
الحكايات الشعبية حكايات عالمية حكاية الطير الأخضر وشجرة العرعر
يقدِّم هذا البحث دراسة مقارنة تنصب على حكاية شعبية واحدة ذات روايات مختلفة في البلاد العربية، ويقارنها بحكاية مشابهة لها في اللغة الألمانية، ويوضح ما بينهما من وجوه اتفاق واختلاف، ويفكِّك عناصرها، ويربطها بمثيلاتها في الأسطورة والدين والتاريخ والآداب، لكي تتضح قيمتها المعرفية والجمالية،
ويعمد إلى تأويل بعض العناصر، ثم يفسر التشابه بين الحكايات والتطابق، ثم يثير مشكلة التوثيق والتدوين، ويخلص البحث إلى وحدة الحكاية الشعبية العربية على الرغم من تعدد أشكال روايتها، ويرى أنه من الصعب تحديد زمان الحكاية أو مكانها أو الأصل فيها، ويقدم البحث في أثناء ذلك إجراءات نقدية وتحليلية وتأويلية ومقارنة.
1 – تعريف الحكاية الشعبية:
يمكن تقديم تعريفين للحكاية، الأول ظاهري إجرائي، والثاني بنيوي تكويني، التعريف الأول يقول: هي أحدوثة يسردها راوية في جماعة من المتلقين، وهو يحفظها مشافهة عن راوية آخر، ويؤديها بأسلوبه، غير متقيد بألفاظها، ولكنه يحافظ على شخصياتها وحوادثها، ومجمل بنائها العام، وقد يغير في بعض حوادثها وشخصياتها، بل قد يضيف إليها عناصر من حكاية مختلفة، أو قد يصل بها حكاية أخرى أو جزءًا من حكاية1، وبالتأسيس على هذا التعريف الإجرائي يمكن تقديم التعريف الثاني، ويقول: الحكاية الشعبية هي مجموعة عناصر أو بنى جزئية ثابتة تتكرر يمكن تركيبها مرات ومرات لصنع حكاية جديدة.
2 – تشابُه الحكايات في لغة واحدة:
تتشابه الحكايات في أماكن مختلفة من العالم بل قد تتطابق، من ذلك حكاية “الطائر الأخضر”، وهي متداولة في سورية2 والعراق3 وفلسطين4 وليبيا5، بروايات تتفق كثيرًا لتختلف قليلاً، فهي ذات عناصر أساسية واحدة ثابتة، ولكن روايتها تختلف، ولغتها تتغير، وقد تحذف منها عناصر وقد تضاف إليها عناصر، ولكن تبقى العناصر الأساسية فيها ثابتة، وتتلخص العناصر الأساسية الثابتة في النقاط التالية: تموت الأم فتترك ولدًا وبنتًا، ويتزوج الأب، فتظلم زوجته الولدين، ثم تذبح الصبي، وتطعمه لأبيه، وتدفن أخته عظامه تحت شجرة، فيتحول إلى طائر، ينشد أغنية، ثم يحضر ثلاثة أشياء يجزي بها أباه وزوجة أبيه وأخته، ثم يرجع ولدًا.
وقد يضاف إلى هذه الحكاية في هذا البلد أو ذاك عناصر أخرى، بل قد تُوصَل بها حكاية أخرى، أو قد تتغيَّر بعض العناصر، ولكن اختلاف الروايات لهذه الحكاية في كل من سورية والعراق وفلسطين وليبيا لا يغيِّر في شيء من بنيتها، ولا في دلالاتها، إذ يبدو أنها ذات أصل واحد، ولكن اختلفت أشكال روايتها من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، ومن لهجة إلى لهجة.
3 – تشابه الحكايات في لغات مختلفة:
وتتشابه كثير من الحكايات مع حكايات أخرى، على الرغم مما بينها من الاختلاف في اللغة والزمان والمكان، من ذلك حكاية ليلى والذئب، وحكاية سندريلا، وحكاية عقدة الإصبع، وحكاية الأخوات الثلاث، وحكاية الإخوة الثلاثة، فمثل هذه الحكايات معروفة في أرجاء كثيرة من العالم وبلغات مختلفة، وإن اختلفت أشكال الرواية.
وتتشابه بعض الحكايات في ألمانيا مع بعض الحكايات العربية إلى حد التطابق، ومن ذلك حكاية حكاية “شجرة العرعر”Von dem Machandelboom) (The Juniper Tree التي رواها الأخوان جاكوب (1785 – 1863) وفيلهلم جريم (1786 – 1859) (Bruder Grimm) (Jacob & Wilhelm Grimm) في كتابهما “حكايات الأطفال والبيت” (1812) وقد جمعا فيه مئتي حكاية شعبية ألمانية6.
ولا تختلف حكاية “شجرة العرعر” عن حكاية “الطائر الأخضر” في غير التفاصيل، وتبقى العناصر الأساسية المكوِّنة في كل منهما واحدة، إذ تروي أن زوجة لم ترزق بولد فاتجهت إلى شجرة العرعر المنتصبة أمام بيتها، وبينما كانت تقشر تفاحة جرحت إصبعها، وسال الدم على الثلج، فتمنَّت أن ترزق بولد أحمر كالدم أبيض كالثلج، وتمر الأشهر، وتورق الأغصان، وتنعقد الثمار، وتضع الزوجة ولدًا، ولكنها تموت، فيتزوج الأب امرأة، فيُرْزَق منها ببنت، فتغار زوجة الأب من الصبي، وتحقد عليه، وذات يوم تدعوه ليتناول تفاحة من الصندوق، ثم تدفعه إلى داخله، فيسقط باب الصندوق على رأسه، فيفصله عن جسده، ثم تطبخه في قدر، وتطعمه أباه، وتجمع أخته عظامه، وتدفنها تحت شجرة العرعر، فيتحوَّل إلى طائر ينشد أغنية تسرد حكايته، يدهش لسماعها كل مَنْ يسمعها، ويحصل بفضل روايته هذه الحكاية على سلسلة ذهبية من صائغ، وعلى حذاء أحمر من حذاء، وعلى حجر الرحى من عمال في الطاحون، ويحمل السلسلة في قدم، والحذاء في أخرى، ويحمل حجر الرحى في عنقه، ويمضي إلى بيت أبيه ليصدح بالغناء خارج البيت، فيخرج أبوه فيرمي السلسلة الذهبية في عنقه، ويمنح أخته زوج الأحذية، في حين يرمي حجر الرحى فوق رأس زوجة أبيه، ثم يحط على الشجرة، وما يلبث أن يعود غلامًا سويًّا، ليعيش مع أخته في هناءة وسرور.
4 – العناصر المشتركة:
وتشترك الحكاية العربية والحكاية الألمانية في عناصر واحدة، وتمثل العمود الفقري للحكاية، ثم تضاف إليها عناصر أخرى هنا وهناك، ويمكن أن تعد هذه الإضافات ثانوية، ومن أبرز العناصر الأساسية والثابتة والمتكررة العناصر التالية: موت الأم/ زواج الأب/ ظلم زوجة الأب/ ذبح زوجة الأب الولد/ تناول الأب لحم ولده/ حفظ الأخت عظم أخيها/ تحوُّل الولد إلى طائر أخضر/حصول الطائر على ثلاثة أشياء مكافأة لترديده أغنية/ إهداء الطائر كلًّا من أبيه وأخته وزوجة أبيه شيئًا يجازي موقفه منه، وتتحرك هذه العناصر داخل الحكاية، كأنها الصبغيات المورثة، وتختلف الروايات، ولكن لا تختلف المكونات، أو العناصر الثابتة، على الرغم من اختلاف اللغة والزمان والمكان.
5 – الفرق والاختلاف:
ومن الممكن ملاحظة بعض الإضافات أو الفروق بين الحكاية العربية والحكاية الألمانية:
1ـ ظهور شجرة العرعر في الحكاية الألمانية، وهي تجعل حَمْل المرأة في ظلها بعد طول تأخر في الحمل، وتجعل الحمل عند المرأة متوازيًا مع الخصب في الطبيعة، بأسلوب رمزي غير مباشر، ثم تجعل دفن العظام في ظل الشجرة، وبعثها في شكل طائر في ظلها أيضًا، ثم تجعل تحول الطائر إلى إنسان في ظل الشجرة، فالشجرة هنا رمز الحياة بما فيها من ولادة وموت وبعث وتحول، وتعدّ شجرة العرعر عند الألمان شجرة مقدسة، وما تزال الشجرة تحظى بالتقديس إلى اليوم لدى كثير من شعوب العالم، وكثيرًا ما تنصح المرأة العاقر أن تلجأ إلى شجرة معينة في وقت معين لتقعد في ظلها أو تدخل في جوفها على أمل أن تحمل، وهو طقس بدائي يعود إلى مفهوم الخصب في الطبيعة.
وفي الروايات العربية للحكاية في الريف تدفن العظام تحت شجرة الزيتون، كما في الرواية الليبية، في حين تجعلها الروايات العربية في المدينة تدفن في حديقة المنزل، كما في الرواية السورية، في حين تجعلها الرواية في فلسطين تدفن في الحاكورة، وسرعان ما تتحول الحاكورة إلى جرن من رخام فيه ذهب وفضة وجواهر.
ولا تقيم أي من الروايات العربية علاقة بين حمل الأم بالولد وإثمار الشجرة وخصب الطبيعة، لأن الحكاية العربية تبدأ والزوجة قد ماتت وتركت ولدين، لتأتي بعد ذلك زوجة الأب، فالحكاية العربية أقل عجائبية في هذا المجال وأقل ارتباطاً بالطبيعة، وهي لا تصور كيف خرج الطائر من الشجرة، في حين تصور الحكاية الألمانية إعصارًا أحاط بالشجرة خرج بعده الطائر، وتصور إعصارًا آخر تحول الطائر بعده إلى غلام.
2 ـ تجعل الحكاية الألمانية الولد ابن الزوج والبنت ابنة الزوجة، فهما أخوان لأب واحد، من والدتين اثنتين، بخلاف الحكاية العربية التي تجعلهما شقيقين، ولا تذكر للزوجة الجديدة أي ولد، ولعل الغاية من ذلك في الحكاية الألمانية أن تجعل حقد زوجة الأب ذا أبعاد مختلفة، منها الغيرة من الولد على ابنتها، والرغبة في أن تكون ابنتها الوريثة، ولعل غاية الحكاية العربية أن تجعل زوجة الأب أكثر حقدًا على الولد والأخت معًا، لأنها لم ترزق بولد، ولعل الحكاية العربية تريد أن تجعل عطف الأخت على أخيها أقوى، فجعلته الأخ الشقيق، في حين جعلته الحكاية الألمانية أخًا غير شقيق، ولعل مرجع ذلك أيضًا إلى الثقافة العربية التي ترى الأخ الشقيق أكثر قرابة من الأخ غير الشقيق، ومهما يكن من أمر، فإن زوجة الأب تقتل الذكر في الحكايتين، وقتل الذكورة في الحكاية هو دليل رغبة في إخصاء الزوج لتأكيد السيطرة عليه، وتحقيق الأنوثة الطاغية، يؤكد ذلك استبقاء المرأة على البنت في الحكايتين، فالمرأة تحفظ الأنثى، لأنها مثيلتها، ولتؤكد طغيانها وسيطرتها، في حين تقتل الذكر.
3 ـ تجعل الحكاية الألمانية الأب لا يعرف أنه يأكل لحم ولده، ولذلك يكافئه الطير بسلسلة ذهبية يجعلها في عنقه، في حين تصوره إحدى الروايات للحكاية العربية عارفًا برغبة الأم في قتل الولد، ويوافق على ذلك، لأنها تقنعه بأنها حامل، وأن حملها لن يتم إذا لم تأكل لحم ولد، وفي الروايات العربية كلها يُجَازَى الأب بالسم يلقيه الطائر في حلقه فيموت، وفي هذا تأكيد لرغبة المرأة في إخصاء الذكورة.
4 ـ تجعل الحكاية الألمانية الشيطان أو ما تسميه الشرير (BOSE) هو المحرِّض للأم على قتل الصبي، بالإضافة إلى كراهيتها له، وحقدها عليه، في حين لا تذكر الروايات العربية الشيطان، وتقدم إحدى الروايات العربية مسوغًا، وهو تمارض الزوجة، وادعاؤها أن شفاءها في لحم الولد، في حين تقدم رواية عربية أخرى مسوغًا آخر، وهو حمل الزوجة وادعاؤها أنها حاملة بذكر وأنها سوف تسقط الجنين إذا لم تأكل لحم ذكر، على نحو ما فعلت جارتها، مما يجعل زوجها يستسلم لإرادتها، وفي رواية أخرى تذكر غلاء اللحم ونصيحة الجزار للزوجة أن تذبح الولد لتأكل لحمه، أي إن الروايات العربية تختلق أعذارًا واهية للمرأة كي تذبح الولد.
5 ـ تجعل الرواية العراقية للحكاية امتدادًا، إذ تجعل الطائر يشرب من نبع، فيتحول إلى غزال، ثم يمر هو وأخته بتجارب كثيرة، تعاني فيها أخته من مصاعب كثيرة إلى أن يعود أخوها بشرًا سويًّا، وهذا الامتداد يبدو وصلاً لحكاية بحكاية أخرى، أو لعله من تركيب الراوي وابتكاره.
6ـ تجعل الرواية الفلسطينية زوجة الأب تذهب مع زوجها إلى عرس، وتبقى الأخت وحدها في البيت، فتلجأ إلى الحاكورة، حيث دفنت عظام أخيها، لتجد الحفرة قد تحولت إلى جرن من رخام مليء بالجواهر والذهب والأساور، وفيه ثوب فاخر، وسرعان ما يحلِّق منها الطائر، فترتدي الأخت الثوب الفاخر، وتتزين بالأساور والحلي، وتمضي إلى العرس، وهناك يحضر الطائر الأخضر، وهذا العنصر الدخيل على الحكاية يشبه عنصرًا ممائلاً في حكاية سندريلا التي رواها الأخوان جريم أيضًا، ولعله من خلط الراوي للحكاية.
7 ـ تبدو الحكاية الألمانية أكثر احتفاء بالعجائبية والسحر والقدرة على إثارة الخيال، ومن ذلك انغلاق الصندوق على رأس الغلام وانفصال رأسه عن جسده، ثم تركيب زوجة الأب الرأس على الجسد ولفها منديلاً في موضع العنق، بحيث لا يظهر أي أثر، ومن ذلك أيضًا العاصفة التي تلف الشجرة ثم يظهر الطائر بعدها في شكل إنسان.
8 ـ تبدو الحكاية الألمانية أكثر احتفاء بالإضحاك من خلال العجائبية أيضًا، ومن ذلك حمل الطائر حجر الرحى في عنقه، ومن ذلك أيضًا طلب الأم من ابنتها أن تضرب الغلام على رأسه، وهو قاعد فوق الكرسي، وإذا برأسه يسقط منفصلاً عن جسده، ومثل هذه العناصر العجائبية تغيب عن الروايات العربية.
6 – جذور الحكاية:
ومن الممكن البحث عن جذور الحكاية من خلال رد أبرز العناصر فيها إلى ما يشبهها في الثقافة الإنسانية من أسطورة ودين وتاريخ وشعر وأدب وحكايات.
تحول الإنسان إلى طائر والطائر إلى إنسان:
1 – تروي الأسطورة الآشورية أن سمير اميس رمتها أمها عقب ولادتها في الغابة، فرعتها حمامات بيض كانت ترفُّ فوقها بأجنحتها، وحين كبرت تزوجت أحد القادة، ثم حكمت فارس وأثيوبية وليبيا وأسست بابل ونينوى، وعندما ماتت تحولت إلى حمامة بيضاء7.
2 – وكانت العرب في الجاهلية تزعم أن روح القتيل الذي لا يُأخذ بثأْره تصير هامة، فتقول: اسقوني، فإذا أُخِذَ بثأره طارت، وقيل: كانوا يزعمون أن عظام الميت، وقيل روحه تصير هامة فتطير، ويسمونه: الصدى، فنفاه الإسلام ونهاهم عنه8.
3 ـ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم9: “… لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش”.
4 ـ وقال توبة بن الحُمَيِّر الخَفَاجي (ت 85هـ 704م) يذكر حبيبته ليلى ويؤكد حبه لها حتى في موته، إذ لو سلمت عليه وهو ميت في قبره لرد عليها السلام صدى من جانب القبر، وكان العرب يعتقدون أن الروح تتحول إلى هامة أو صدى وهي البومة تقف على القبر وتصيح10:
ولو أنَّ ليلى الأخيليةَ سَلّمت
لسلمـتُ تسليـمَ البشاشةِ أوزقا
عليَّ ودوني جَنْدلٌ وصفائحُ
إليها صدىً من جانبِ القَبر صائحُ
5 ـ وكتب أبو العلاء المعري (ت 449 هـ 1057م) في رسالة الغفران يصور مشهدًا في الجنة11: “ويمرّ رفٌّ مِن إِوَزِّ الجنة، فلا يلبث أن ينزل على تلك الروضة … فينتفضن فيصرن جواري كواعب يرفلن في وشي الجنة، وبأيديهن المزاهر وأنواع ما يلتمس به الملاهي”.
6 ـ ويبدو حلم الإنسان بالتحليق والتحول إلى طائر حلمًا قديمًا ملأ حياته وشغل خياله حتى إن العرب في الجاهلية عبدو النسر لما لمسوا فيه من قوة وإيحاء بالحرية.
واختيار اللون الأخضر للطير يوحي بالخصب والخير والنماء، ويوحي بالطبيعة في الربيع، موسم الخصب والولادة والتكاثر، ويمتلك اللون الأخضر إيحاء بالطهر والقداسة في الأديان السماوية.
الشجرة:
يحمل الإنسان في لاشعوره نحو الشجرة شعورًا متميزًا، إذ يرى فيها الخصب والأنوثة، وقد يميل إلى تقديسها.
1 – عبدالعرب العزى في الجاهلية، وكانت نخلة، وعبدوا كثيرًا من الأشجار، وقد ذكر المولى عز وجل أصحاب الأيكة غير مرة، ومنها قوله عز وجل في التنزيل العزيز12: (وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ) (الحِجر: الآية 78 – 79)، وكانوا يعبدون الأيك، وهو نوع من الشجر.
2 – وقد ذكر المولى عز وجل الشجرة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، وتدل في بعض المواضع على قدسيتها، ومنها الموضع الذي خاطب فيه المولى عز وجل نبيه موسى علي السلام في الوادي المقدس عند الشجرة، يقول تعالى في محكم التنزيل13: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (القَصَص، الآية: 29 – 30).
3 – وحين قذف الحوت بيونس عليه السلام إلى اليابسة أنبت الله عليه شجرة، قال تعالى14: (وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) (الصَّافَّات، الآية: 146).
4 – وقد ضرب الله عز وجل لنفسه مثلاً بالنور، وهو عز وجل فوق المثل والتشبيه، إذ ليس كمثله شيء، ثم شبّه النور بضوء مصباح يوقد من شجرة مباركة، فقال عز من قائل15: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النُّور، الآية: 35).
5 – وذكر المولى تعالى رؤية النبي محمد صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام عند الشجرة المباركة، وهي سدرة المنتهى، قال تعالى16: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى) (النَّجم، الآية: 13 – 14).
6 – كان المسلمون قد بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة ورد ذكرها في القرآن الكريم بقوله تعالى17: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) (الفَتح، الآية: 18). وقد عمد عمر بن الخطاب فيما بعد إلى قطعها خشية أن يقدسها الناس.
قتل الذكور:
شهد التاريخ القديم حالات كثيرة من قتل الذكور، وثمة دوافع كثيرة لمثل ذلك القتل، منها قتل المنتصر ذكور أعدائه المهزومين، وقتلهم تقربًا إلى الآلهة، وقد رسخت تلك الحالات في لاشعور الإنسان.
1ـ يذكر المولى تعالى قتل فرعون الذكور، فيقول في القرآن الكريم مخاطبًا بني إسرائيل18: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (البَقَرَةِ 49).
2 ـ ويذكر المولى تعالى طاعة إبراهيم عليه السلام لربه باستجابته لأمره أن يذبح ولده إسماعيل، وقد همّ ولم يفعل، إذ افتداه ربه، وكانت الغاية اختبار طاعته، ومقدار استجابته لمولاه، يقول المولى تعالى عن إسماعيل وأبيه إبراهيم عليهما السلام19: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصَّافَّات، الآية: 102).
3 ـ نذر عبد المطلب لئن آتاه الله عشرة أبناء وبلغوا أن يمنعوه لينحرن أحدهم عند الكعبة20 …ولما تم أبناؤه عشرة، وعرف أنهم يمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه، فقيل إنه أقرع بينهم، فطارت القرعة على عبدالله، وكان أحب الناس إليه، ثم أقرع بينه وبين مئة من الإبل، فطارت القرعة على المئة من الإبل، وروي عن النبي أنه قال: “أنا ابن الذبيحين”، يعني إسماعيل وأباه عبدالله.
4 ـ يصور الحطيئة (ت 45 هـ 665م) في قصيدة له ضيفًا طرقه ليلاً، ولم يكن عنده ما يضيفه به، فهمَّ بذبح ولده، ليكرم ضيفه، ولكن سربًا من الظباء مرّ به، فاصطاد وأكرم ضيفه، وأنقذ ولده، وقد تكون القصيدة غير صحيحة النسبة إلى الحطيئة، ولكنها تظل ذات دلالة على ذبح الولد، وفيها يقول21:
رأى شبحًا وسط الظلام فراعه
فلما بدا ضيفًا تشمر واهتما
وقال: هيا رباه ضيف ولا قرى
بحقك لا تحرمه تا الليلة اللحما
فـقـال ابنـه لمـا رآه بـحـيرة
أيا أبت: اذبحني ويسر له طعما
فروّى قليلاً ثم أحجـم برهة
وإن هو لم يذبح فتاه فقد هما
ويلاحظ أن الإشارات الثلاث السابقة تذكر الأب وهو يهمّ بذبح الولد ولكنه لا يذبحه، مما يعني أن تلك العادة قد أصبحت قديمة جدًّا، ولم يبق منها سوى النية والعزم لا التنفيذ، وأنه قد وجدت أساليب للخلاص منها بافتداء الذبيح.
الأغنية:
تتكرر الأغنية في الحكاية العربية برواياتها المختلفة كما تتكرر في الحكاية الألمانية، وهي تتكرر نحوًا من ست مرات على الأقل، أو اثنتي عشرة مرة، إذ يكررها الطائر مرتين أمام كل من الصائغ والحذاء وعمال الطاحون، ويكرّرها مرّتين أمام أبيه وزوجة أبيه وأخته، كما في الحكاية الألمانية، ويكرّرها على النحو نفسه في الروايات المختلفة للحكاية العربية. والغناء نزعة إنسانية راسخة لدى الشعوب كافة، وهو تعبير عن حالة انفعالية، وله في معظم الحالات وظيفتان، الأولى تعبيرية والثانية تأثيرية، وتتمثل الوظيفة التعبيرية في تفريغ ما في النفس من حس وانفعال وطاقة، كما تتمثل الوظيفة التأثيرية في نقل الانفعال والحس والإدراك والوعي إلى الآخرين، وفي بعض الحالات تحريضهم على الفعل ودفعهم إليه. وقد أدت الأغنية هاتين الوظيفتين داخل الحكاية خير أداء، فقد عبرت بإيجاز عن تجربة الطائر الأخضر، ودفعت الأشخاص الثلاثة إلى إعطائه ما يريد من ذهب أو سم أو دبابيس أو حجر الطاحون أو حذاء، وفق تعدد الروايات واختلافها، ومما لا شك فيه أن للأغنية داخل الحكاية وفي أدائها وظائف أخرى، فهي تسلِّي الأطفال، وتشوِّقهم، وتشدهم إلى متابعة الحكاية، وتعلمهم اللغة واللحن واللفظ الصحيح وحسن الأداء.
ومثل هذه الوظيفة للأغنية تجري في نسق وظيفة الكلمة في تاريخ الشعوب على اختلاف تجليات الكلمة الملحنة أو المغناة في الأسطورة أو الدين أو الشعائر أو الطقوس أو السحر أو الشعر أو الخطابة على مختلف أشكالها وأنواعها.
وفيما يلي نص الأغنية في الحكاية الألمانية:
أمي التي ذبحتني
وأبي الذي أكلني
أختي مارلين تجمع كل أطرافي
تصرّها في منديل حريري
وتضعها تحت شجرة العرعر
ويت ويت وصرت أنا طائرًا جميلًا
وفيما يلي نص الأغنية في الرواية السورية للحكاية:
أنا الطير الأخضر بمشي وبتمختر
خـالـتي ذبحـتني وأبـوي أكلـنـي
وأخـتي الحـنـون جمعت عظامي
ورمتني بالمرج الأخضر
وفيما يلي نص الأغنية في الرواية الفلسطينية للحكاية:
أنا الطير الاخظر المزين المحظر
خالتي ذبحتني وأبوي أكلـني
وأختي الحنونة حنّ الله عليها
لملمت عظاماتي وحطتهن بجرن الرخامات
وفيما يلي نص الأغنية في الرواية الليبية للحكاية:
أنا الطوير ليخيضر بـــويــــا دبـحــني
وعمتي اطبختني واختي الحنونة المنونة
لقطتني اعظيم اعظيم اوحطتني تحت الزيتونة
وواضح ما في الأغنية من إدهاش، وتلخيص للحكاية، وما فيها من إيقاع غنائي جميل، وألفاظ سهلة رشيقة. ومن خلال استعراض الأغنية في رواياتها المختلفة يبدو أن الحكاية هي أصل الأغنية، وجاءت الأغنية لتلخصها، ولتعرف الأب على حقيقة الأمر. ويلاحظ أن الروايات العربية للأغنية أغفلت صوت الطائر الذي يقلده الراوي بقوله: “كو كو كو كو” مرتين اثنتين، مع قصر الواو في كو الأولى والثانية، ومدها في الثالثة والرابعة، ولم تغفل الرواية الألمانية صوت الطائر، بل دوَّنَتْه، ولتقليد الراوي صوت الطائر أثر كبير في نفس المتلقي، وهو جزء لا يتجزأ من الأداء الفني للحكاية. وقد روى الأغنية نفسها الشاعر الألماني غوته في المشهد الختامي من الجزء الأول من فاوست حيث يظهر مفستوفليس أمام سجن مرجريت، فيسمعها تغني:
أمي الفاجرة قتلتني
وأبي النذل تلقمني
أختي جمعت عظمي
دفنته بمكان رطب
وكانت مرجريت قد أغرقت ابنها وتسببت في موت أمها ومصرع أخيها، ويدخل عليها مفستوفليس فتظنه الجلاد قد جاء يسوقها إلى ساحة الإعدام، ولكنها سرعان ما ترى فاوست الذي يدعوها إلى الهرب، ولكنها ترفض، وتفضل البقاء في السجن لتلقى العقاب وتطهر روحها، ثم تتوسل إلى الله تسأله المغفرة، وفي اللحظة التي يعلن فيها مفستوفلس إدانتها يعلو صوت آخر يؤكد نجاتها، ويرجح أن يكون غوته22 قد كتب هذا المشهد عام 1791.
ولعل في تلك العناصر، من شجرة وأغنية وقتل الذكور وطائر وغيرها، ما يدل على رسوخ عناصر بعينها من الثقافة في ضمير الإنسان، وفي ثقافات الشعوب، لتشكل لا شعور الفرد، ولاشعور الجماعة، ولتظهر في صور وأشكال مختلفة فيما بعد، وفي توظيف مختلف، ومغزى آخر.
5 – تفسير التشابه والتطابق:
قد يبدو تفسير التشابه أو التطابق بين الحكايات في سورية والعراق وفلسطين وليبيا سهلاً، فهي ببساطة روايات مختلفة لحكاية واحدة، تمثلها ثقافة واحدة هي الثقافة العربية، وما يظهر من تشابه أو تطابق هو في الواقع دليل وحدة الحكاية الشعبية العربية، فهي حكاية واحدة، تروى تارة في هذا القطر وأخرى في ذاك، بلهجة هذا البلد أو لهجة الآخر، مع قليل من التغيير أو التحوير، وفق ذاكرة الراوي، ووفق مقدرته على الإضافة والتغيير، وأحياناً وفق موهبته في الخلق والابتكار.
وإذن يمكن القول إن الحكايات في الوطن العربي واحدة، وقد يرجع بعضها إلى عصور بعيدة، كحكاية الأفعى23 التي أبرمت عهداً مع الراعي، على أن يعزف لها على شبابته، فتمنحه ليرة ذهبية، ولا تؤذيه ولا يؤذيها، وقد أقاما على هذا الود بينهما ردحًا من الزمن، إلى أن مرض ذات يوم، وأوكل المهمة إلى ابنه، فطمع وضربها بفأسه كي يحظى بكل الذهب المخبوء في جحرها، فلم يصبها وإنما شجها، فعقصته فمات، ولما دعاها الراعي إلى ما كانا عليه من عهد أبت، مؤكدة أنها لن تنسى أذى ابنه، وأنه لن ينسى ثأره، وقد روى النابغة الذبياني (ت 18 ق.هـ 605 م) الحكاية في قصيدة له مطلعها24:
وإني لألقى من ذوي الضغن منهم
وما أصبحت تشكو من الوجد ساهره
كما لقيت ذات الصـفا من حليفها
وما انفكت الأمثال في الناس سائره
والحكاية ما تزال متداولة إلى اليوم في أرجاء مختلفة من الوطن العربي، وبروايات لا تختلف إلا قليلاً25، ولعل في هذا كله ما يكد ثانية وحدة الحكاية العربية. ولكن ما تفسير التشابه إلى حد التطابق بين حكاية في ألمانيا وأخرى في الوطن العربي، أو في أنحاء أخرى من العالم؟ ثمة ثلاثة تفسيرات يمكن تقديمها: ثمة رأي يقول بوحدة المنشأة، ويرى أنه في مكان ما وزمان ما ظهرت حكايات ما، ثم انتشرت في بقاع الأرض، مثلها مثل اللغة الأولى، ومن الصعب تحديد أي من تلك الوحدات الثلاث، وثمة رأي يقول بتعدد المنشأ ويرى أن حكايات مختلفة ظهرت في أماكن مختلفة وفي أوقات مختلفة، وكانت تعبر عن تجربة إنسانية واحدة، فجاءت متشابهة، مع بعض الاختلاف، وثمة رأي ثالث يقول بالتأثر والتأثير، ويرى أن التشابه يرجع إلى اتصال الشعوب بعضها ببعضها الآخر، بالحروب أو التجارة أو الرحلات، وعن هذا الاتصال حدث التأثر والتأثير، وكل رأي من الآراء الثلاثة السابقة يمكن دعمه بالحجج، ولكن من الصعب أن يدحض أحدها الآخر.
يؤكد الرأي الثاني جيمس فريزر فيقول26: “إن الأبحاث التي تمت أخيرًا حول التاريخ المبكر للإنسان كشفت عن مدى التشابه الأساسي في عمليات العقل البشري وهو يضع فلسفته الأولى الساذجة عن الحياة، وإن كان هناك بالطبع كثير من الفوارق الثانوية السطحية”، ويؤكد الرأي الثالث أحد الدارسين فيقول27: “إن الحركة الصليبية (1095ـ 1291م) ظلت تحكم الأفكار والمشاعر في الغرب الأوربي فيما بين سنة 1095 وسنة 1400 بصورة شاملة، بحيث لا نكاد نجد كاتبًا معاصرًا لم يشر في كتاباته إلى إحدى الحملات الصليبية أو إلى مصير الدويلات التي قامت أثناءها فوق الأرض العربية”، ويبدو أنه من الممتع المضي في المقارنة بين الحكايات، واكتشاف أوجه التشابه والاختلاف، ومن الصعب بالمقابل البحث عن الأصل أو الجزم برأي.
6 – تأويل الحكاية الشعبية:
إن محور حكاية “الطائر الأخضر”أو “شجرة العرعر” هو اغتراب الولد عن أهله ومروره بمصاعب وتجارب ليعود إليهم وهو أصلب عودًا وأكثر خبرة فيلتئم الشمل Bildungsroman على نحو ما كان من قصة يوسف عليه السلام الذي اغترب عن أبيه يعقوب، ومرّ بتجارب صعبة، ثم اجتمع الشمل، ويوسف أقوى ما يكون، كذلك كان شأن الغلام في الحكاية، فقد مر بغربة عبر تحوله إلى طائر ثم عاد إلى أبيه وأخته واجتمع الشمل، وكما يقول نورثروب فراي إن كل الروايات والقصص ما هي إلا تكرار لأساطير الأولين.
وقد بدأت الحكاية الألمانية والأم تحت شجرة العرعر تقشر التفاحة، فجرحت إصبعها، فسقط الدم على الثلج، فتمنت أن ترزق بولد أبيض كالثلج أحمر كالدم، وواضح دلالة التفاحة على العلاقة الجنسية، وأما الثلج الأبيض فيدل على النقاء والعذرية والبراءة وغياب الخبرة والتجارب والمعاناة، وأما الدم فيدل على ما هو خلاف ذلك، وقد جمع الطفل في الحكاية بين بياض الثلج وحمرة الدم في شكله، كما جمع بين البراءة والنقاء، والألم والمعاناة في حياته.
وتلاحظ البنية الثلاثية في الحكاية، ففي الحكاية الألمانية صانع الأحذية وصائغ الذهب وعمال الطاحون، ويأخذ الطائر من كل طرف شيئًا، فيحمل ثلاثة أشياء، الحذاء والسلسلة الذهبية وحجر الطاحون، وبها يكافئ ثلاثة أشخاص، هم أخته وأبوه وزوجة أبيه، ويتكرر البناء الثلاثي في الحكاية العربية على اختلاف رواياتها، وهذا البناء الثلاثي يقابله بناء ثلاثي آخر في داخل الحكاية، وهو الأب والأم والولد، والمقصود بالولد هنا الأخ والأخت معًا، وهذا هو بناء الأسرة السليم، ولم يتزعزع إلا بظهور كائن آخر، وتدخّله في جسد الأسرة، وتفكيكه البناء الثلاثي، وهذا الكائن الآخر هو المرأة التي تزوجها الرجل بعد وفاة زوجته، وهي التي ذبحت الولد وأطعمته للرجل، ففككت البنية السليمة للأسرة، وقادت إلى جريمتين وهما القتل وتناول لحم الولد، وبذلك تبدو زوجة الأب كائنًا دخيلاً على الأسرة، يدمرها، وهذا يؤكد أن البنية الأساسية للأسرة هي بنية ثلاثية تتألف من الأب والابن والولد، وأي عنصر آخر هو عنصر مدمِّر، وأوضح مثال على ذلك مسرحية هملت لوليم شكسبير، وفيها تقتل الزوجة زوجها الملك بالزئبق تضع في أذنه وهو نائم، وتتزوج عشقها، وهو أخو زوجها، ويقع على الابن هملت عبء كشف الحقيقة والثأر لأبيه، وتنتهي المسرحية بانهيار المملكة وموت كل الشخصيات، بالسم أو القتل، نتيجة تلك الخيانة الأولى.
ولعل الحكاية تسعى برمتها إلى إدانة الزواج الثاني، وتعدّه دخول عنصر غريب على الأسرة، ويدعم مثل هذه الإدانة تناول الأب للحم ولده، فكأنه بشهوته الجسدية وزواجه الثاني قد قاد إلى قتل ولده، وإذا هو يأكل لحم ولده، تأكيدًا لنزوعه الجسدي وغياب نزوعه العاطفي أو الشعوري، ولذلك جزته الحكاية العربية في كل رواياتها بالسم أو بالدبابيس يلقيها الطائر في فمه فيموت.
ولعل وظيفة جديدة تبرز للحكاية هنا وهي إدانة الرجل الذي يتزوج من امرأة أخرى بعد موت زوجته، وتصوير ما يقود إليه هذا الزواج، وهو على الرغم من كونه زواجًا شرعيًّا، فهو إدخال لعنصر غريب في الأسرة، ومما لاشك فيه أن الأكثر إدانة منه هو اتخاذ خدينة أو عشيقة، وبشكل آخر فإن الحكاية تدعو إلى الحفاظ على الكيان المقدس وهو الأسرة، فكأن الحكاية ليست موجهة إلى الأطفال فحسب، بل هي موجهة للكبار أيضًا، ولاسيما الرجال، كي لا يفكر أحد منهم بإدخال عنصر غريب على الأسرة كي لا يأكل لحم ولده وهو لا يدري، ولعل في هذا كله ما يؤكد أن الحكاية تبدعها امرأة، وترويها امرأة، قد تتوجّه بها إلى أولادها أو أحفادها، ولكنها في الواقع تعبر بها عن مكبوت داخلي، وتخاطب بها الكبار خطابًا غير مباشر، ولا سيما الرجال.
7 – شكلات التدوين والحفظ:
من مراجعة الروايات العربية المختلفة لحكاية “الطائر الأخضر” يبدو أنها حكاية واحدة، رويت بلهجات مختلفة، مع بعض الفروق البسيطة في بنيتها الداخلية، وهذا يدل على أن حكاية “الطائر الأخضر” هي حكاية واحدة، وأن تعدد أشكال روايتها في الأقطار العربية بلهجات مختلفة لا يقدم جديدًا في درسها، كما أن اختلاف اللهجات أمر طبيعي، وظاهرة لغوية لا بد منها في اللغات كافة.
إن الراوي للحكاية الشعبية يصطنع وهو يروي حكايته مستوى فنيًا، ليس بالفصيحة، ولكنه ليس بالعامية العادية، إذ يدرك أنه يحكي، وأن عليه أن يؤثر في المتلقين، وهو يؤثر فيهم بلغته، وحركات رأسه ويديه، وتعبيرات وجهه وعينيه، بل يقوم أحيانًا بتلوين صوته وتغييره، بما يشبه التمثيل. ومما لا شك فيه أن هذا المستوى من اللغة يتغير من راوية إلى راوية ومن مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان، ولذلك فلغة الحكاية لغة متحركة، وليست ثابتة، وهي لغة متغيرة، وهي في الحالات كلها لغة الحكاية، أي لغة فنية، وليست اللهجة العامية بالضبط. ومن هنا تبدو القيمة في تدوين الحكاية بالحفاظ على بنيتها الحكائية، بما تتضمن من حوادث وشخصيات ووصف وتصوير وبناء، وليست قيمتها الأساسية في لهجتها، ولذلك ليس من الضروري تدوينها بلهجتها العامية، لأنها لا تكتسب مزيدًا من القيمة إذا دونت بالعامية، ولا تفقد شيئاً من القيمة إذا دونت بالفصيحة، والمهم في الحالتين هو الحفاظ على بنائها.
ويلاحظ أن بعض الروايات للحكاية العربية قد دُوِّنَتْ بالفصيحة وبعضها الآخر دُوِّن بالعامية، وفي الحالتين لم تقدم حكاية “الطائر الأخضر” تقديمًا يفيها حقها من الجمال، وقد كانت في بعض الحالات تلخيصًا، بخلاف حكاية “شجرة العرعر” التي رواها الأخوان جريم رواية كاملة وبلغة جميلة، أعطت الحكاية حقَّها. ويشهد على ذلك الكزاندر كراب فيقول28 : “لقد استعان الأخوان جريم بنقلة نصوص حكَّائين ممتازين، بيد أنه من الظلم أن نسقط من حسابنا تلك الكفاءة الأدبية النادرة التي كانت لرجال من أمثال الأخوين جريم اللذين لم يجمعا ذخائر الفلكلور فحسب، بل أنشأا عملاً أدبيًّا فذًّا يقف على قدم المساواة في تاريخ اللغة الألمانية، مع إنجيل لوثر”.
ويؤكد ذلك أن اللغة التي روى بها الأخوان جريم الحكاية لم تعد مقروءة اليوم ولا مفهومة للألماني نفسه، إلا إذا كان متخصصًا بفقه اللغة الألمانية القديمة، ولا بد من نقل الحكاية من اللغة الألمانية القديمة إلى اللغة الألمانية المعاصرة، ليفهمها الألماني، وهذا ما تشهد عليه المؤلفات الجديدة التي تبسط لغة الأخوين جريم.
ومن هنا تبدو دعوة بعض المهتمين بجمع الحكايات الشعبية العربية إلى تدوينها بلهجتها العامية دعوة غير ذات جدوى، لأن الحكايات الشعبية العربية هي مجرد روايات مختلفة لحكاية واحدة، ولأن قيمة الحكاية ليست في لغتها، وإنما في بنيتها، وفي العناصر المكونة لها، ولهجتها المروية بها لهجة متغيرة غير ثابتة، وتبعدها عن شقيقاتها من الروايات المماثلة لها في الأقطار العربية، ولذلك من الأجدى تدوينها بالعربية الفصيحة بأسلوب مبسط، مع الحفاظ على عناصرها المكونة وبنائها العام ومن غير تدخل.
8 – بيئة الحكاية الشعبية وموطنها:
ولعله من الأكثر غرابة دعوة بعض المهتمين بالحكاية الشعبية إلى التمييز بين حكاية السهل والجبل، والريف والمدينة، بل يدعو بعضهم إلى التمييز بين حكاية حي وحي في مدينة واحدة، وينسى أن الحكايات قد ترجع كلها إلى موطن واحد، وبعد ذلك من الصعب جدًا نسبة حكاية ما إلى موطن ما، أو زمان ما، فحكاية ما عن الصيد والبحر ليس بالضرورة أن تكون نتاج بيئة بحرية، فقد تكون نتاج بيئة صحراوية، إذ يلعب الخيال دائمًا دوره في اصطناع الزمان والمكان والشخصيات والحوادث، وهو العنصر الأكثر فاعلية في الحكاية الشعبية، إن لم يكن في الأدب كله. ولذلك من الصعب تخمين أصل الحكاية، أو القول بالموطن الأصلي لها، أو القول بأسبقية حكاية على حكاية.
9ـ حكاية صينية:
ولذلك يمكن في الختام رواية حكاية صينية لا على أنها الأصل أو المرجع بل على أنها رواية أخرى لحكاية أخرى، تساعد على فتح آفاق للمقارنة، ولكن يصعب القول إنها الأصل. ترجع الحكاية إلى عام 2258 ق.م وهي قصة 29 شاب مغامر اسمه (شان) تزوج أبوه امرأة بعد وفاة أمه فأوغرت صدره حقدًا عليه، فعمد الأب إلى التخلص من ابنه بإشعال النار في مستودع القش الذي كان يعمل فيه آملاً أن يحترق، فأنقذ شان حياته بأن لبس ريش طير وطار به من سطح المستودع.
خاتمة:
تبدو الحكاية الشعبية مجالًا خصبًا لدراسات واسعة في الأدب واللغة وعلم الاجتماع والسياسة والدين والتاريخ، والمقارنة مع الأسطورة ونتاجات الشعوب وثقافاتها، لأنها نتاج شعبي أصيل، يحمل حس الشعب وروحه، ويعبّر عن وعيه وعن لا شعوره الجمعي والفردي، وقد تبين أن تعدد الروايات للحكاية في الأقطار العربية واختلاف لهجاتها لا ينفي وحدة الحكاية الشعبية العربية، بل يؤكدها، لأن عناصرها الأساسية واحدة، وبعض تلك الحكايات تمتد عمقًا في الزمان إلى العصر الجاهلي، أي إلى ما يزيد عن ألف وخمسمئة عام، ومن هنا تبرز أهمية حفظ الحكاية الشعبية وتدوينها، ولعله من الأفضل أن تدون بالفصيحة لأن تدوينها بالعامية لا يخدم البحث في شيء، وتبقى الحكاية العربية شكلاً من أشكال التعبير عن الوجدان الإنساني، وهي لذلك تلتقي في كثير من الحالات مع قصص الشعوب الأخرى، ويبدو من الصعب معرفة أصل الحكاية أو مكانها الأول أو زمانها، لأنها نتاج حي متحرك، قوامه التداول والتغير المستمر.
الهوامش:
1 – محبك، د. أحمد زياد، حكايات شعبية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1999، ص 18
2 – ينظر نص الحكاية عند: الساعي، بسام، الحكايات الشعبية في اللاذقية، وزارة الثقافة، دمشق، 1974.
3 – ينظر نص الحكاية عند: سليم طه التكريتي، مجلة التراث الشعبي، وزارة الثقافة، بغداد، العدد 12، السنة الثالثة، عام 1972. و: نزار الأسود، الحكايات الشعبية الشامية، الكتاب الأول، وزارة الثقافة، دمشق، 1985.
4 – ينظر: إبراهيم مهوي، وشريف كناعنة، قول يا طير، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، لا تاريخ.
5 – ينظر: محمد، محمد سعيد، ذاكرة قرية، منشورات المركز الوطني للمأثورات الشعبية، دار الكتب الوطنية، بنغازي ليبيا، 2001.
6 – ينظر: فاليري، جيزيل، قصص الأخوين جريم، تر. حنين حاصباني، وزارة الثقافة دمشق، 1982.
7 – ينظر: غربال، محمد شفيق، الموسوعة العربية الميسرة، دار الشعب، القاهرة، ط. ثانية، 1972، ص 1017.
وينظر: عثمان، سهيل، والأصفر، عبدالرزاق، معجم الأساطير اليونانية والرومانية، وزارة الثقافة، دمشق، 1982، ص 293
8 – ابن منظور، لسان العرب، تح. عبدالله علي الكبير وزملاءه، دار المعارف، القاهرة، 689 ه، مادة هوم.
9 – الحاكم النيسابوري، محمد بن عبدالله، المستدرك على الصحيحين، دار الكتب العلمية، بيروت، 1411 – 1990، رقم الحديث 2444 ج2 ص 97.
10 – ابن الحُمَيِّر، توبة، ديوان توبة بن الحمير، تح. خليل إبراهيم العطية، دار صادر، بيروت، 1988، ص 47
11 – المعري، أبو العلاء، رسالة الغفران، تح. د. عائشة عبدالرحمن، دار المعارف بمصر، القاهرة، ط. خامسة، 1969. ص 212.
12 – القرآن الكريم، سورة الحِجْر، الآية 87
13 – القرآن الكريم، سورة القصص، الآية 30.
14 – القرآن الكريم، سورة الصافات، الآية 146.
15 – القرآن الكريم، سورة النور، الآية 35.
16 – القرآن الكريم، سورة النجم، الآية 15.
17 – القرآن الكريم، سورة الفتح، الآية 18.
18 – القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 49.
19 – القرآن الكريم، سورة الصافات، الآية 102
20 – ينظر: المباركفوري، صفي الرحمن، الرحيق المختوم، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الرابعة، 2001، ص 66ـ 68.
21 – الحطيئة، ديوان الحطيئة، رواية وشرح ابن السكيت، تح. محمد أمين طه، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1978، ص 337.
22 – جيته، فاوست، تر. د. عبدالرحمن بدوي، سلسلة من المسرح العالمي، الكويت، العدد 231، يناير 1989، الجزء الأول ص 171، وص 176.
23 – ينظر: محبك، د. أحمد زياد، حكايات شعبية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1999، ص 456.
24 – النابغة الذبياني، ديوان النابغة الذبياني، تح. محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر، القاهرة، ط. ثانية، 1985، ص 153
25 – ينظر: محبك، د. أحمد زياد، حكايات شعبية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1999، ص 859.
26 – فريزر، جيمس، الغصن الذهبي، تر. فوزي العنتيل، مكتبة الأسرة، الهيئة العامة المصرية للكتاب، القاهرة، 2000، ص 86.
27 – قاسم، قاسم عبده، ماهية الحروب الصليبية، عالم المعرفة العدد 149 مايو أيار، 1990، ص 10.
28 – كراب، إلكزاندر هجرتي، علم الفلكلور، تر. رشدي صالح، وزارة الثقافة، القاهرة، 1967ص 75.
29 – الشهابي، قتيبة، الطيران، وزارة الثقافة، دمشق، 1999، ص 18.
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم
- إبراهيم مهوي، وشريف كناعنة، قول يا طير، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، لا تاريخ.
- ابن الحُمَيِّر، توبة، ديوان توبة بن الحمير، تح. خليل إبراهيم العطية، دار صادر، بيروت، 1988.
- جيته، فاوست، تر. وتقديم. د. عبد الرحمن بدوي، سلسلة من المسرح العالمي، الكويت، العدد 231، يناير 1989، الجزء الأول مقدمة عبدالرحمن بدوي. الجزء الثاني، العدد 233 فبراير 1989، النص المسرحي، الجزء الأول.
- الحاكم النيسابوري، محمد بن عبدالله، المستدرك على الصحيحين، دار الكتب العلمية، بيروت، 1411 – 1990
- الحطيئة، ديوان الحطيئة، رواية وشرح ابن السكيت، تح. محمد أمين طه، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1978.
- الساعي، بسام، الحكايات الشعبية في اللاذقية، وزارة الثقافة، دمشق، 1974.
- سليم طه التكريتي، مجلة التراث الشعبي، وزارة الثقافة، بغداد، العدد 12، السنة الثالثة، عام 1972
- الشهابي، قتيبة، الطيران، وزارة الثقافة، دمشق، 1999.
- عثمان، سهيل، والأصفر، عبد الرزاق، معجم الأساطير اليونانية والرومانية، وزارة الثقافة، دمشق، 1982.
- غربال، محمد شفيق، الموسوعة العربية الميسرة، دار الشعب، القاهرة، ط. ثانية، 1972.
- فاليري، جيزيل، قصص الأخوين جريم، تر. حنين حاصباني، وزارة الثقافة دمشق،1982
- فريزر، جيمس، الغصن الذهبي، تر. فوزي العنتيل، مكتبة الأسرة، الهيئة العامة المصرية للكتاب، القاهرة، 2000.
- قاسم، قاسم عبده، ماهية الحروب الصليية، عالم المعرفة العدد 149 مايو أيار، 1990.
- كراب، الكزاندر هجرتي، علم الفلكلور، تر. رشدي صالح، وزارة الثقافة، القاهرة، 1967
- المباركفوري، صفي الرحمن، الرحيق المختوم، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الرابعة، 2001.
- محبك، د. أحمد زياد، حكايات شعبية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1999.
- محمد، محمد سعيد، ذاكرة قرية، منشورات المركز الوطني للمأثورات الشعبية، دار الكتب الوطنية، بنغازي ليبيا، 2001.
- المعري، أبو العلاء، رسالة الغفران، تح. د. عائشة عبدالرحمن، دار المعارف بمصر، القاهرة، ط. خامسة، 1969.
- ابن منظور، لسان العرب، تح. عبدالله علي الكبير وزملائه، دار المعارف، القاهرة، 689 ه
- النابغة الذبياني، ديوان النابغة الذبياني، تح. محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر، القاهرة، ط. ثانية، 1985.
- نزار الأسود، الحكايات الشعبية الشامية، وزارة الثقافة، دمشق، 1985.
عدد التحميلات: 0