالوسائط استكشاف علاقة الوسيط بالصور على صعيدي: الفضاء والزمن. فالصور شيء من الأشياء الموجودة في العالم، فهي تحتل مكانا في الفضاء ولها علاقة بالوقت.
ومن المفاهيم الشائعة أيضًا في إدراكنا لفضاء الصورة مفهوم (تأطير الصورة) إذ هو "معادلة بين عين المنتج، وعين المشاهد"، هنا نجد مفهوم التأطير (Cadrage)، الذي ظهر مع السينما ويعني العملية الفكرية والمادية التي تعطي صورة تتضمن حقلاً معينًا نراه من زاوية معينة، مع بعض أشكال الحدود المحددة.
وظائف الصورة وأوساطها، أنثروبولوجيا الصورة:
في هذا الفصل يقدم المؤلف مدخلاً للصورة من وجهة نظر علم الإنسان، أو نحو علم الإنسان في الصورة؛ فالصورة يمكن أن تشكل محورًا تتشكل حوله دراسة علم الإنسان، لكن مع ذلك لم تظهر فكرة دراسة علم الإنسان للصورة أو"دراسة علم الإنسان في المجال المرئي" إلا قرابة القرن العشرين، ولقد شكل سؤال: لماذا نستعمل الصورة؟ بداية الاهتمام بها فكان البحث في وظائف الصورة، وإجابة السؤال بل السؤال نفسه ليسا بديهيين في زمن نجد فيه الصورة في كل مكان، بل إن الصورة من النتاجات البشرية الأكثر قدمًا، وغني بالمعلومات، عن أسلافنا الأقدمين. وتنوعت مظاهرها الدينية والوثائقية والرمزية عبر التاريخ الإنساني فضلا عن إثارة الإعجاب وعلاقتها بالجمال والعمل الفني والقيم الفنية. وتتوزع وظائف الصورة وفق عدد من الميادين على النحو الآتي:
الصورة الدينية: هناك في بعض الديانات استعمال للصور في إطار ممارسة شعائرية ما، كما في المسيحية والهندوسية والبوذية والشامانية. على عكس ديانات أخرى تزدري الأيقونات.
الصورة كرمز: ينتج الرمز عن عملية مجازية، إذ يربط مدلول بدال ليس له في الأساس، وما يميز الرمز عن المجاز هو جانبه البراغماتي، كما أن المجاز وليد خلق فردية، بخلاف الرمز إذ لا وجود له إلا باعتراف جماعة ما. ومن شأن الصورة نقل الرموز، ولكن وفق عوامل اجتماعية- ايديولوجية معينة.
الصورة كمستند: يشير مصطلح المستند إلى كل نتاج بشري يهدف إلى حفظ المعلومات، ونقلها. وما يميز كل صورة تقريبًا وظيفتها القائمة على التزويد بمعلومات حول الواقع، ولكن الصورة الشديدة الرمزية مثل الأيقونة تتمتع بقيمة توثيقية قليلة جدًا، فالرسومات التي تتناول موضوعًا مقدسًا في الحضارة المسيحية لا تفلت من موضة الأزياء، التي تختلف في مشهد صلب في القرن 13، عنها في المشهد ذاته في القرن 16، فالاكسسورات تختلف. بمعنى آخر، تكون الصورة مستندًا حين تعطي صورة مشابهة عن الواقع.
اللذة التي تولدها الصورة، الجمالية والفن:
للصورة وظيفة تمثيلية وتثقيفية، وهي وظيفية حديثة نسبيًا، فالفن يتعامل دومًا مع مجال بشري بنوع أساسي يتمثل من خلال الحساسية. فقبل اعتراف هيغل بالفن كطريق للخلق وطريقة للولوج للنفس كان مفهوم thchne المعروف في اليونانية على أنه ممارسة وعلم يعني بصناعة النتاجات البشرية، ومن بينها الصور. ومع التطور الاجتماعي والقيمة التي احتلها الفن على صعد متنوعة، كان ظهور علم الاجتماع المرتبط بالفن، فتمحورت منذ قرن الكثير من دراسات علم الاجتماع حول الإنتاج والمنتجين ومكانتهم الاجتماعية، وتلقي الأعمال والفارق بين الذوق المتوسط والمميز.
مقتطفات من تاريخ الصورة:
في هذا الفصل لم يهدف آمون إلى تأريخ أجهزة الصورة، ولا وضع قائمة لتطورها، بل الوقوف عند محطات وأوقات أساسية في وجود الصورة التاريخي والجوهري، بشكل مقتضب، منذ ظهورها وصولاً إلى التغيرات الحديثة، وذلك عبر استخلاص قيم عامة بعيدا عن سرد متسلسل لأحداث.
ولادة الصورة: نحن نعلم أن إنسان العصر الحجري كان ينتج صورا، منذ اكتشاف مغارة ألتاميرا، 1879م، وتأكدت تلك الحقيقة في القرن العشرين مع اكتشاف عدد وافر من الكهوف والمغارات التي قدمت عددا من الصور المؤثرة في واقعيتها.
البورتريه والأيقونة: للوصول لتصوير وجه بشري بل لشخص ما، ووجه مفرد، كان لابد من علاقة مع المقدسات الموت، ففي اليونان القديمة استقبلت النصب الجنائزية صورة الميت شيئًا فشيئًا، وكأنه إظهار لوصوله للعالم الثاني، وقد يكون ذلك استراتجية ردعية تحول دون عودته، وهو ما يسمي تقريبًا بورتريه جنائزي. أما البورتريه الحديث، فابتداءً من القرن 15 وعى الناس ما يسمونه اليوم بورتريه، وهي صور أرادوها متشابهة لأفراد يمكن التعرف إليهم وتسميتهم بشكل افتراضي على الأقل، وعلاقة البورتريه بالاسم علاقة تفرد فكل واحد منا له اسم خاص به وبورتريه خاص به وحده. فكلاهما يعبر عن الهوية.
عظمة المنظور وسقوطه: يعد المنظور مظهر من مظاهر التحول الهندسي البسيط والشائع، يسمى تشابه الوضع. ومن هنا، كان السؤال هل يجب أن تعتمد الصورة التي تهدف لتمثيل الواقع، اتفاقات مماثلة؟ فإن كان الجواب: نعم فيكيف يمكننا نقل الشروط الطبيعية الحقيقية في نظرنا؟ ولكن لا يمكن نقل تمثيل الفضاء في الصور البسيطة مثل اللوحات الفنية، والصورة الفوتوغرافية، والفيلم إلا بشكل جزئي. وهناك نوعان أساسيان مهمان من المنظور هما: المنظورات التي لها مركز، والمنظورات على خط مستقيم.
الصورة المتحركة: لم يكن اختراع الصور المتحركة فوريًا فقد استغرق قرنًا كاملا (19)، وجاءت حركية الصورة نتيجة اختراعات متباينة، وتعلقت في بدايتها بمظاهر ثانوية مبدئيًا عن النشاط الاجتماعي، مثل الألعاب، وثمة أجهزة كثيرة مهدت السبيل لتلك النقلة الخاصة بالسينما.
المصائر الحالية للصورة: تمتاز الاختراعات بكونها الحافز الذي يشجع على الاختراعات، بلا نهاية، وثمة سجلان من الاختراعات تمتعا بنوع خاص من الاهتمام هما: الفيديو، واختراع الصور الرقمية.
قدرات الصورة:
يتعلق هذا الفصل الأخير، بالوقوف عند قدرات الصورة التي أظهرتها، ومازالت تظهرها، رغم التحولات التي شهدتها على مدار العقود الأخيرة. ويحصر جاك آمون هذه القدرات في ثلاث عناوين كبيرة دالة على مهمات أو قدرات أساسية هي:
1 - الحديد والإخبار، 2 - التعبير، 3 - التمثيل والتقديم.
- التحديد والإخبار: علاقة الصورة بالمعني، تؤدي إلى الاهتمام بالجزء المخصص للكلام الشفهي في الصورة، فلقد قامت المقاربة السيميائية على أساس أن اللغة النموذج والقاعدة لكل ظاهرة من ظواهر الاتصال والتحديد، بل ذهب ميتز إلى أنه لا وجود للرموز الأيقونية في حد ذاتها إلا بالنسبة إلى الكلام الشفهي. لكن من الصعب وفق تجارب عدة مقارنة الطريقة التي تنقل بها الصورة واللغة المعلومات، ولهذا تبنت مدارس سيميائية كبيرة لهذه الفرضية، إما لأظهار الفورارق بين المعنى الذي تعطيه الصورة والكلمة, أو عكس ذلك، لإبراز أوجه التشابه والعلاقات الضرورية بينهما. أما على صعيد تفسير الصورة، فهي تخضع لمسألة التفسير العامة للنصوص وفلسفتها العامة.
- التعبير: المعنى المباشر للتعبير قائم على دفع شيء ما للخروج، ولكن هناك إجابات مختلفة حول تفسير ماهية هذا الشيء، والوسائل التي يعتمدها العمل الفني ليكون تعبيريًا. وميز آمون بين أربع تحديدات كبيرة للتعبير هي: التعبير بالمعنى البرغماتي أو المشاهدي، ويعني أننا نصف بالتعبيري كلّ ما يخلق نوعًا من الحالة العاطفية عند من يتوجه إليه. وهناك المعنى الواقعي، إذ نصف بالتعبيري كل ما يعبر عن الواقع، وفق هذه النظرية، فإن عناصر التعبير هي عناصر المعنى/ معنى الواقع. وهناك التعبير بالمعنى الذاتي: إذ نصف بالتعبيري كل ما يعبر عن فرد، وبشكل عام، كل فرد مبدع. أخيرًا، هناك التعبير بالمعني الشكلي، فالتعبيري كل عمل يكون شكله تعبيريًا، وهؤلاء المنظرين يؤمنون بتعبيرية باطنية للشكل، إما بإسناد شكل العمل لفهرس من الأشكال يوضح تعبيريته. أو التفكير في الشكل وكأنه مجال حي وعضوي.
- التمثيل، التقديم: كلمة التمثيل مشحونة بطبقات من المضامين يصعب نسب معنى واحد لها لا غير، فهناك التمثيل المسرحي، والتمثيل النيابي، وتمثيل الصورة، وغالبًا ما نميل إلى الخلط بين مفهوم التمثيل، ومفهوم التماثل، ولطالما كانت الصور التي ينتجها الإنسان تماثلية نوعًا ما، منذ الرسومات الجدارية واختراع التصوير الفوتوغرافي. لكن يعني التمثيل المطابقة فالفكرة المحورية وراء التمثيل وتأسيس البديل تفترض جزءا كبيرا من العشوائية والاتفاق، ومثال المسرح واضح لأن الأشكال المسرحية تلائم سياقًا ثقافيًا معينًا، ولا يكون لها أي معنى ولا مغزى خارج إطاره. وبشكل معاكس هناك من المنظرين الذين رأوا أن هناك بعض تقنيات التمثيل أكثر طبيعية من غيرها، وخصوصا فيما يتعلق بالصور.
مهما يكن من أمر، تظل قدرات الصورة غير محصورة، إذ تظل فاعلة على مستويات لا حد لها، بل تظل الصورة- حتى الأكثر تفاهة- تظهر لنا كظاهرة خاصة. ورغم غموض مفهوم صورة وتنوعه، تظهر الصورة أيضًا مجالاً منفردًا في جربتنا وفي حياتنا.
تغريد
اكتب تعليقك