
هشيم النجاح
أقبلت الفرحة وهي تنزف.. لم تتوقع يومًا أن تصل بعد أن طال بها الطريق الذي قطعته منذ أن أعلنت بدء رحلتها الطويلة.. غُرّد بتلك الكلمات بعد أن أمضت مسامعها سنوات تتوق لأن تطرب بنغماتها.. لكنها غنّت متأخرة جدًا.. حاولت أن تبتسم.. أن تشعل شمعة الفرح في قلبها.. لكنها أبت! حتى شفاتها الصغيرة لم تستطع أن ترسم ابتسامة زائفة تساير الحدث الجميل المتوشح بالألم.. فقدوم الفرحة بعد اليأس موجع أشد من وجه الانتظار.
حينما قررت أن تنطلق في تلك الرحلة كانت تعرف مدى صعوبتها.. ووعورة الطريق الذي ستقطعه، وأنه لن يكون ممهدًا أبدًا.. بل ستعصف بها الأمواج يمنة ويسرة.. فهي رحلة في أعماق محيط غامض لا تعرف من ستقابل فيه، ولا يمكن أن تتنبأ بما ستواجهه في هذه الرحلة الطويلة..
صعدت المركب وانطلقت تحت أجواء ثائرة لم ترد لها الانطلاق، حاولت العواصف جاهدة أن توقف رحلتها ليس من سبب سوى أنها لا تريد أن تتجاوزها وتبلغ أفق النجاح.. مضى المركب في دروب المجهول.. ولم يتوقف القراصنة عن رمي المركب بالسهام الحارقة رغبة في إغراقه، وتنحيه عن الإبحار في درب النجاح.. لكن من يتمسك بخيوط الأمل الرفيعة لا يتراجع وهو في وسط المحيط الذي يحيط به الماء من كل الجهات.. فالغرق وارد.. لكن النجاح هو الهدف المنشود.
خمس سنوات مضت، والمركب يعبر طريقه متمسكًا بتلك الخيوط الرفيعة، متأرجحًا بين أمواج المحيط الهائجة، متصديًا للحمم الغاضبة التي تريد إحراقه.. كلما تجاوز عقبة سقطت أخرى كشهب تُزلزلُ استقرار أديم الرحلة ورخاء العبور. وفي أثناء تلك الرحلة.. اجتاحت غمامة مريعة العالم، وأصبحت الحياة ظلامًا دامسًا نُسِي معه لون النهار.. أغلقت به الكثير من منافذ الرحلة.. أصبحت الخُطى ثقيلة.. والطرق محدودة.. فالمجهول أمسى مظلمًا.. الواقع بات مريبًا ولم يعد أحد يعرف ما القادم ولا نهاية المصير..
انجلت العتمة.. واستقر الكون.. ولازالت الأمواج تعصف بالمركب الصغير.. وخيوط الأمل الرفيعة تشد وترتخي.. وعلى ظهر المركب عصفورة محملة بالهموم الموجعة.. التي تنثر فكرها كلما جمعت شتاته.. تلمح عند الأفق أنوار المرسى وكأنها سراب يضيء ويختفي.. ليشغل فوانيس التفاؤل التي خفتَ ضوءها وتلاشى بريقها مع الزمن..
عادت إلى الواقع.. حاولت أن تستقبل الفرحة كما يجب.. من يراها يجد أمامه مرآة متهشمة تحاول أن تعكس جمال اللحظات.. وإن بدا انعكاسها باهتًا.. تحاول أن تلقي عاتبًا صامتًا على انكسار الموقف وتلك السعادة الهاربة.. على الأمنيات المفقودة.. على الأحلام المتأخرة.. على الحقيقة الدامية.
وقفت تتأمل ماحولها.. تحاول فهم فلسفة الحياة، وتصاريفها العجيبة!! كيف لها أن ترضينا بعدما طابت خواطرنا وذابت لهفتنا عما نريد؟ بعدما عافت النفس ما كانت تتوق له.. وصار الجمال الذي تراه العين هشيمًا تنثره الرياح.. كيف للحياة أن تهبنا مرادنا بعدما قتلنا أرواحنا جريًا وراء طموح يهرب عن دروبنا؟ ترضينا بعدما خضنا حروبًا نتصالح بها مع ذواتنا لنتقبل الواقع ونرضى بما في أيدينا..
أهكذا ترمين علينا جمائلك وابلًا.. وتُسقِينا سحائب بهجتك بعد أن تجذب أرضنا ونكون عاجزين عن الفرح! بعدما أقنعنا أرواحنا أن الحياة مجرد رحلة ونحن بها ركاب.. ولا تستحق منها هذا القهر والجري خلف رغباتنا.. وأن علينا تقبل مجرياتها دون نزاع أو تصدٍ أو اعتراض..
ينازع الصمت الروح.. وقد شُلَّ التفكير صدمة وألما.. وهو يحاول أن يجمع هشيم شتاته ويعيد تكوينه بعدما تناثر من صدمات الحياة.. هل يفرح لتحقق الحلم ويسعد لوصوله؟! أم يكذب على الروح بأن ساعة فرحها قد حانت وعليه أن يتنعم بالسعادة رغم أن قدوم فرحتها لم يكن سوى ضماد وضع على جرح أحرقه ألم النزيف…
عدد التحميلات: 0