العدد الحاليالعدد رقم 44نصوص

ما تبقّى من صخب

كنت..

في صِغري أميل دائمًا لتقليل نفقاتي، وادّخار بعض مصروفي لوقت احتاج فيه شِراء ماهو من وجهة نظري أفضل، أجيد دغدغة مشاعر أمّي بكلمات من شأنها ترك ابتسامة على وجهها لمعرفتها المُسبقة بأن لتلك الكلمات وجه آخر، هو فقط ما أريده، فتفتح خِزانة صدرها الدافئة والممزوجة بعرق اختلط بمِسك أنفاسها، داسّة في يدي ما جادت به، تأصّلت داخلي تلك العادة حتّى أنّها صارت بالنسبة لي داء عُضال، فلا لُعبة اشتهيتها وباتت تُغازل طيف أحلامي ليلًا إلا وأرجأت شِرائها لما بعد.

امتلأت حصّالتي بفائض ما احتوته، فكلّما نظرت داخلها هالني تلك الأحلام التي ترقد كطير كسيح، تتوشّح بسواد أرملة، طاردتها سنوات الهجر دون وليف، أرى ذلك الطّفل وقد غادرته درّاجته وطائرته الورقيّة التي طالما حلّقت تتراقص أعلى قمم البيوت القديمة والعمارات الشّاهقة، تُغازلها شّمس يعكس ضوئها زجاج النوافذ، وربّما هي لحظات توقّفت خلالها تقرأ تفاصيل لقاء حبيبين حتّى ضج ما بينهما من ضيق لا يسمح بمرور شعاع ضوء صغير، أو ربّما لوّحت لها يد عجوز تطعم عصافيرها وترعى ما تبقّى لها من صخب الحياة وردات صغيرات.

ارتقيت سطح منزلنا، أتحسس المكان رؤية بالعين، أجهد في التقاط أنفاسي التي انشقّت عن جسد ظل يُحاصرها حتّى استكان تحت ضربات الزّمن، ضباب كثيف يملأ الأفق، تظلّله انحناءة الأشجار في شكل هندسي على جانبي الطّريق، عنيفًا أسمع تلاطم الهواء على وجنتيّا، أرنبة أنفي تكاد أن توُرق احمرارًا، سيل من الماء يتهادى عبر فتحتيها، أتخلص منه بحركة عشوائيّة كالأطفال، أرى أمّي تمشّط عتبة الدّار صباحًا من بقايا سجائر وبعض أوراق الشّجر المتناثر شرقًا وغربًا، فضلًا عن بعض رماد ليلة ألقمْنا نارها حطبًا في ليلة شتويّة، ثمة كعوب لأطفال تدُك صدر الطّريق فرحًا، بأجساد رقيقة تتلقّى صفعات برد الشّتاء، ترقد (غُرزة) عم سمعان في زاوية، وكأنّها هاربة من فعل فاضح في الطّريق العام، قلّما ذهبت إليها قدم إلّا مَن اعتادت ذلك، تتنفّس عبر باب صغير دخّانها المتصاعد وأحاديث الموت والزّواج التي لا تخلو جلسة منها، بينما يحاول البعض الذّهاب بعيدًا، حيث جُثّة القتيلة التي طفت على سطح ماء الترعة في لفافة بيضاء، وتكهّنات بكونها فتاة عذراء أخطأت في حق أسرتها، أو أنها أرملة لرجل له من الأبناء، ما يُقلّب أجسادهم في الفِراش سُهادًا وأرق، من كلمات كالسياط على ظهورهم تتناقها الألسن صباح مساء.

اسمع دبيب انفلات ثورة في داخلي، ربّما كانت فُرصة لاستثارة طاقة الكلمات، فخرجت صراخًا، طوّحت يدي في الهواء على اتّساعها، ناثرًا كل ما ضجّت به خِزانتي، لعلّها تصبح كانهمار المطر في صحراء قاحلة.

ثمة طفل أغرته تلك العُملات القديمة، انحنى لها يرقُب المارة من حوله، اتّسعت حدقات عينيه فرحًا أمام بائع الحلوى، ليعود خالي الوِفاض خائب الرجاء، إلا من اقتضاب وجه بائع الحلوى لعملات فقدت قيمتها ولم يعد منها ما يصلح للبيع والشّراء، كلّت عيناي انتظارًا، وقد تناثرت أحلامي هُنا وهُناك تحت أقدام المارة، فأقدام تركلهم بعيدًا ويد رقّت لحالها كقطعة خبز جافة، تركتها بجوار حائط قديم، وقد نَحلت أجسادها وخف وزنها، فعَدت هي الأخرى لا قيمة لها، فما عساه أن يفعل طفل بحلم عجوز أراد يومًا بناء منزل بعملات قديمة، وما عساه أن يفعل عجوز بحلم طفل لشراء لُعبة أو بعض الحلوى؟ بالفعل لا شيء.

يكاد أن ينفد الهواء من حولي رغم اتّساع السّطح، أجهشت بالبكاء، ثمة طائر ألقى ببعض ما جادت به حوصلته، ليرسو قطار غربتي هُنا، مكتفيًا بخربشات حلم، ربّما لو عاد الزّمان به، لَما تركت له حصّالتي يملؤها بعملات قديمة.

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى