
الواقعية السحرية في رواية (نصف مجهول) للكاتب جمال الجزيري
تحليل الأحداث غير المنطقية وغير المتماسكة في الرواية
واجه العديد من كتاب الواقعية السحرية اضطرابات اجتماعية أو سياسية أو ثقافية كبرى، إلى جانب تحولات شخصية عميقة (ديفيد لودج 114). وقد شملت هذه الاضطرابات الحروب، الثورات، الدكتاتوريات، الاستعمار، أو التغيرات المجتمعية الكبرى. في رواية الدراسة، يوظف الجزيري الواقعية السحرية لالتقاط الطبيعة السريالية والمتعددة الأوجه لهذه التجارب التاريخية، حيث تمكّنه العناصر السحرية من تجسيد الفوضى والارتباك اللذين يميزان الفترات المضطربة.
إلى جانب الأحداث التاريخية، مرّ الجزيري أيضًا بتجارب شخصية عميقة، مثل الخسائر، التحولات العاطفية الشديدة، أو مراحل اكتشاف الذات، والتي تعكسها روايته. تمنحه الواقعية السحرية القدرة على نقل التعقيد العاطفي لهذه التجارب بطريقة تتجاوز حدود الواقعية التقليدية.
تُعد نصف مجهول مزيجًا ساحرًا من الواقع والخيال، حيث تتلاشى الحدود بين الزمان والمكان، مما ينتج سردًا يزعزع أساليب السرد التقليدية. ببراعة، يوظف الجزيري جميع السمات المميزة للواقعية السحرية، مقدمًا عملاً يعكس مهارته وحرفيته المتقنة. تتجلى هذه الخصائص في الأحداث غير المنطقية، الإطار الواقعي، نقص المعلومات، استدعاء الموتى والتخاطر، تفكيك البنية السردية التقليدية، بالإضافة إلى النقد الاجتماعي والسياسي، ما يجعل الرواية تجربة سردية فريدة ومؤثرة.
تقدم الرواية دراسة ممتعة للتفاعل بين العناصر المنطقية وغير المنطقية داخل سردها، حيث تتناول مفاهيم مثل الزمن، الجغرافيا، التاريخ، واللغة. يسهم هذا المزج في تحفيز خيال القارئ وإثارة تفكيره، بينما ينقل رسائل ذات مغزى أعمق وإحساسًا عاطفيًا قويًا. من خلال الجمع بين العقلاني وغير العقلاني، تدعو الرواية القراء إلى استكشاف الحدود الضبابية بين الواقع والخيال، المنطق والفوضى، والتاريخ والسرد المتخيل.
تعتمد الرواية على السرد غير الخطي والتشوهات الزمنية، متجاوزة التسلسل الزمني التقليدي. من خلال توظيف ذكريات الماضي، لمحات من المستقبل، أو حتى خطوط زمنية بديلة، تخلق الرواية إحساسًا بالارتباك وعدم القدرة على التنبؤ. لا يعزز هذا التلاعب بالزمن الجانب غير المنطقي للسرد فحسب، بل يخدم أيضًا هدفًا منهجيًا في إضفاء مزيد من التعقيد والعمق الموضوعي. في نصف مجهول، يتلاعب المؤلف بمهارة بالحدود بين الواقع والخيال، مما يضفي على الرواية طابعًا فريدًا ومثيرًا للتأمل:
وبينما أسيرُ، أسمعُ لغةً مبهمةً، لا أظن أنها بحروف بشرية، وأظن أنها لغة الثمار، ثمار كل الأشجار …. أتأمل كل الوجوه. أمدُّ طرفَ إصبعي وأحاول أن أسلّم عليها فردًا فردًا. الوجوه الموجودة في المستوى الأول، والتي قلتُ من قبل إنها أقرب لي، سواء على مستوى الواقع أم الحنين أم الماضي أم الذكريات أم المستقبَلِ – أيًّا كان – أحاول أن أقبِّلَها، دون أن تجرحني أشواك الليمون. … هذا الدكتور المحترم أوقفَ سيارتَه على أشجارنا وأخذ يملأها ببنزين ثمارها، دون أن يطلب الإذن أو يدفع ثمن الوقود. (الرواية 13, 20, 45)
تعكس هذه المقاطع غرابة الحياة وعبثيتها من خلال سيناريوهات سحرية وغير تقليدية. في المقطع الأول، يواجه الراوي تجربة غير عادية حيث يسمع «لغة غير واضحة» لا تتوافق مع أساليب التواصل البشري، مما يشير إلى فكرة أن العالم مليء بألغاز وأحداث تتحدى المنطق التقليدي. تجسد هذه الظاهرة، حيث تمتلك الفاكهة لغة خاصة بها، انزياحًا عن الفهم الطبيعي للأشياء، مما يعزز عنصر العجائبية في السرد.
أما في المقطع الثاني، فيرتقي العبث إلى مستوى آخر عندما تتحول فاكهة الليمون إلى أشكال بشرية، مطمسةً الحدود بين الحي والجماد. يبرز هذا التحول السحري عدم القدرة على التنبؤ بالوجود ويعكس الطبيعة غير القابلة للتفسير للعالم. وتزيد محاولة الراوي تقبيل الفاكهة المتحولة من حدة العبثية، مما يؤكد على غرابة الموقف وانفصاله عن المنطق التقليدي.
في المقطع الثالث، يظهر محاضر محترم وهو يقوم بتزويد سيارته بـ«البنزين» المستخرج من الأشجار، مما يشكل تحديًا للفهم الواقعي للعالم والاستخدام المعتاد للموارد. يزيد تجاهله للإذن أو الدفع من الطابع العبثي للموقف، إذ يكسر التوقعات المجتمعية ويعزز الشعور بعدم الاتساق بين الفعل والمنطق السائد.
تعكس هذه المقتطفات الحياة كسلسلة من الأحداث غير القابلة للتفسير، حيث تمتزج الواقعية بالسحر والغرابة، مما يشير إلى أن محاولة فرض المنطق على كل موقف قد تكون بلا جدوى. تدعو الرواية إلى تقبل هذا الجانب غير المتوقع من الحياة، والتصالح مع كونه لا يتماشى دائمًا مع التوقعات التقليدية.
تشير هذه العناصر إلى أن نصف مجهول تنتمي إلى الواقعية السحرية، حيث تمتزج العناصر الخيالية بسلاسة مع تفاصيل الحياة اليومية. يتيح هذا الأسلوب للمؤلف استكشاف موضوعات وعواطف معقدة بطريقة إبداعية وفريدة. كما أن الرواية لا تلتزم بحبكة خطية أو تسلسل منطقي للأحداث، بل تتسم بلحظات حالمة وسريالية تتجاوز حدود الممكن، بل وتكسرها في بعض الأحيان، مما يضفي على السرد طابعًا مميزًا وغير تقليدي: «نحن عابرا سبيل يا أم حسن، ونريد أن نأكل. تقول بتلقائية: فداؤكم الأكلُ كلُّه. فداؤكم كلُّ الأكلِ. ابعدا قليلاً. تكوّر يدها على الجوّافة التي مازالت في يدها وتقذف بها نحو خارج الباب لأعلى في الهواء. تصطدم الجوَّافة بديكٍ روميٍّ طائرٍ في الهواء، فتثبِّته، ولا أعرف كيف يطير الديك الرومي ولا مِن أين جاء!»(75).
يعكس هذا الاقتباس ببراعة المزج المتقن بين الواقع والخيال داخل السرد. تبدأ الجملة الأولى: «نحن عابرا سبيل يا أم حسن، ونريد أن نأكل» بإضفاء طابع واقعي على المشهد، إذ تعكس التجربة الإنسانية العالمية في البحث عن القوت، سواء بالمعنى الحرفي أو المجازي، بينما يشق الأفراد طريقهم عبر الحياة.
لكن مع قول أم حسن العفوي: «فداؤكم الأكلُ كلُّه. فداؤكم كلُّ الأكلِ. ابعدا قليلاً»، يتحول السرد نحو بعد أكثر تجريدًا وروحانية، مما يضفي عليه طابعًا صوفيًا وتأمليًا ميتافيزيقيًا. هنا يبدأ الخيال في التداخل مع الواقع، متجاوزًا المستوى المادي إلى مستويات أعمق من الوجود.
تبلغ اللحظة الفاصلة ذروتها عندما ترمي أم حسن الجوافة نحو المدخل المفتوح، فتصيب بطريقة معجزة ديكًا روميًا أثناء طيرانه. يشكل هذا الحدث عنصرًا خياليًا يتحدى قوانين الطبيعة والمنطق، حيث يضفي هذا التصادم العفوي لمسة سحرية على السرد. إن ظهور الديك الرومي المفاجئ وقدرته غير المتوقعة على الطيران يعززان الغموض والسحر، مما يدفع القصة إلى عالم يتجاوز الواقع نحو فضاءات خيالية تتسم بالطابع الماورائي والسحري.
يُختتم المقطع بتأكيد الراوي على الغموض المحيط برحلة الديك الرومي وظهوره غير المتوقع، حيث يبقى هذا الحدث محاطًا بـ«حجاب المجهول»، مما يعزز الشعور بالدهشة ويؤكد على التعايش بين الواقعي والخيالي داخل النص.
في هذا المشهد، يدمج الكاتب بسلاسة بين العادي والاستثنائي، الملموس والمتخيل، ليخلق سردًا يدعو القارئ إلى استكشاف الخط الفاصل بين الواقع والخيال. يشجع هذا المزج بين العناصر الغامضة والمألوفة على التأمل في الجوانب غير القابلة للتفسير من الحياة، مع الحفاظ على ارتباط الرواية بالتجربة الإنسانية الواقعية. وبهذا الأسلوب، يبتكر الكاتب تجربة أدبية آسرة، تتردد أصداؤها بين اليومي والخيالي، مما يجعل السرد عميقًا ومثيرًا للتفكير.
تمتزج في رواية الجزيري مجموعة متنوعة من الأماكن، سواء الواقعية أو الخيالية، التي تتداخل بطرق غير مألوفة أو غير منطقية. لا تلتزم بعض هذه المواقع بالحدود الجغرافية للعالم الحقيقي، مما يطمس الخط الفاصل بين المعقول والخيالي. يسهم هذا الأسلوب في خلق جو أشبه بالحلم، يعزز الإحساس باللا منطقية داخل السرد، بينما يعكس أو يرمز في الوقت ذاته إلى الحالات العاطفية والنفسية للشخصيات.
كما تتلاشى الحدود الجغرافية والزمنية داخل عالم هذه الرواية ذات الطابع الواقعي السحري، حيث ينظر الراوي إلى جميع المواقع على أنها امتدادات لكيان مكاني واحد، أشبه بمساحة موحدة تتخذ أشكالًا مختلفة، لكنها تحتفظ بجوهر ثابت. إنها مساحة يتواجد فيها الأفراد في حالة من الحيرة والارتباك، تعكس اللحظة الحاضرة بكل غموضها وعدم يقينها:
احمدْ ربَّكً أن هناك حلقة مفقودة لديك وأنها حلقة واحدة. أحسُّ بأن هناك عشرات الحلقات المفقودة في رأسي، ولم أعد أستوعب شيئًا، كأن هناك بعض الشفرات التي تم سحبُها خلسةً من بصمتي الوراثية، وأنني الآن حائر في كيفية ترميم بصمتي الوراثية حتى أستطيعَ أن أربطَ بين كل ما يحدثُ وأستطيعَ أن أفهمَ الموقف. ظننتُ أن الخروج إلى الصحراء سيمنحني استراحة محارب أستطيع فيها أن أصفّي ذهني، ولكنني اكتشفتُ أن كل الأماكن في هذا الجزء من العالم امتدادٌ لمكان واحد، قد تختلف مظاهرُه، لكنَّ جوهرَه واحدٌ، وهو أنْ تجلسَ كما نجلس الآن دون أن نفهم شيئًا… (الرواية 100)
يتعمق هذا المقطع في جوهر التجربة الإنسانية، مسلطًا الضوء على النضال المشترك لفهم تعقيدات الحياة، والشعور العالمي بالارتباك الذي يوحد البشر. يؤكد السرد أن وراء تنوع الثقافات والمناظر الطبيعية، يكمن خيط مشترك من عدم اليقين الوجودي والسعي المستمر لاكتشاف المعنى. في النهاية، يشير إلى أن البشرية مترابطة في بحثها عن إجابات للأسئلة الغامضة للوجود، متجاوزة الحواجز والحدود.
يتجلى هذا التحول من خلال الاستخدام المجازي لأداة سحرية، تذكر بقدرة رياض الغزلاني على عبور المسافات الشاسعة والتنقل بسلاسة من الجيزة إلى جهينة في محافظة سوهاج بتعويذة بسيطة: «ترا را را را. ها هو بيتك وبيت أمِّك. قلتُ نجيء ونساعدها في تجهيز الأكل. كما تعرف، الأكل الطازج أفضل من الأكل البائت. وذلك الأكل البائت ما زال في الثلاجة، ويمكننا أن نأكله عندما نعود إلى الجيزة بإذن الله» (الرواية62). تعمل هذه القفزات السردية، رغم غرابتها، على إرباك الإدراك، مما يعزز الشعور بالمجهول الذي يحيط بجميع جوانب الحياة، ويجعل الوضوح بعيد المنال بدونه.
على مستوى آخر، ينتقل السرد بين بيئات واقعية وأخرى خيالية، مما يخلق انفصالًا زمنيًا، كما يتجلى في الاقتباس التالي:
لا أذكر أنني دخلتُ هذه الغرفة منذ أن مات أبي، فلقد عدتُ من السفر وقبَّلتُ يده، دون أن أخشى الموت، مع أنني كنتُ أرتعش عندما كنتُ أقبل أي أحد من موتى عائلتنا قبل الذهاب به إلى الجبّانة. قبّلتُ يَدَه وخرجْنا به مباشرةً لأنهم كانوا ينتظرون وصولي في أسرع وقت. وهي الغرفة التي مات فيها جدّي أيضًا. مَرَّتْ أكثرُ من ثلاثين سنة، وها أنا أرى جدي أمامي، كأنني رأيتُه بالأمس. وأرى أبي أيضًا، ولا أعرف كيف أتخَيَّلُ جيلينِ كاملينِ متجاورينِ في موتِهما أمامي هكذا! هل أودِّعُهما وأخرجُ؟ أم أترك نفسي لهذا المغناطيس الهائل الذي يجذبني إلى هذه الغرفة؟ بل هما ثلاثة أجيال، فأخي الأكبر كان يستعمل هذه الغرفة مكتبًا أيضًا قبل مرض جدي وقبل أن يرحل هو إلى المدينة ليواصل دراسته، وكان يشرح لي فيها الدروس التي قد تكون صعبة عليّ في اللغة. (الرواية 127)
تخدم هذه الخيارات السردية أهدافًا متعددة؛ فهي تفكك بنية الحبكة التقليدية، وتضفي على النص إحساسًا بالإثارة والارتباك بسبب الانتقالات السريعة بين الأماكن والبلدان، وتشوه التسلسل الزمني للأحداث. في الوقت ذاته، تؤكد هذه التقنيات على غياب الحقائق المطلقة، متحدية مفهوم اليقين التام، كما يعكسه عنوان الرواية نفسه، «نصف مجهول».
يهيمن مفهوم الحنين إلى الماضي على رواية الدراسة، حيث لا يرفض الجزيري الماضي بشكل مباشر، بل يتعامل معه بطريقة قد تبدو مشوهة للبعض. يعكس هذا الأسلوب روحًا ديمقراطية في تعامله مع التراث، في حين يسعى هو وما بعد الحداثيون إلى تفكيك الهالة والغموض المحيطين بالأعمال الكلاسيكية الشهيرة (التراث). غالبًا ما يتخذون من السخرية أداة لذلك، كما تجسد في إضافة مارسيل دوشامب شاربًا إلى لوحة الموناليزا لدافنشي.
ومع ذلك، فإن هذه العودة إلى الماضي قد تنبع أيضًا من القيود الإبداعية المعاصرة للفنانين، وهو أمر لا ينطبق على الجميع. يتمثل هذا في إعادة النظر في الماضي وإعادة استخدامه وتقديمه بشكل جديد. لقد وصل الفن إلى مرحلة لم يعد فيها يتبع مسارًا تاريخيًا خطيًا من الإبداع والتقدم، بل بدأ يتراجع ويدور داخل تاريخه الخاص، معيدًا تدوير الأشكال والأفكار القائمة.
تؤدي هذه الدورة المستمرة من التكرار وإعادة الاستخدام إلى شعور بالعبث، حيث يصبح السعي وراء التجديد والأصالة في الفن غير مجدٍ أو بلا معنى في عالم مليء بالنسخ والمحاكاة. هذا المنظور يتماشى مع صعود «صناعة التراث» في الغرب منذ أوائل السبعينيات، وهو المصطلح الذي درسه علماء مثل دوغلاس كريمب وأندرياس هويسنز، حيث يُعد التاريخ بمثابة أرشيف ضخم يمكن استرجاعه واستهلاكه مرارًا وتكرارًا:
أدركَ ذلك الشاب أنَّ كلَّ دلوِ ماءٍ كان يسكبه في ذلك الزير ليمتلئ كان حلقةً مفقودةً، كان حلقة في سلسلة طويلة لا سند لها. اعذرني يا جدي؛ فربما أضطر لأن أملأ فجوات حكايتك وحلقاتِها المفقودة بتفاصيل من عندي، فلا بد أن يكون الكلام له معنى، ولا يمكنني أن أظل حائرًا وتائهًا ومشوَّشًا وضائعًا هكذا. (الرواية 139)
وفقًا لهويسينز، ترتبط ما بعد الحداثة وصناعة التراث ارتباطًا وثيقًا، حيث تُشكّلان طبقة تفصل بين الحاضر والماضي. في هذا الإطار، يصبح التاريخ أقرب إلى كونه بناءً معاصرًا بدلًا من كونه خطابًا نقديًا. ويشير إلى أن القراء يجدون أنفسهم مضطرين بشكل متزايد لاستكشاف التاريخ من خلال الصور الشعبية المتاحة لهم، حتى وإن كانت تمثل تشويهات أو تحريفات زائفة (43، 165).
بدلًا من تقديم رؤى أو «وجهات نظر» جديدة كليًا عن التاريخ، يميل مؤلف «نصف مجهول» إلى دمج عناصر من التراث أو الماضي لإبراز مفهوم «المقارنة». وغالبًا ما تتسم هذه المقارنات بطابع فكاهي وقد تبدو كوميدية.
باختصار، يمكن لـ «نصف مجهول» أن تقدم تصورًا بديلًا للتاريخ أو تعيد تخيل أحداث تاريخية بطريقة غير منطقية أو خيالية. يُستخدم هذا التغيير في الأحداث التاريخية كتعليق على نتائج الخيارات المختلفة أو على قابلية التاريخ لإعادة التشكيل. إن المزج بين العناصر التاريخية المنطقية وغير المنطقية يُشجع القراء على التفكير في تأثير التصرفات غير العقلانية على مسار التاريخ.
يمكن النظر إلى الحياة على أنها سلسلة من الأحلام، مما يعكس الطبيعة المعقدة للوجود والنضال الإنساني للتكيف وإيجاد التوازن داخله. غالبًا ما يلجأ الأفراد إلى خيالهم وأوهامهم وأحلامهم بحثًا عن الراحة والسكينة والفرح. تشكل هذه الأحلام ملاذًا، وأداة للتعامل مع تعقيدات الواقع، ووسيلة لفهم جوانب من الوجود يصعب استيعابها في عالم اليقظة:
في حلم آخر، بعد حلم الحديقة، رأيتُ نفسي واقفًا على بابٍ أنتظرُ الدُّخُولَ، ولكنَّ الحارسَ لم يسمحْ لي بأن أخطوَ على العتبة المُوصِلَةِ إلى الباب إلا بعد أن سألني سؤالاً لا أذكره الآن وأجبتُ عليه إجابة أعجبتْه ولا أذكرها الآن أيضًا.. يفتحُ لي الباب، وتعاودني صورةٌ من منام آخر رأيتُه في الليل أيضًا، وهي صورة شجرة تين وشجرة زيتون وبينهما شجرة ليمون، فأقول له: شكرًا على التين والليمون والزيتون. حلمتُ بهم وها أنا أكاد أشمُّ رائحتهم. (الرواية 9)
تبدو الأحلام هنا وكأنها عنصر يُضفي شيئًا من النظام على الحياة الفوضوية المليئة بالحلقات المفقودة التي تتحدى الفهم البشري ومحاولات صنع المعنى. يُشكّل نسيج الأحلام المتنوعة رابطًا مشتركًا يمنح الحياة تماسكًا ومعنى. وعلى عكس الأماكن التي تمت مناقشتها سابقًا، والتي تمثل نسخًا مكررة لمكان واحد وتتناقض مع عملية صنع المعنى التي يقوم بها الراوي، فإن أحلام هذا الراوي في هذا المقطع تتسم بالاستمرارية والتكامل. فهي تسلط الضوء على بعضها البعض، وتُكوّن فضاءً مترابطًا وذو دلالة، قادرًا على مواجهة العالم الواقعي الذي يميل إلى تفكيك الروابط وطمسها.
على ذات النهج، يُبرز العمل الرائد لجاي ديبور، «مجتمع الاستعراض»، أوجه القصور في عالم أصبحت فيه وسائل الإعلام متغلغلة في جميع جوانب المجتمع (2). يرى ديبور أن الناس يعيشون في واقع تم استبداله بعروض سطحية وثابتة. في هذا العصر الحديث، يسود تفضيل المحاكاة على الواقع، والصورة على الحقيقة، والمظهر الخارجي على الجوهر. لا يكتفي هذا الاتجاه بإبراز الوهم فحسب، بل يمنحه أيضًا مكانة شبه مقدسة، مما يجعل الحياة تبدو، رغم مظهرها الأصيل، مجرد انعكاس لواقع مفرط وليس الحقيقة الصافية:
أنام على ظهري وأتأمَّلُ شجر التين أعلاي وحولي. ثمارٌ تومئ لي، ثمارٌ تتدلّى إلى متناول يدي، ثمارٌ تقطّر لَبَنَها على جبهتي، ثمارٌ تمدُّ يدَها وتربّتُ على كتفي. أحسُّ بأن شجرة التين لها حضنٌ، وهذا الحضن له ظلٌّ أو امتداد، فيحتضنُني حضنُها ويمتدُّ ظلُّها ليُدَثِّرَني بالكامل، فأغفو، ولا أعرف إن كان الفعل أغفو دقيقًا أم لا، بمعنى أنني أدخل في المنام ذاته، كأنْ تنسابُ الصورُ أمامَ عينيك أو داخل عينيك المغمضتين وترتاح أنت للدغدغة، فلا تعرف إن كانت هذه الدغدغة حقيقية أم أنها تحدث في خيالك. لا تعرف إن كنتَ أنت سافرتَ دون أن تدري في الزمن أو في المكان أو أي شيء لتصل إلى مصدرها أمْ أنَّ مصْدَرَها هو الذي انتقل إليك ليمزج بين مكانك ومكانها، بين زمانها وزمانه، أو إلى زمن مشترك بينكما لا تعرف إن كان زمنًا ماضيًا أم زمنًا سيجيئ!!) (الرواية 12)
تعكس هذه الفقرة عناصر الواقعية السحرية من خلال الدمج السلس بين العادي والخيالي بطريقة تبدو واقعية. تبدأ القصة بوصف الراوي مستلقيًا تحت شجرة تين، وهو نشاط يومي بسيط للغاية. لكن سرعان ما يتحول السرد إلى أبعاد خيالية عندما يعبر الراوي عن شعوره بعدم اليقين بشأن الزمن، مما يعلق القواعد المألوفة للواقع. يعبر هذا المزج بين الواقع (الاستلقاء) والخيال (اللحظة الخالدة) عن جوهر الواقعية السحرية.
يضيف وصف ثمار التين الشهية، التي تغري الراوي ورحيقها الذي يلامس جبهته برفق، لمسة سحرية إلى المشهد. تتجاوز هذه التجربة الحسية حدود المألوف، وتُصور كجزء طبيعي من البيئة المحيطة، لكنها تحمل طابعًا يشبه الحلم والسريالية. يضفي التشبيه الذي يُظهر أشجار التين وكأنها تمد يدها لتربت بلطف على كتف الراوي شعورًا بالحياة والوعي في العالم الطبيعي. يُقدم هذا التجسيد باعتباره جزءًا أصيلًا من السرد، مما يطمس الحدود بين الكائنات الحية والجمادات.
إضافةً إلى ذلك، يُضفي ذكر عناق شجرة التين بُعدًا عاطفيًا ونفسيًا على المشهد، ما يوحي بارتباط عميق بين الراوي والعالم الطبيعي، يتجاوز حدود التجربة الإنسانية المعتادة. باختصار، يلتقط هذا المقطع جوهر الواقعية السحرية من خلال دمج العناصر السحرية أو الخيالية بسلاسة داخل بيئة عادية وواقعية. ويُعامل السرد هذه العناصر كجزء طبيعي من العالم، ليخلق إحساسًا بالدهشة والسحر في تفاصيل الحياة اليومية، وهي السمة المميزة لهذا النوع الأدبي.
يحمل الواقع في جوهره لغزًا عميقًا، حيث تصبح الأحلام لوحة يستكشف القراء من خلالها أسراره. هذا يبرز العبثية المتأصلة والفوضى وتشويه القيم التقليدية التي تتسم بها الحياة اليومية. في إعلانه الذكي، يفترض أوسكار وايلد أن الطبيعة تحاكي براعة الإبداع البشري. وعلى هذا الأساس، يتحدى المقطع التالي الفكرة التقليدية القائلة بأن الفن يقتصر على تقليد الطبيعة، ويطرح علاقة أكثر تعقيدًا وديناميكية بين الفن والعالم الطبيعي.
يصور المقطع اللوحة على أنها «تقف بفخر وسط الطبيعة»، مما يشير إلى أن العمل الفني ليس مجرد تقليد سلبي، بل حضور حي داخل العالم الطبيعي. يعيد هذا التصوير صياغة فكرة أن الفن انعكاس للطبيعة، ليضعه بدلًا من ذلك كجزء لا يتجزأ من البيئة. ويبرز المقطع أن اللوحة تعلن عن وجودها لأولئك الذين يتأملونها، مما يمنح الفن صوتًا ودورًا في سيمفونية الخلق الكبرى. فهي ليست مجرد تمثيل ثابت، بل مشارك نشط في الحوار الوجودي.
يثير المقطع غموضًا حول أصل اللوحة وأهميتها، مشيرًا إلى أن النفوس العميقة تبقى حائرة، غير قادرة على تحديد ما إذا كانت اللوحة هي السلف (المبدع) أو الصدى (الانعكاس) في سيمفونية الخلق. هذا الغموض يقوض الفكرة التقليدية بأن الفن يحاكي الطبيعة فقط، ويقترح بدلاً من ذلك أن الفن يحمل هوية وتأثيرًا فريدين.
يستخدم النص استعارة «سيمفونية الخلق العظيمة» لتسليط الضوء على العلاقة المتبادلة بين الفن والطبيعة. وبدلاً من أن تكون العلاقة أحادية الاتجاه، يُظهر النص أن الفن والطبيعة يتعايشان ويتفاعلان، حيث يساهم كل منهما في الانسجام الشامل للوجود. كما يوضح المقطع:
ها هو بابٌ بعد البوابة بقليل، في نهاية ممرٍّ يُحيطُ به الياسمين من الاتجاهين، وتمتزج به روائح الأشجار والنباتات العطرية، فتُنشيني. أقف أمام الباب منبهرًا. لا يوجد أحد ليسألني، ولستُ في حاجة إلى إجابة. تفاصيل البابِ تندَهُ عينيّ، ولا أعرف كيف تمكّنَ الفنّانُ الذي رسم هذه اللوحة على الباب من أن يُنَاغِمَ بين الأشجار والنباتات هكذا في لوحة واحدة، دون أن تشعر عيني بزحامٍ أو تشتُّتٍ أو ضياع، دون أن يلهو قلبي، دون أن يشرد عقلي، وكأن هذه اللوحة التي تقف متباهيةً وسط الطبيعة ذاتها تقول لمن يقف أمامها أو في حضرتِها: ها أنا ذا. لا تعرفُ إن كنتُ أنا الأصل أم أنني الصورة! (الرواية 10)
يشير الراوي إلى أن هذه التحفة الفنية تخلو من أي فجوات أو إغفالات؛ فهي تجسد تعقيدًا شاملًا، وتوفر وفرة من الرموز والإشارات التي ترشد المشاهد نحو فهم التفاعل المعقد بين عناصرها، مما يخلق كيانًا متناغمًا ومتكاملًا. في هذا الإطار، لا يُنظر إلى الواقع باعتباره أصل الأحلام والفن، بل كصورة تعكسهما.
على النقيض، تُقدم الأحلام والفن كمعاقل للنظام والاستقرار والخطية، في مقابل الطبيعة المتقلبة للعقل البشري. يعزز هذا الطرح تفكيك النظريات الكبرى، ويؤكد سيادة الأحلام وشيوع الغموض والتناقض والتجزئة، بالإضافة إلى اندماج الأبعاد الزمنية والمكانية، وهو ما أصبح ممكنًا بفضل التكنولوجيا الحديثة والتقنيات المتقدمة.
باختصار، يُعيد هذا المقتطف صياغة القاعدة التقليدية التي تفترض أن الفن يقلد الطبيعة، ليُبرز الفن كجزء ديناميكي ومتكامل من العالم الطبيعي. يتحدى العمل فكرة أن الفن مجرد انعكاس سلبي، ويقترح أنه يتمتع بوكالة وصوت وقدرة على التأثير في العالم. يدعو النص إلى التأمل في العلاقة المعقدة بين الفن والطبيعة، مُطمسًا الحدود الفاصلة بينهما ومُحتفيًا بتفاعلهما ضمن نسيج الخلق العظيم.
يتفرد الجزيري عن كتّاب ما بعد الحداثة بالتزامه الراسخ بالحفاظ على نقاء اللغة. فهو يختار استخدام العامية بشكل معتدل، مفضلًا أناقة التعبير الشعري وبساطته. كما يتميز بسعيه المستمر لابتكار صور واستعارات جديدة وحيوية، مستندة إلى خبرته ككاتب غزير الإنتاج وصاحب العديد من المجموعات المنشورة. بالإضافة إلى ذلك، يهتم بصياغة كلماته بعناية ووضوح، مما يضمن أن تصل رسالته بشكل واضح ومباشر إلى القراء بمختلف خلفياتهم وقدراتهم وسياقاتهم الثقافية.
ومع ذلك، يشارك الجزيري مع كتّاب ما بعد الحداثة إدراكهم لحدود اللغة. فهو يعترف بأن اللغة، رغم ثرائها، قد تعجز أحيانًا عن تفسير أو نقل تعقيدات الحياة المعاصرة وصراعات البشر المستمرة للتكيف والانسجام:
ربما لا أستطيع أن أعبِّرَ جيِّدًا. هي مشكلة اللغة، أنك تحس بأشياء لا تستطيع – مهما أوتيتَ من فصاحة، من تبحُّرِ في اللغة، من القدرة حتى على اختراع ألفاظ جديدة – أن تعبِّرَ عن هذا الفيضان للمعنى، عن هذا الحضورِ الكُلِّيِّ الذي يطغى عليك وتجد أنه يفوق قدرتك على الاحتمال، قدرتك على التعبير، قدرتك على التفسير، قدرتك على التأويل، فتترك نفسَك له لتستمتع به في حد ذاته، دون أن تكدِّرَ نفسك بفشلِكَ في التعبير، بفشلِك في إيجاد الألفاظ والتعبيرات التي تستطيع أن توفيه حقه. (الرواية 16)
يشير الجزيري إلى أنه عندما تصل اللغة إلى حدود قدرتها على نقل الأفكار والمشاعر، قد يلجأ الأفراد إلى وسائل تعبير بديلة، مثل الفنون البصرية. ففي إحدى الممارسات الموصوفة، «بدلاً من تدوين الكلمات على الورق، يكرس وقته لرسم كل شخص يلتقيه على مدار اليوم، من لحظة استيقاظه حتى خلوده للنوم، وهي طقوس تتكرر يومًا بعد يوم» (الرواية 17). يؤمن الروائي بأن الكلمات غالبًا ما تعجز عن التعبير عن عمق الإدراك أو المشاعر، وكأن المعنى يظل بعيد المنال، بينما تبدو الكلمات كأقزام ضعيفة في محاولتها احتواءه.
يُبرز هذا الطرح التحدي الجوهري في عملية التواصل، حيث يسعى الراوي إلى نقش ملامح الوجوه المألوفة على لوحة تمزج بين الواقع، والحنين، والماضي، والذكريات، وحتى المستقبل. وفي خضم هذا السعي، يجد نفسه مضطرًا للتهرب من الأشواك الحادة لشجرة الليمون، رمز يتردد صداه مع التعقيد والتنوع في الطبيعة البشرية (الرواية 20).
المعلومات غير الكافية والمحدودة
يؤكد مفكرو ما بعد الحداثة، مثل فريدريك جيمسون، وجوليا كريستيفا، وميشيل فوكو، وجاك دريدا، وغيرهم، على غياب الحقائق المطلقة، بل وحتى عدم وجود حقائق ملموسة. ويرى جان فرانسوا ليوتار، على سبيل المثال، أن تقديم رؤية شاملة للعالم هو أمر معقد يتطلب حتمًا درجة من التكهن في الوصف (الشرط ما بعد الحداثي 3). ويشير إلى أن الحياة تتشكل من سلسلة أحداث مفتوحة لتفسيرات وتأويلات متعددة. ويجسد عنوان الرواية «نصف مجهول» هذه الفكرة، حيث يعكس مفهوم الجهل أو الحقيقة غير المكتملة، مع ما يرافق ذلك من فجوات وألغاز وأسئلة غير محسومة. يقول الجزيري:
أنظرُ لرياض طويلًا، وأحسُّ بأنني غبيٌّ وأَّن نظرتَنا للأشخاصِ نظرةٌ مؤقّتَةٌ أو طارئةٌ، فلا يُمْكِنُ لأحدٍ أنْ يكوِّنَ فكرةً حقيقيَّةً أو متكاملةً عن أيِّ شخصٍ، لأنَّ كلَّ شخصٍ فينا في الغالبِ لا يبقى على حال، وإنما هو حالات متفاعلة على الدوام ولا يستطيع أحدٌ أن يتكهَّنَ بما قد ينتجُ عن هذا التفاعل، فحقيقةُ الشخصِ أو هُويَّتُه في حالة سيولةٍ دائمةٍ وتدفُّقٍ دائمٍ وصيرورةٍ متحوّلة من حالٍ لحالٍ، ولا يمكنك أن تتعامل مع شخصٍ على أساسِ الصورةِ التي رسمتَها له في ذهنك منذ سنةٍ على سبيل المثال، لأنَّ هذه السنة هي الإظلام بين مشهد وآخر في المسرحية، وحدثتْ فيها تطوُّراتٌ وتغيُّراتٌ أنتَ لم تشهدْها ولا تعرف عنها شيئًا. كنتُ أظنُّ أنَّ رياض شخصٌ سطحيٌّ أو تافِهٌ لا يتجاوزُ الإفِّيهاتِ والقلشَ والمزاحَ، ولا يستطيعُ أن يدخلَ في عمقِ أيِّ شيءٍ. ولكنني الآن أراه شخصًا آخرَ. (الرواية 121)
يعكس هذا المقطع نظرة عميقة وتأملية حول تعقيد الطبيعة البشرية والقيود التي تواجه تشكيل انطباعات دائمة عن الآخرين. ويسلط الضوء على عدة نقاط رئيسية، حيث يدرك الراوي أن البشر ليسوا كيانات ثابتة، بل هم في حالة تطور مستمر بفعل تجاربهم وتفاعلاتهم. يعترف هذا الفهم بالطبيعة متعددة الأوجه للأفراد، ويؤكد على صعوبة التنبؤ بدقة بسلوكهم أو مسار تطورهم مع مرور الوقت، مما يجعل توقع نتائج هذه التفاعلات أمرًا معقدًا.
إن تشبيه جوهر الإنسان بـ«تيار دائم» في «حالة تدفق مستمر» يعزز فكرة أن الهُوية البشرية ليست ثابتة، بل تخضع لتحولات متواصلة، مما يضيف بعدًا من السيولة والتعقيد إلى فهم الأفراد. كما يحذر الراوي من الاعتماد على الانطباعات والتصورات السابقة للحكم على الحالة الراهنة لأي شخص، مشيرًا إلى “الفاصل الزمني أو الظلام” الذي يمثله العام، والذي يمكن أن يحمل في طياته تغييرات وتحولات غير مرئية.
تجسد تجربة المتحدث الشخصية مع رياض هذا النمو والتحول في المنظور، حيث انتقل من رؤيته له كشخص سطحي إلى اكتشاف عمق جديد في شخصيته، مما يدل على أن الأفراد قد يفاجئوننا بجوانب غير متوقعة من أنفسهم.
بشكل عام، يقدم هذا المقطع تأملًا مدروسًا حول الطبيعة البشرية، مشددًا على أهمية التواضع والانفتاح الذهني عند محاولة فهم الآخرين، والاعتراف بأن تصوراتنا قد تتغير مع مرور الوقت واكتساب رؤى وتجارب جديدة.
تستهل الرواية بطرح الأسئلة دون تقديم إجابات، مما يجسد الطبيعة السريالية للوجود وما يكتنفه من اضطراب واختلال في التوازن والمعايير. وتفتتح بأسئلة مثل:
من أينَ كنتُ أجيء بسيارتي؟ أعرف هذا الرصيفَ وهذا السورَ جيِّدًا، وأبدو كما لو كنتُ أسير على الطريق من شقَّتي إلى مقرِّ عملي في هذه الجامعة. نعم!! أين الجامعة؟ هل حديقةٌ تلك التي بداخل السور؟ …. هل عدتُ إلى زمن قديم أم أن الزمن القديم جاء إليّ هنا؟ وفي الوقت ذاته أحسُّ بأن هذا السور الذي يحيط بالحديقة هو سور جامعة القاهرة، وأنني أُهِمُّ بالدخول لأقطف من ثمار عِلْمِها. لم أدخلها منذ سنوات طويلة، منذ أن نفّض لي ذلك الأستاذ بيديه مع أنني كنتُ على موعد معه لتسليمه خطة الدكتوراه، ومع أنني كنتُ أنتظره أمام مكتبه منذ ساعات، ومع أنه كان يراني وهو يجلس مع طالبة من طالبات الليسانس لساعاتٍ. (الرواية 5، 23)
يعكس هذا الاقتباس حالة من الارتباك والتأمل العميق في تفكير الراوي. يبدأ بالتساؤل عن موقعه الحالي ومدى ألفته بمحيطه، معبرًا عن عدم يقينه بشأن الموقع الدقيق للجامعة، بل وحتى متأملًا في إمكانية وجود حديقة مخفية. يجسد هذا لحظة من الضياع المكاني، حيث يتداخل المعروف بالمجهول، مما يثير مشاعر الفضول والغموض.
علاوة على ذلك، يتساءل الراوي عما إذا كان قد انتقل بطريقة ما إلى زمن آخر، متأملًا إمكانية وجوده في حقبة ماضية. يضيف هذا العنصر بُعدًا من الارتباك الزمني، حيث تبدو الحدود بين الماضي والحاضر غير واضحة، ما يعزز الشعور بالغموض والحيرة.
يشير المقطع إلى أن الراوي غارق في تأمل عميق لا يقتصر على محيطه المادي فحسب، بل يمتد أيضًا إلى مفاهيم مجردة مثل الزمن والواقع. تعكس هذه الرحلة الاستبطانية عقلية فلسفية متأملة، حيث ينقل الراوي إحساسًا بالدهشة والفضول تجاه العالم من حوله. فهو منفتح على فكرة وجود أبعاد خفية في بيئته المألوفة، مما يضفي عنصر الانبهار على تأملاته.
بعبارة أخرى، يلتقط هذا المقطع لحظة من التفكير العميق، حيث يصبح إدراك الراوي للزمان والمكان مرنًا وقابلًا للتغير. إنه يعكس الفضول البشري والاستعداد لاختبار حدود المعروف والمجهول، سواء في العالم المادي أو في العوالم المجردة.
وهنا يظهر التباين الواضح بين الحداثة وما بعد الحداثة. فالحداثة تتعامل مع الواقع بنظرة عملية متفائلة، وتسعى إلى إيجاد حلول للمعضلات التي يواجهها الإنسان المعاصر في ظل العبث والفوضى والارتباك والتفكك. كما تعلي من شأن الفرد، وترسخ هويته، وتقيس قدرة عقله على الفهم وإصدار الأحكام.
أما ما بعد الحداثة، وفقًا ليوتار، فلا تعتبر هذه المعضلات تحديات يجب تجاوزها، بل تراها مواضيع جديرة بالفحص والتحليل. فهي تحتفي بتآكل القيم التقليدية، واضطراب القواعد والمعايير، وغياب الحقائق المطلقة أو انحيازها، بالإضافة إلى التشويه والخلاف داخل الواقع (فهم ما بعد الحداثة 13).
وقد جاء هذا التحول في المنظور، لا سيما بعد الكوارث المروعة التي شهدتها الحرب العالمية الثانية، والتي خلفت أكثر من 60 مليون قتيل ودمارًا عالميًا واسع النطاق، إلى جانب الصراعات اللاحقة مثل قصف العراق وتدمير سوريا وليبيا، ليؤكد جوهر الفكر ما بعد الحداثي.
نبذة عن الروائي
جمال الجزيري (1973) مبدع من الطراز الرفيع، ناقد بارع، ومترجم فذ لا يُجارى. إنسان نقي يرهقه فساد العالم الذي يسعى دائمًا لكشفه وفضحه في أعماله المتنوعة، دون أن يغفل أبدًا عن إبراز الجوانب الجميلة للحياة رغم قسوتها. بدأت علاقتي بأعمال الجزيري منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، عندما كنت طالبًا في السنة التمهيدية للماجستير بجامعة القاهرة عام 1995. آنذاك، لم أستطع استيعاب أعماله بسبب أسلوبه المعقد جدًا، الذي كان يقوم على إيمان راسخ بأن الإبداع لا يكتمل إلا بقوة اللغة، وتوهج الألفاظ، وشدة الانفعال، وأسلوب عقّادي صارم.
مع مرور الوقت، تغيرت كتاباته إلى الأفضل، فأصبحت كلماته أكثر سلاسة وبساطة في ظاهرها، لكنها أكثر عمقًا في مضمونها، فيما بات أسلوبه شفافًا وعذبًا يلامس الوجدان ويأسر القارئ كالصقر الذي ينقض على فريسته. قد يكون هذا التحول مرتبطًا بطبيعة عمله في التدريس، سواء في مدارس التربية والتعليم أو في جامعتي السويس وطيبة بالمدينة المنورة منذ عام 1995.
الجزيري هو كاتب قصة قصيرة، ومطور لفن الومضة القصصية، وحائز على العديد من الجوائز المحلية والإقليمية. كما أنه صاحب دواوين شعرية ودراسات أكاديمية باللغتين العربية والإنجليزية حول السرد والنسوية والهوية والاغتراب، إضافة إلى إسهاماته الثرية في مجال الترجمة عن الإنجليزية والفرنسية.
أصدر جمال الجزيري نحو عشرين كتابًا مترجمًا من الإنجليزية إلى العربية، معظمها نُشر عن المركز القومي للترجمة. إلى جانب ذلك، قام بمراجعة ثلاثة كتب مترجمة نُشرت عن المركز القومي للترجمة، وهي: فندق الأرق (ترجمة أحمد شافعي، 2004)، وجه أمريكا الأسود: وجه أمريكا الجميل (ترجمة أحمد شافعي، 2005)، ورواية السيد (ترجمة جمال الجزيري ومحمود حسب النبي، 2006).
حصل جمال الجزيري على العديد من الجوائز والتكريمات الأدبية، أبرزها: جائزة المركز الأول في القصة القصيرة من جامعة جنوب الوادي عام 1995، وجائزة ناجي نعمان الأدبية عام 2009، وجائزة عبدالغفار مكاوي للقصة القصيرة عام 2010 عن مجموعته القصصية إغلاق المعابر. كما نال وسام التميز من الدرجة الأولى في كتابة القصة القصيرة على مستوى الوطن العربي لعام 2010 من مجلس الصحافة العالمي، تقديرًا خاصًا لقصته الرئيس الجديد.
الهوامش:
1 – تركز هذه الدراسة على عنصرين فقط من عناصر الواقعية السحرية، وباقي العناصر نناقشه في مقالات لاحقة بإذن الله.
عدد التحميلات: 0