
إدغار آلان بو والخيال المرعب
إدغار آلان بو Edgar Allan Poe شاعر وقاص أمريكي، أشهر الكتّاب الأمريكيين في ميادين القصة القصيرة والشعر والنقد في فترة ما يعرف بعصر النهضة في الأدب الأمريكي.
الحياة المبكرة
ولد في بوسطن Boston في 19 يناير 1809، وهو ناقد أدبي مؤلف، وشاعر، ومحرر، ويعتبر جزءًا من الحركة الرومانسية الأمريكية.
وترتكز مكانة إدغار آلان بو كشخصية رئيسية في الأدب العالمي في المقام الأول على قصصه القصيرة العميقة والقصائد والنظريات النقدية، التي أرست أساسًا منطقيًا مؤثرًا للغاية للشكل القصير في كل من الشعر والخيال. ونظرًا للتاريخ الأدبي والكتيبات باعتباره مهندس القصة القصيرة الحديثة، كان بو أيضًا الرائد الرئيسي لحركة «الفن من أجل الفن» في الأدب الأوروبي في القرن التاسع عشر. بينما كان النقاد الأوائل يهتمون في الغالب بالعموميات الأخلاقية أو الأيديولوجية. ركز بو انتقاداته على تفاصيل الأسلوب والبناء التي ساهمت في فعالية العمل أو فشله، وأظهر في عمله الخاص إتقانًا رائعًا للغة والتقنية بالإضافة إلى خيال ملهم وأصلي.
ادعى رمزيون فرنسيون مثل مالارمي ورامبو أنه سلف أدبي. قضى بودلير ما يقرب من أربعة عشر عامًا في ترجمة بو إلى الفرنسية.
ويعد إدغار آلان بو المعروف بذكائه الشديد وخياله الواسع المرعب، حيث اشتهرت حكاياته بالأسرار المروعة، كان بو واحدًا من أقدم الممارسين الأمريكيين لفن القصة القصيرة، ويعد مخترع الخيال التحري، وقد نسب عدد من المعلقين إلى بو الفضل في اختراع القصة البوليسية الحديثة. فإن العديد من تقنياته الرئيسية، ولا سيما استخدامه للاستدلال الاستنتاجي لتوضيح تعقيدات السلوك الإجرامي، تشكل أساس نوع الجريمة. وله الفضل في المساهمة في هذا النوع من الخيال العلمي الناشئ. كان أول كاتب أمريكي معروف يحاول كسب لقمة العيش من خلال الكتابة وحدها، مما أدى به إلى حياة صعبة ماليًا ومهنيًا.
في الوقت نفسه، ساعدت استكشافات بو المتعمقة للحياة الداخلية لشخصياته في تمهيد الطريق للواقعية النفسية، مما ألهم عددًا من كتاب الخيال اللاحقين، من بينهم فيودور دوستويفسكي. أثرت كتابات بو النقدية، لا سيما تلك المتعلقة بالعلاقة بين المبادئ الفلسفية والأسلوب الفني، على النظريات الجمالية لتشارلز بودلير وستيفان مالارم وأعضاء آخرين في الحركة الرمزية الفرنسية.
بدايات الحياة والتعليم
كان والداه ممثلين مسرحيين، وهو الابن الثاني لديفيد بو جونيور وإليزابيث أرنولد بو. عاشت الأسرة في فقر مدقع وتنقلت كثيرًا خلال السنوات الأولى لبو، وخلال هذه الفترة كان والديه يتابعان ارتباطات بالتمثيل في نيويورك وماريلاند وفيرجينيا. هجر والده الأسرة في عام 1810 عندما كان لا يزال طفلًا صغيرًا، وتوفيت والدته في العام التالي. وهكذا أصبح يتيمًا قبل أن يبلغ الثالثة من عمره، فتبناه رسميًا تاجر التبغ الثري جون آلان الاسكتلندي الأصل الذي أمَّن له فرص دراسة ممتازة.
في عام 1815، غادر الصبي الصغير مع آلان إلى بريطانيا العظمى، وعاش في اسكتلندا ولندن خلال السنوات الخمس التالية. بعد عودته إلى ريتشموند في عام 1820، التحق بو بمدارس خاصة، حيث برع في الأدب والكلاسيكيات والخطابة. كما بدأ في كتابة الشعر.
على الرغم من إنجازاته الأكاديمية، ظل بو معزولًا نسبيًا. جادل الباحث إيريك دبليو كارلسون بأن أصول بو المتواضعة ظلت مصدرًا للعار طوال حياته وأنه بسبب خلفيته لم يلق قبولًا بين النخبة الاجتماعية في ريتشموند. في عام 1826، أصبح بو طالبًا في جامعة فيرجينيا، حيث درس اللغات الكلاسيكية والحديثة اليونانية القديمة واللاتينية والإيطالية بتفوق ملحوظ. على الرغم من أن والده بالتبني دفع الرسوم الدراسية والسكن لبو، إلا أنه رفض دفع أموالًا إضافية للكتب والنفقات الأساسية الأخرى. لكن انغماسه في لعب القمار ورفض جون آلان لتغطية تكاليف معيشته وتسديد ديونه أدى إلى فصله من الجامعة، فالتحق بالجيش جنديًا بين عام 1827 وعام 1830، ثم تمكن بمساعدة والده بالتبني من الانتساب إلى الأكاديمية العسكرية وِست بوينت West Point عام 1831، ولكن سرعان ما فصل منها بسبب إهماله واجباته، مما أدى أخيرًا إلى أن يعلن جون آلان عن تبرئه منه علنًا وحرمانه من الميراث. وفي عام 1836 تزوج بو من ابنة عمته فرجينيا Virginia التي كانت في الثالثة عشرة من عمرها، وعاش معها حياة فقر مدقع حتى وفاتها السريعة بسبب المرض عام 1847، الأمر الذي هزّ كيانه المضطرب أصلًا، مما دفعه إلى إدمان الكحول وتعاطي المخدرات حتى وفاته الغامضة الأسباب والظروف في أحد مستشفيات بالتيمور.
انفصال إدغار عن عائلة مُتبنيه

كان إدغار دائمًا لا يحب هذه العائلة بسبب الزوج الذي رفض أن يمنحه اسمه فقط لأن والديه كانوا يعملان بمجال التمثيل الذي كانت تعد مهنة حقيرة حيث أن هذا الرجل أعتبر أن إدغار من سلاله حقيرة ولا يجب عليه أن يعطي شخص مثله أسمه وهذا الشيء أثر كثيرًا على الحالة النفسية إلى إدغار وأيضًا على سلوكه الأخلاقي وبدأ يتعامل معهم بسوء مما أغضبهم كثيرًا وجعل متبنيه يعايره بأصله وقرر أن يرسله إلى إحدى الجامعات في «فرجينيا» حتى يكون بعيد عنهما لكن إدغار قد جعل الأمر أكثر سوءً عندما أدمن الخمر وهذا جعل متبنيه يغضب مرة أخرى ويقرر أن يخرجه من الجامعة ويجعله يعمل بأي عمل وهذا الشيء أغضب إدغار كثيرًا وجعله يترك لهم المنزل وينفصل عنهما.
تفككت علاقة بو مع آلان عند عودته إلى ريتشموند في عام 1827، وبعد فترة وجيزة من مغادرة بو إلى بوسطن، حيث التحق بالجيش ونشر أيضًا مجموعته الشعرية الأولى، «تيمورلنك وقصائد أقل أهمية». ذهب المجلد دون أن ينتبه له أحد من قبل القراء والمراجعين، وحظيت المجموعة الثانية، «الأعراف وتيمورلنك والقصائد الصغرى»، باهتمام أكبر قليلًا عندما ظهرت في عام 1829. في نفس العام تم تسريح بو بشرف من الجيش، بعد أن نال رتبة رقيب أول، ثم تم قبوله في الأكاديمية العسكرية للولايات المتحدة في ويست بوينت. ومع ذلك، نظرًا لأن آلان لم يزود ابنه بالتبني بأموال كافية للحفاظ على نفسه كطالب ولا يعطي الموافقة اللازمة للاستقالة من الأكاديمية، فقد حصل بو على الفصل من خلال تجاهل واجباته وانتهاك اللوائح. ذهب بعد ذلك إلى مدينة نيويورك، حيث قصائد، نُشرت مجموعته الشعرية الثالثة عام 1831، ثم نُشرت في بالتيمور حيث كان يعيش في منزل خالته السيدة ماريا كليم.
البدايات والخلفية الثقافية
استمد بو تراثه الأدبي الثقافي من شعراء البلاط في عصر الملكة اليزابيت الأولى، ويعود إحساسه بالموسيقى وتقديسه للمرأة ومحاولاته لجعل الخوارق قابلة للتصديق إلى الشعر الغنائي والنثر المنمق والمأساة الرومنسية في عصر شكسبير. وقد بدأ بو بكتابة الشعر نحو عام 1825، وكان شديد النهم للمطالعة والدراسة، وأصدر كتابه الأول «تيمورلنك وقصائد أخرى» 1827 Tamerlane and Other Poems، وبعد سنتين صدرت طبعة جديدة للديوان مع بعض القصائد الجديدة بعنوان «الأعراف، تيمورلنك وقصائد أقل أهمية» Al Araaf Tamerlane and Other Minor Poems وفي شعر تلك المرحلة يظهر تأثير ميلتون Milton وتوماس مور Thomas Moore. ومع صدور ديوانه الجديد «قصائد» 1931 Poems، الذي يحمل تأثير كيتس Keats وشلي Shelley وكولريدج Coleridge، كان الفنان بو متهيئًا لإعلان مذهبه الشعري، فيقول في مقدمة الديوان محتجًا على أنصار تحكم العقل بالخيال: «القصيدة في نظري تغاير الأثر العلمي، في أن هدفها المباشر هو المتعة وليس الحقيقة، وهي تغاير الرواية بأن هدفها هو متعة غير محدودة بدلًا من متعة محدودة، ولتحقيق هذه الغاية فإن الموسيقى عنصر جوهري، إذ إن إدراك الصوت العذب هو أكثر أفكارنا إبهامًا». وفي التحديد الذي قال به في ما بعد، وكان أكثر نضجًا، (الشعر هو الخلق الإيقاعي للجمال) تمسك بو بشدة بإيجابيات هذا الرأي، مع تراجعه عن رفض العلم والعقل.
ومن بين أجزاء العقل الثلاثة التي طالما ردد ذكرها، وهي الذهن الصرف والذوق وحاسة الإبداع، كان يتخذ الذوق دائمًا دائرة اختصاصه. وحين وعى لاحقًا بضرورة إدراك بنية القوانين الجمالية صارت «الوحدة الفنية» لا «الجمال» هدفه الرئيسي. كانت قصيدتاه المبكرتان الطويلتان «تيمورلنك» و«الأعراف» تهيمان في مملكة الجمال الحسي الصرف، أما بعدهما فقد صار ممكنًا لقصائد شهيرة مثل «الغراب» 1845 The Raven و«أنابل لي» 1849 Annabel Lee أن تشيَّدا كمعمار أسرف بانيه في إتقانه، فالجمال والتحفظ ووحدة التأثير هي المراحل الثلاث في إتقان الفنان بو لخلق الجو الشعري. وقد كان لمقطوعاته الشعرية القصيرة التي لم يجمع أفضلها حتى عام 1845 والتي نُشر بعضها بعد وفاته أثر أبعد بكثير مما لها من قيمة أصيلة فيها، لأنها تجسيد كامل لنظريته في الفن. ففي قصيدته «أولالوم» 1847 Ulalume أو «إلى آني» 1848 For Annie صلابة في النسيج كرمز وإيقاع، تناقضها الفوضى العاطفية التي تعبر عنها هذه القصائد. لقد وجد بو طريقه إلى الخبايا المظلمة في النفس البشرية، وابتدع قالبًا تستطيع آلام النفس أن تجد فيه تعبيرًا رمزيًا مباشرًا عنها. وما شعره إلا رؤى، كشف عنها بالموسيقى والصورة المجازية. وتركزت مهمته التالية في أن يعبر عن تلك الرؤى تعبيرًا أكثر تحليلًا في القصة. وكان على طائفة من الأدباء الفرنسيين الرمزيين مثل بودلير Baudelaire وملارميه Mallarmé أن يتفهموا نظرة بو في وظائف الخيال الشعري وقواعد التحكم به وأن يطبقوها في شعرهم ونقدهم، وأن يحاولوا ترجمة أعماله إلى الفرنسية، قبل أن يدرك الأدب الأمريكي عبقرية وفرادة أديبه على صعيد الشعر والقصة والنقد.
الحافز المباشر الذي دفع بو لكتابة القصة النثرية هو الضغط المادي الملح لتحصيل قوته واحتياجات عائلته. وكان لفوزه بجائزة القصة القصيرة عن قصته «مخطوطة وجدت في زجاجة» MS.Found in a Bottle أثر كبير في هذا التحول، فأصبح محررًا وناقدًا أدبيًا في عدة صحف ومجلات معروفة. ولم يمنعه من الاستقرار في العمل سوى تقلب مزاجه واضطراب نفسيته بسبب تعاطيه الكحول. وفي عام 1840 أصدر مجموعة من قصصه التي اشتهر بها بعنوان «قصص غروتسكية (فيها مبالغة غرائبية تهكمية) وزخرفية» Tales of the Grotesque and Arabesque. وفي السنوات العشر الأخيرة من حياته صار بو كاتبًا معروفًا محترمًا، وسطع نجمه محررًا وموهبة فنية عظيمة، تعد من خيرة المواهب الأدبية في زمنه. وكان الكتّاب من معاصريه يخافونه ناقدًا، لابتعاده عن المجاملة الشخصية في أحكامه النقدية، وذلك إخلاصًا منه لمهمة النقد النزيهة. وقصصه القصيرة، على تنوع موضوعاتها، تسير تبعًا لنظريته الجمالية، كما في قصائده المتأخرة. ولما كان اهتمامه حينذاك، بالجمال غاية، أقل مما كان عليه سابقًا، فقد أدرك أن الصدمة العاطفية للحكاية النثرية التي تصيب القارئ هي هدف القصة الرئيسي، فحاول أن يكتشف القواعد الداخلية التي يكون لها أبلغ الأثر، فاستغل أساليب القصة القوطية Gothic Tale القوطي (الأدب) وافترض أن العاطفة الأولى الأساسية هي الخوف، فاتجه نحو الخوارق في مادة قصصه واستعان بأشباه العلوم الشائعة آنذاك، كالتنويم المغنطيسي وفراسة الدماغ وتحليل العقل الباطن، فوجد أنه في المدى الذي يقع بين اليقظة والمنام وبين الحياة والموت تكون الحواس فيها في أشد حالات التنبه ويكون كبت العواطف في مستواه الأدنى، فصار الجنون وتوارد الخواطر والحالات العقلية المنحرفة أو الشاذة مادة يستقي منها فنه القصصي، وأصبح العالم الخارجي بما فيه من بشر مجرد مجموعة من الرموز يستخدمها الكاتب في الصروح التي يشيدها عقله المنهك من ضغوط الواقع وتأثير الكحول.
مهنة بو الأدبية

لكن تبدو في قصصه من أهوال لا تقضي على النذير القابع في وعي الفنان، فزمام القيادة ظل في يد المبدع الخلاق. فقصص المرحلة الأولى حتى عام 1840 تأخذ شكلها المعماري من تسلسل الأحداث، أما قصص المرحلة الأخيرة فإن معمارها يخضع لمفهوم بو المتطور عن الحبكة الفنية، «حيث لا يمكن لأي جزء منها أن يزحزح من دون أن يسبب دمار الكل» ولابد للقصة من أن تتقيد بقاعدة الوحدات الثلاث التقليدية من حيث الزمان والمكان والموضوع. وهنا كما في الشعر يتم تحقيق البراعة الفنية عن طريق وحدة المفعول وكماله القصدي. وللتدليل على تنوع مقاصده صنف قصصه إلى «زخرفية» و«غروتسكية» و«استنتاجية». ففي الصنف الأول تكتسب القصة قوتها عن طريق الفزع أو عاطفة أخرى قائمة على القلق العنيف كما في «سقوط عائلة أشر» 1845 The Fall of the House of Usher، وفي الصنف الثاني عن طريق الدعابة الكالحة الساخرة، كما في «قناع الموت الأحمر» 1842 The Masque of the Red Death، وفي الصنف الأخير الاستنتاجي أو البوليسي الذي يعد بو رائده عالميًا، فإن المعقول فيه ينتج عن استخدام التحليل العقلي في إعادة بناء سلسلة من الحوادث بأسلوب علم النفس الإيحائي، كما في «جرائم قتل في شارع مورغ» (1842) The Murders in the Rue Morgue أو «البقة الذهبية» (1845) The Gold Bug. إن هذه الأصناف الثلاثة في القص لم يبتدعها بو، إنما أخذها عن أسلافه في الأدب العالمي وطورها، غير أن بحثه فيها بحثًا دقيقًا واستعماله لها استعمالًا منظمًا جعله صاحب لون أدبي جديد هو القصة القصيرة ذات التأثير النفسي. لقد ترجمت أعمال بو النثرية إلى معظم لغات العالم وكُتب حولها الكثير من الدراسات التحليلية وأثرت في تطور ما عُرف في القرن العشرين بروايات الرعب والروايات البوليسية الفائقة الانتشار؛ أما أشعاره فلم تحظ بمثل هذا الاهتمام لأنها عصية على الترجمة.
حين نشر الكاتب الشهير إدغار آلان بو ملحمته في وصف الكون «يوريكا: قصيدة نثر» (Eureka: A Prose Poem) عام 1848، قوبلت بفتور بالغ من النقاد والقراء على حد سواء، ووصفت بأنها سخيفة، حتى من أصدقائه المقربين. ولا يعود السبب إلى احتوائها على بعض الافتراضات العلمية الخاطئة فحسب، بل أيضًا بسبب أسلوبه الساخر في وصف كبار العلماء آنذاك. لكن بو ظل يعتبرها حتى لحظة موته المفجع والمفاجئ، بمثابة تتويج لأعماله، وحري بها أن تحدث ثورة في عالم العلوم الفيزيائية والميتافيزيقية، وهو ما جعله يعتقد بأنه لم يعد راغبًا في مزيد من العيش في هذا العالم، مادام لن يكون بمقدوره إنجاز أكثر مما حققه في (يوريكا)، وفي قصة (برنيس)، يطرح بو مفارقة مضحكة في طب الأسنان تتعلق بهوس التشخيص النفسي المصوغ حديثًا. وفي عمل آخر يناقش مفهوم (التنويم المغناطيسي) الذي لم يتم استيعابه تمامًا لدى ظهوره، وهو ما ضمنه أيضًا في عمل من أكثر أعماله إثارة للقلق (حقائق عن حالة إم فالديمار) الذي لم يطرح باعتباره من أعمال الخيال، ولكن كدراسة حقيقية. وفيه يشرح بو بالتفصيل الحياة بعد الموت لرجل وُضع تحت التنويم المغناطيسي لحظة موته ليظل على قيد الحياة على مدى أشهر. كما يسبر في (جرائم شارع مورغ) الخط الفاصل بين الإنسان والحيوان، الافتراض الذي أصبح محفوفًا بالمخاطر مع ظهور نظريات داروين الناشئة عن التطور. كما يقترح في قصته (نظام الدكتور تار، والبروفيسور فيذر) أنه لا يوجد فرق كبير بين الطب النفسي المتطور والجنون نفسه!
تراث إدغار آلان بو
يدين عمل بو بالكثير لاهتمام الرومانسية مع السحر والتنجيم والشيطاني. ويرجع الفضل في ذلك أيضًا إلى أحلامه المحمومة. يعتمد إنتاجه بشكل وثيق على قدراته التخيلية وتقنية متقنة. حكمه الحازم والصحيح كمثمن للأدب المعاصر، ومثاليته وموهبته الموسيقية كشاعر، وفنه الدرامي كروائي، الذي حظي بتقدير كبير في حياته، أكسبه مكانة بارزة بين رجال الأدب المعروفين عالميًا.
الحقيقة البارزة في شخصية بو هي ازدواجية غريبة، ويبدو أن الاختلاف الواسع في الأحكام المعاصرة على الرجل يشير تقريبًا إلى تعايش شخصين فيه. كان لطيفًا ومخلصًا مع من أحبهم. ووجده آخرون، ممن تعرضوا لانتقادات حادة، عصبيًا ومتمحورًا حول الذات، وذهبوا إلى حد اتهامه بعدم الالتزام بالمبادئ. لقد طُرح سؤال، هل هو ضعف الرجل الذي ينهض من كوابيس مروعة أم من الرؤية الداخلية القاسية للجرائم المظلمة أو من تخيلات المقابر المروعة التي تلوح في الأفق في كيان بو غير المستقر؟
يتعلق الكثير من أفضل أعمال بو بالرعب والحزن، لكن في الظروف العادية كان الشاعر رفيقًا لطيفًا. تحدث ببراعة، وفي مقدمتها الأدب، وقرأ أشعاره وشعر الآخرين بصوت يفوق الجمال، وأعرب عن إعجابه شكسبير وألكسندر بوب. كان يتمتع بروح الدعابة والاعتذار للزائر لعدم الاحتفاظ بغراب أليف.
إذا تم النظر في عقل بو، فإن الازدواجية لا تزال أكثر إثارة للإعجاب. من ناحية، كان مثاليًا وصاحب رؤية. كان اشتياقه للمثالية ينبع من القلب والخيال. لقد ألهم حساسيته تجاه جمال وعذوبة المرأة أكثر كلماته تأثرًا (إلى هيلين) (أنابيل لي)، (يولالي)، (To One in Paradise) وتراتيل النثر الكاملة للجمال والحب في «Ligeia» و«إليونورا». حمله خياله بعيدًا عن العالم المادي إلى أرض الأحلام. كان هذا المزاج مميزًا بشكل خاص في السنوات الأخيرة من حياته بشكل عام، كما في مثل (وادي الاضطرابات)،(Lenore ،(The Raven) ،(For Annie و(Ulalume)، وفي حكاياته النثرية، كان أسلوبه المألوف في التهرب من عالم التجربة المشتركة من خلال الأفكار أو الدوافع أو المخاوف الغريبة. من هذه المواد رسم الآثار المذهلة لحكاياته عن الموت (سقوط منزل حاجب)، (قناع الموت الأحمر)، (الحقائق في حالة إم فالديمار)، (الدفن السابق لأوانه)، (The Oval Portrait)،(Shadow)، حكاياته عن الشر والجريمة (Berenice ،The Black Cat ، William Wilson ،The Imp of the Perverse ،The Cask of Amontillado ،The Tell-Tale Heart)، حكاياته عن البقاء بعد الانحلال (ليجيا، موريلا، Metzengerstein)، وحكاياته عن الوفاة (التعيين، رجل الحشد). حتى عندما لا يلقي بشخصياته في قبضة القوى الغامضة أو على المسارات غير المداعبة لما وراءه، فإنه يستخدم آلام الموت الوشيك كوسيلة لإثارة ارتعاش الأعصاب (The Pit and the Pendulum)، واختراعه البشع يتعامل مع الجثث والانحلال في لعبة غريبة مع آثار الموت.
الرحيل
كان الجو ماطرًا في الثالث من أكتوبر عام 1849 لكن ذلك لم يمنع جوزيف دبليو ولكر، العامل في مطبعة، من الخروج من بيته متوجهًا إلى مركز للاقتراع للإدلاء بصوته، حين عثر على رجل يهذي وبحالة مزرية ملقى على رصيف بالقرب من مركز الاقتراع. كان الرجل يرتدي ملابس رثة، نصف فاقد للوعي وغير قادر على تفسير كيف انتهى إلى هذه الحالة. نُقل هذا الرجل إلى أحد المستشفيات حيث قضى أربعة أيام متأرجحًا بين نوبات الهذيان والهلوسات البصرية وهو ينادي بكلمة واحدة هي «رينولد». وجاء تقرير المستشفى بعد ذلك كالآتي: «تم التعرّف على الرجل المجهول والمتسكع الذي مات على حافة الطريق، إنه الشاعر إدغار آلان بو».
غادر إدغار ألن بو مدينة ريتشموند في ولاية فيرجينيا قبل ذلك بخمسة أيام، في طريقه إلى مدينة فيلادلفيا ولحد الآن لا يوجد أي تفسير لوجوده في مدينة بالتيمور. مات بعمر الأربعين في 7 أكتوبر 1849، بعد سنتين من موت زوجته وحبيبته فيرجينيا إثر إصابتها بمرض السل، المرض ذاته الذي توفيت به أمه وهو بعمر السنتين.
عدد التحميلات: 0