
سفينة الجزيري.. وحلم الجزيرة
إلى أين يرحل بنا الروائي الكبير محمد جبريل (1938 – 2025) في روايته الجديدة: (سفينة الجزيري)؟ وهي روايته الثانية والخمسون، في أي سفينة يدعونا إلى الركوب؟ وبصحبة مَنْ مِنَ المُرتحلين؟ وإلى أين؟ إلى أي جزيرة؟ وهل لنا أن نسأل لماذا نرتحل؟ أم هل علينا أن نركب السفينة ونستسلم؟ رحلة ممتعة يدعونا الروائي الكبير إلى العيش في روايته الجديدة التي صدرت عام 2023 عن مجموعة بيت الحكمة بالقاهرة، وتقع في 170 صفحة من القطع المتوسط.
من منطقة بحري في الإسكندرية تبدأ الرحلة، وهي المنطقة التي يحبُّها مُحْيِي عامر بطل الرواية، أشهر المناطق في الإسكندرية، وهي في الأنفوشي، وتطل على البحر، وفيها قلعة قايتباي، ومسجد أبي العباس والبوصيري، وفيها ولد محيي عامر، ونشأ وعاش، ولكن بدأ يحس بانتشار الفساد، بل يحس به يطغى، وكأنه طوفان نوح، ويرغب في الخلاص، ويفكر في الرحيل إلى جزيرة، بدأ يحلم بها، ويكبر الحلم، ويقرر الإبحار إليها، وهو الذي عاش عمره في البر، ولم يُبْحر من قبل، ولكنَّه يعرف البحَّارة، ويعرف البِحار، وقد قرأ عنها وعن الجُزُر كثيرًا، وتتراءى لعينيه جزيرة، وكأنها حقيقة موجودة، ويبدأ في الدعوة إلى الرحيل، ويجمع حوله بعض الرجال من السُّذَّج والمُتَدَيِّنين والطَّيبين، ويُدخل في رُوعهم فكرةَ الرحيل، ويُحدّثهم عن جزيرة معزولة ينجون فيها من طوفان الفساد، ويبدأ معهم في بناء سفينة، وكل منهم يحلم بالخلاص والبعد عن الواقع، والفرار إلى عالم جديد، ويشغلهم بناء السفينة أيامًا يعيشون فيها متعة الحلم وبناء السفينة والتطلع إلى التغيير، وتُبْحر بهم السفينة، ولكن إلى أين؟ وكيف ستكون النهاية؟
والرواية تقيم تناصًّا واضحًا مع قصة الطوفان وسفينة نوح، وهو تناص يوازي القصة، ويشير إليها إشارات فنية في مواضع مختلفة، ولكن بعيدًا عن المباشرة، ويظهر في الرواية أيضًا ابن نوح، واسمه هنا هاني، ويرفض أيضًا الركوب مع أبيه في السفينة، مثله مثل ابن نوح.
وركاب السفينة لا يزيد عددهم عن الثلاثين، وليس فيهم امرأة، وكلهم من البسطاء، لا يمتلكون إلا القليل من الثقافة، ولعل أكثرهم ثقافة الطبيب، وفيهم الشيخ، والكهربائي، والصياد، والبحَّار، والعطَّار، والمحاسب، وليس في الركاب أحد من الطبقة الغنية لأن أصحاب هذه الطبقة لا تهمهم مظاهر الفساد، وهي المظاهر التي دفعت محيي عامر إلى التفكير في جزيرة في عرض البحر، يبدأ فيها حياة جديدة بعيدة عما آلت إليه الحياة في بحري، ولطول تفكيره في تلك الجزيرة وتخيُّلِه لها أو توهُّمِه صورتَها ودعوة الناس إليها أصبح لقبه الجزيري، بل أصبح الجزيري اسمه، وأصبح اسم سفينته: سفينة الجزيري، وصار اسم السفينة عنوان الرواية، ونسبة المرء إلى مكان موجود فيه ولد وعاش، أو إليه هاجر، تبدو واقعية، أما أن ينسب المرء إلى مكان يفكر فيه أو يتخيله أو يتوهَّمه، فهذا من الغريب، ولو نسب إلى منطقة بحري فقيل بحيري، أو بحراوي، لما كان في هذه النسبة أي شيء مميز.
ولا يوحي عنوان الرواية من البدء بقصة نوح، على الرغم من وجود كلمة سفينة، وكذلك لا يوحي اسم الجزيري بقصة نوح، ولا يدل على رجل يفكر بجزيرة ويتخيَّلها حتى يعتقد بوجودها حقيقة ويدعو الناس إلى صنع سفينة وركوبها والارتحال إليها، ولكن سرعان ما تتضح دلالة العنوان في الصفحات الأولى ويزداد التشويق لمتابعة الرواية.
*
ومحيي عامر، أو الجزيري، موظف إداري في المستشفى الأميري، ويعمل في ورشة نجارة بعد الانصراف من الوظيفة، وكان يصنع الأثاث المنزلي من خشب الزان، فبدأ يصنع الكراسي والشماسي من أخشاب باقي السفن القديمة (ص 11)، وهو يحسّ بكل شيء قد تغيّر، بل يحس بأن الأمور تسير نحو الأسوأ، على نحو ما رأى في الحلم: «اختفت أشعة الشمس خلف السحب الداكنة، أجدبت الأرض، نضبت مياه النهر، بلغ مدُّ الرمال نهاية أفق البحر، تكوَّم الذباب فوق الجثث المتناثرة على رمال الشاطئ، وعلى المحار وقناديل البحر والطحالب والأعشاب، اسودَّ لون الزراعات، تغطَّتْ بالضباب واجهاتُ البيوت، عاود أهلُ الكهف رقادَهم في جوف الشاطئ، كلُّ شيء يعوم في الفوضى»(ص7 -8)، ويصحو على هذا الكابوس، «ويرى أنه ما لمْ يُحَذِّرِ الناسَ فإن الكارثة قادمة»(ص 8).
ويرى أنه لا بد من حدوث تغيير، ولكنه لا يعرف ما ينبغي تغييره، ولا كيف، ثم يدرك أن التغيير مستحيل، فالناس مشغولون بحياتهم اليومية، ولا يفكرون في شيء، وينال منه السأم والضجر، وقد حاول إرشاد الناس، ولكن لا جدوى، «سادت الفوضى، اختلطت الحقائق، انتهكت الحرمات، اضطربت الأمور، اختلّ النظام، ساد الخلاف والانقسام والمنازعات والدسائس والوقيعة والعنف، زادت عمليات السطو والسلب والنهب، وقع الغلاء في سائر الأشياء وتفاقَمَ الجَدْبُ والأمراض والأوبئة، سُمِّيَتِ الأشياءُ بغير أسمائها، إن لم تستقمِ الأمورُ، وينصلحِ الحالُ الماثلُ، فالخطر قادم»( ص 12).
ورؤية الجزيري للواقع رؤية حلمية ذات طابع ديني، فهو يخشى على منطقة بحري مصيرَ سدُّوم وعَمُّورة، وكل ما يتمناه هو ما يشبه في الحقيقة الجنة في دنيا لا صراع فيها ولا تنافس، وما أشبهها بحلم طفل بريء لم يعرف المغامرة: «رغبة حقيقية، يصبح بحري مكانًا يسهل العيش فيه، يعملُ المرء، ويصادق، ويحبّ، ويعبد الله» (ص 12).
وهذه الرؤية للواقع هي رؤية كل جيل وكل عصر وكل زمان ومكان، وليست جديدة، هي رؤيا شعرية قبل أن تكون رؤية واقعية، ويؤكد ذلك أن الخلاص الذي انبثق في ذهنه كان رؤيا شعرية، وأن «أول مرة واتته فكرة السفر لمَّا أفلتَ خيطُ الطائرة الورقية مِنْ يَدِ وَلَدٍ على سطح البيت المقابل، وغاب في الأفق».(ص 13)، وهو يتطلع إلى ما وراء الأفق، وكأنه يريد اختراق الغيب، أو رؤية ما وراء الطبيعة، أو ما وراء المادة، يتساءل الجزيري بعد رؤيته الطائرة الورقية: «أين ذهبت الطائرة؟ أين استقرت؟ ما صورة الحياة بعد نهاية الأفق؟ هل يتاح له اكتشاف ما تقتصر صُوَرُه على أفواه القادمين من بلاد لم يرها؟» (ص 13).
واختيار الجزيري الرحيل بوساطة سفينة هو اختيار ذو طابع ديني، وهو اختيار لتجربة سابقة، هي تجربة نوح عليه السلام، وتجارب التاريخ محكومة بمجتمعها وبظرفها الزماني والمكاني، ولا يمكن تكرارها، وإذا كانت السفينة صالحة للتغيير في عهد نوح وقومه، فهل هي صالحة للتجريب مرة أخرى؟ في مجتمع آخر مختلف زمانا ومكانا وحالة؟
واختيار الجزيري السفينة للنجاة يدل على أن التفكير العقلي في المجتمع العربي، ويمثله الجزيري، لا المؤلف، هو مجتمع محكوم بالتاريخ، وتجارب التاريخ هي المسيطرة عليه، ويؤكد ذلك أن الجزيري موظف إداري في المشفى الأميري، فهو في بيئة علمية، ويتعامل مع وسائل تقنية، حتى لو لم يكن طبيبًا، ولكن مهنته في النجارة طغت على وظيفته في المشفى، مِمَّا يدل على أن المجتمع العربي لم يدخل بَعْدُ في عصر التقنية، ويؤكد ذلك لُجوؤُه فورَ رؤيته الحلم بالفساد إلى الشيخ حافظ أبو السعود.
إن تمجيد الماضي نزعة قديمة راسخة في التفكير البشري، وفي القرن الثامن قبل الميلاد كان الشاعر والمؤرخ الإغريقي هزيود، صاحب قصيدة الأيام والأعمال، قد عدَّ عصرَه العصرَ الحديدي، وهو عنده أسوأ العصور، أما ما سبقه من عصور فهي العصر الذهبي ثم الفضي ثم البرونزي ثم البطولي، وهي، عنده أيضًا، بالترتيب التنازلي من أفضل العصور، وما يزال الناس إلى اليوم في معظم الثقافات يمجدون الماضي.
*
والرواية مكتوبة وفق خطة مدروسة بعناية، لكنها تبدو عفوية، والخطة لا تتناقض مع العفوية، فالخطة تصوُّرٌ عام، يقع في العمق من تفكير الكاتب، أما الكتابة فهي تدفق عفوي نتاج الانفعال والتوتر في ساعة الإبداع والكتابة، ونتاج تصور الخطة العقلية المدروسة، ويتضح ذلك من خلال سير الرواية.
وكل فصل من فصول الرواية لوحة شعرية تتكامل في تلاحُمٍ عضوي مع باقي اللوحات في معمار فسيفسائي متكامل، وبالشعرية لا نعني شعرية اللغة، بما فيها من تشبيه واستعارة وكناية، بل نعني شعرية الحالة والموقف والانطباع، مع دقة في التعبير عن المشاعر والانفعالات والخواطر والهواجس، بالإضافة إلى جمال تصوير الأماكن والأشخاص والأشياء، والغنى اللغوي وتدفق الجمل وانثيالها العفوي، وليست اللغة مجرد وسيلة للتعبير، بل هي لغة فنية خاصة، تمتلك قيمتها التي تميزها في حدِّ ذاتها.
فالرواية مقسَّمة طباعيًّا فقط إلى فصول، كلُّ فصل يبدأ في رأس صفحة جديدة، ولكنه لا يحمل رقمًا ولا عنوانًا، بخلاف المألوف في أكثر الروايات، والأمر متروك لذكاء القارئ وملاحظته ودقَّتِه في القراءة، وكأنّ الكاتب أراد للرواية أن تنثالَ انثيالًا عفويًا من غير تقطيع واضح مباشر، ومن غير تحديد بأرقام أو عناوين، مما يدلّ على ثقة المؤلف بنفسه، وتفاؤُلِه بذكاء القارئ، وهو بذلك يقيم حوارًا غير مباشر بينه وبين القرَّاء.
ويستطيع القارئ أن يلاحظ أن بعض الفصول مخصَّصة في البداية لِلِقاء الجزيري بركاب السفينة، وفي كل فصل يلتقي بفرد يدعوه إلى الرحيل، وهم: المحمّدي نصير، والشيخ حافظ أبو السعود، والحاج أسعد الفرغلي، وأسامة الجويلي، فلكل واحد من هؤلاء فصل، وثمة فصل بعد ذلك لانبثاق فكرة السفينة وكيف بدأ يبنيها، والصورة التي ارتسمت في ذهنه عنها وحُلُمه بها، وثمة فصل لابنه هاني، وفصل ثان لأماني، زوجة هاني، وثالث لاجتماع هاني وزوجته أماني، وفصل لوداع ابنه هاني، وثمة فصل لركاب السفينة، ويظهر فيه مُتَوَلِّي قطة، وقد وقف في باب الجامع ينادي مَن يرغب في الرحيل، ويجمعهم واحدًا بعد الآخر، ويتولَّى أمورهم، وهم الشيخ الليثي عبد ربه، ورمضان زقزوق، وقباري شعبان، ويسري طمان، وحنفي الْمَنْدُوه، وحسَّان الطويل، ومحسن الوكيل، ووائل الشيال، ومحمود أبو ركبة، وزكريا عبدالباقي، وصبحي هلال، وغيرهم، وفي الأسماء غرابة وطرافة، وهي مألوفة في بيئة مصر، ولكنها أشبه ما تكون بالأسماء في ألف ليلة وليلة، وثمة فصل لبناء السفينة، وفصل ثان للاحتفال بانتهاء العمل فيها، وفصل لإبحارها بالركاب، وفصل للخلاف بين المرتحلين، وأخيرًا ثمة فصل لحَيْرَة الجزيري وقلقه وتساؤله عن نهاية الرحلة.
*
ومن المعروف أن السرد هو أبرز عناصر الرواية، أي فن عرض الحوادث، لا في تتابعها الزمني، فحسب، بل في بناء فني عماده السببية أو اللاسببية، ووفق حُبكة، وإذا كانت الحوادث تقع في زمان وما ومكان ما، ويقوم بها أشخاص، فإنه لا بدَّ مِن مُتَمِّمات للسرد، تقيم لُحْمَةً بين الحوادث وسائر العناصر، ومن هذه المتممات يبرز عنصر الوصف، أي وصف الشخصيات والأماكن والأشياء، بل وصف الحالات النفسية والمواقف والانفعالات، بالتعبير المباشر، أو بالحوار، أو المونولوج، أو بأساليب أخرى، وبذلك يصبح الوصف عنصرًا أساسيًّا من عناصر الرواية، لا تقلُّ قيمته عن قيمة الحوادث والشخصيات، بل هو مكوِّنٌ أساسي من مكونات الرواية، وعنصر من عناصرها.
ومن الممكن التمييز بين الوصف والتصوير، فالوصف يتعلّق بما هو ثابت من زمان ومكان وأشياء ومظاهر الشخصيات، يتناول جزئياتها وعناصرها المكونة، والتصوير هو وصف حي متحرك، يرصد الأفعال والحركات والتحولات، وقد يكون وصف الأشياء الثابتة تصويرًا، إذا بني على الحركة والفعل.
ويبدو من الطبيعي أن يقل حضور الوصف والتصوير في الروايات التي تطغى فيها الأفعال، في حين يظهر جليًّا الوصف والتصوير في الروايات التي تقل فيها الأفعال، ولكن في الأحوال كلها لا بد من حضور هذين العنصرين، بنسب متفاوتة، والأمر لا يتعلَّق بالكم، إنما يتعلق بتحقيق الوصف وظيفته في خدمة السرد، وبتلاحُم الوصف والسرد، سواء قلت الحوادث أو كثرت، ورواية سفينة الجزيري ليست رواية حوادث، وإنما هي رواية شخصيات، فمن الضروري أن يعرفها القارئ هذه الشخصيات، ووصف الشخصيات والأماكن يزيد بناء الرواية تماسُكًا، ويشدُّ بعضَ عناصرِها إلى بعضها الآخر.
*
وفي الفصل الأول يلتقي مُحْيِي عامر صديقه المحمَّدي نصير في مقهى، والمحمدي نصير بحَّار مغامر، سَبِحَ في معظم بحار العالم، وهو يحتفظ في صندوق عنده بتذكارات من كثير من موانئ العالم، وأشرف مرةً على الغرق، وكاد البحر يبتلعه، وحكاياته عن البحر لمُحْيِي عامر لا تكاد تنتهي (ص 16) أما محيي عامر أو الجزيري فهو برِّيٌّ لم يركب البحر، ولم يغامر بأكثر من الصيد عند الساحل، وضاقت به الحياة، فأخذ يصنع من بقايا السفن الكراسي والشماسي للبر، وثمة تناقُضٌ في الظاهر بين المحمدي نصير ومحيي عامر، ولكنه تكامُلٌ في الحقيقة، فالمُحمدي نصير هو المحرّض لا شعوريًّا على تفكير محيي عامر في ركوب البحر، والمحمدي نصير البحار هو الحلم القابع في أعماق اللاشعور عند مُحْيي عامر.
والمحمدي نصير يحاور الجزيري حوار العقل، ويردُّ على اقتراحه الرحيل، فيقول: «سهل أن تبدِّل المكان، صعب أن تبدل النفس» (16ص) ثم يضيف: «إذا لم تستطع التغيير في بحري فلن تستطيعه في مكان آخر» ( ص 21) والمحمدي نصير بحَّار قديم سئم العيش في البحار، واستقرّ في باله ألا يبتعد عن بحري، وهو «لا يتصور نفسه في مكان آخر، الجنةُ وَعْدُ الآخرة، أما بحري فهي جنةُ الدُّنيا» ( ص 19)، ولذلك يبدو من الطبيعي أن يعتذر البحار المغامر عن ركوب البحر.
ومُحيي عامر ينظر إلى المحمدي نصير نظرة إعجاب، فهو: «القامة الطويلة، الممتلئة، البشرة البيضاء، يكسوها النَّمش، والبياضُ يغلب السواد في الحاجبين الكثيفين، الخيوط الرفيعة من التجاعيد حول العينين والشفتين، يرتدي سترة خفيفة، وبنطلونًا، في إصبعه خاتم ذهبي بفص ياقوت أزرق» (ص 13)، «دنياه البحرُ والأمواج وزرقة السماء والشمس وهبات الهواء والنُّوَّات ورائحة الملح واليود والأعشاب والطحالب، أمضى سنوات في البحر، قبل أن يلزم بيته في بحري» ( ص 14)، وبذلك تقدم الرواية صورة متكاملة لشخصية المحمدي نصير في مظهره الخارجي، وفي تكوينه النفسي، وهي صورة تنم عن إعجاب محيي عامر به، وهو أول من يجتمع به بعد تفكيره في الرحيل.
*
وبعد لقاء المحمدي نصير في الفصل الأول يسرع الجزيري في الفصل الثاني إلى ارتقاء درجات جامع أبو العباس ليلتقي الشيخ حافظ أبو السعود، ليحدِّثَه عن الحلم، ورغبته في الرحيل في سفينة، ويدور بينهما حوار مركز عن الرحلة، ويعتذر في نهاية الحوار الشيخ عن المشاركة في الرحلة، ويبدو أنه رجل عاقل متزن، وهو رجل تقوى وورع، يحب الناس، ويصفه الراوي، فيقول: «أفكاره وعظاتُه شاغلُ أهل بحري، حَبَاه الله الطهارة الباطنية، وصفاء المزاج، والإخلاص والثقة بالنفس، يطيل القراءة طوال الليل، يحدِّث المريدين عقب صلاة العصر في اليوم التالي عن الصفحات التي قرأها، الأحداث والشخصيات والعِبَر، يُهمل العظة التي تخيف المصلين من العقاب في القبر، وفي الحياة الآخرة، يضمِّن عظاته التشبيهات الجميلة والاستعارة والكناية والمجاز… يستوقفه المارة وأصحاب الدكاكين، في الشوارع، يسلم، يصافح، لا تغادر الابتسامة شفتيه» (ص 23 – 24).
ومظهر الشيخ حافظ أبو السعود ينسجم وداخله، فهو: «القامة المديدة، الوجه المستدير، الأبيض، المشرب بالحمرة، الذقن الحليقة، الْجُبَّةُ الجوخ، القفطان الشامي، المسبحة، الحرص على أداء الصوات في الجامع» (ص 25)، وطولُ القامةِ دليلُ الهيبةِ والوقار، والوجه المستدير دليل الجمال، فالدائرة أكمل الأشكال، والوجوه خمسة أشكال: المدور والمستطيل والمثلث والمربع والمعين، والمُدَوَّر أجمل الأشكال، فالدائرة رمز التمام والكمال، وبياض الوجه دليل الصفاء والنقاء والطهر والتألق، وبياض الوجه المشرب بالحمرة يدل على وفرة الصحة، وكثرة رياضة النفس، وذقنه حليقة، لا يصطنع المظاهر، وجُبَّتُه من جوخ، دليل التواضع، وليست من حرير، والحرير أغلى، وقُفطانه من الشام، وهي من البلاد التي باركها الرسول صلى الله عليه وسلم، والمسبحة من لوازمه، والأهم أنه حريص على أداء الصلوات في الجامع، وهذا دليلُ تقواه وحبِّه الجماعة، ولزومِه الصلاةَ في وقتها، والوصفُ لمظهر الشيخ ساكن، قوامه الأسماء والألوان، ولا أفعال فيه، ولا حركة، وهذا دليلُ الثباتِ والوقارِ عند الشيخ حافظ أبو السعود، والبعدِ عن الاصطناع والتكلُّف.
*
وعلى العكس من الشيخ حافظ أبو السعود يظهر في فصل متأخر الشيخ عبد ربه الليثي، الذي يقول مُتَحَمِّسًا: «أزكِّي نفسي إمامًا للرحلة» (ص 53)، وينهى المولى عز وجل عن تزكية النفس، فيقول جلّ شأنه في محكم التنزيل: (فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى) (32) سورة النجم، وفي المثل الشعبي: «لا خير في من يزكي نفسه»، وقد جاء مظهره دالًّا على دواخله، فقد جاء في وصف ظاهره: «الشيخ الليثي عبد ربه، إمام مسجد طاهر بك، وجهه يُوحي بالطّيبة، ثمةَ شُعَيْراتٌ حمراءُ دقيقةٌ تتشابك في بياض العينين، خيوط رفيعة مِنَ التجاعيد حول العينين والفم، رأسٌ خلتْ مقدمتُه مِنَ الشعر، حاجبان كثيفان، يُسْدِل على جسده عباءة خضراء، فوق قفطان فضفاض، يُحيطه حزام حريري، يدسُّ قدميه في خُفٍّ مَغْرِبي، وتكرُّ أصابعُ يدِه مسبحةً كثيرةَ الحبَّات» (ص 53).
وجاء في وصف دواخله: «وسَّعَ الله عليه بالعلم والمعرفة، شُهِرَ بالعظات التي تُخيف المصلين من العقاب في القبر، وفي الحياة الآخرة، عِظاتُه عن أهوال الآخرة، ما يسبقها ويلحقها من المحاسبات والشدائد القاسية» (ص 53)، وواضح أن الله عز وجل قد وهبه العلم، ولكنه يوظف علمه في ترهيب الناس وتخويفهم، بخلاف الشيخ حافظ أبو السعود.
والوصف لمظهره الخارجي يدلُّ على دواخله، فوجهه يوحي بالطيبة، ولكنه لا يدلُّ عليها، ولا يؤكدها، وليس في وجهه لحية كاملة، إنما في وجهه شعيرات حمراء دقيقة، وقلّتُها تدلُّ على قلَّة العلم والحكمة، وكونها حمراء هو نتيجة صبغها بالحناء، وفي هذا دلالة على الاهتمام بالمظهر، وتشابُك الشعيرات الحمراء مع بياض العينين يدل على التناقض والإحساس بالحَيْرة والتردد بين حمرة الشعيرات وبياض العينين، والبياض الظاهر في العينين يدل على شبه غياب للحدقة، وهو مظهر قبيح، والخيوط الرفيعة من التجاعيد حول العينين والفم تدل على تقدم في العمر، ولكنها ليست عميقة، مما يوحي بقلة الخبرة والتجريب، وغياب الحكمة، وظهور بداية الصلع في مقدمة الرأس يدل على غياب العمامة، وكأن في جسده عيوبًا أو آثامًا، فهو يسدل عليها عباءة خضراء، وكون العباءة خضراء يدل الرغبة في التظاهر بالتعبد، والقفطان الفضفاض دليل على البدانة للإفراط في الأكل، وهو يحيط القفطان بحزام حريري دليل الترف، وهو يدس قدميه في حذاء مغربي، ليدُلَّ على ترفه وغناه، لا على زهده وتقشفه، وللحذاء المغربي سحر خاص لأنه من بلاد مشهورة في حكايات ألف ليلة وليلة بالسحرة والمتصوفين، وهو يدس قدميه فيه، وكأنه كبير على قدميه، وكأن قدميه لا تليقان بهذا الحذاء، وأخيرًا تظهر حركة مريبة، وهي أصابع يده التي تكُرُّ مسبحة كثيرة الحبات، فيَدُهُ تلعب بالمسبحة، ولكنه لا يذكر اسم الله مع كل حبَّة، والحبات الكثيرة دليل طول المسبحة، وهذا كله من المظاهر الخادعة التي تلفت الأنظار، ولا تدلُّ على تديُّن حقيقي.
وسوف يظهر بعد ذلك الشيخ الليثي في السفينة لاجئًا إلى الخلوة لا يعمل شيئًا، ممَّا يثير غضب بعض الركاب المرتحلين، ويؤدي إلى شيء من الاحتجاج، وقد تبيَّن للجزيري عندئذ «أن له باطنًا أجاد مداراته بما يَصْعُبُ تقبُّله» (ص 150).
*
وتظهر في الرواية أماني التي يهملها زوجها، ولا يعاملها بما يجب أن يعامل الزوج زوجته، بل يعمد إلى خيانتها، وتصورها الرواية زوجة وفية مخلصة، فهي: «تُعِدُّ طعامًا سريعًا، تترك البيت بشارع فهمي الناضوري في الرابعة عصرًا، تتجه إلى ميدان المنشية، ومنه إلى شارع الميدان، تميل إلى الورشة في سوق التُّرك، تجلس في انتظاره حتى موعد الإغلاق، ربَّما مَالَا إلى شارع الميدان، يعودان باحتياجات البيت، تَرْوِي له فيلمًا في التلفزيون، فاتَتْهُ مشاهدتُه، لا تعرِفُ كرةَ القدم، لكنها تشجِّع لإرضائِه نادي الاتحاد السكندري، تُعْنَى بكلِّ ما يخصُّه، تزور مقامَ الْمُرسي، تطلب الشفاعةَ ليهبها الله ولدًا مِن صُلْبِه» ( ص102).
والأماكن المذكورة هي تعبيرٌ عن حالات ومواقف، فالمرأة تُعِدُّ لزوجها طعام الغداء، وتحمله إليه في الساعة الرابعة، بعد عودتها مِن عملها في هيئة البريد، وهي أحوجُ ما تكون إلى البقاء في البيت، وتمشي في أزقة وحارات كثيرة حاملة الطعام، وتقعد في الورشة، حتى موعد الإغلاق، ثم ترجع مع زوجها، وفي طريق العودة تؤانسه بحديثها، ثم تقصد المقام تدعو الله أن يهبها ولدًا من زوجها، وتُلِحُّ على أن يكون من صلبه، دلالة على وفائها لزوجها، وإخلاصها له، وتلميح إلى أنه عقيم، ودليل على أنه لا يعطيها حقها بوصفها زوجة، في حين يستمتع هو خارج البيت.
هذا هو التصوير الحي المتحرك، الذي يقوم على تقديم الشخصية من خلال المكان، وتقديم المكان من خلال الشخصية، مع حمولات من المواقف والمشاعر والانفعالات القريبة الواضحة، أو التي تدل عليها الأفعال، وفي هذا التصوير الحي يندمج المكان بالشخصية، وتندمج الشخصية بالمكان، فهما يشكلان وحدة متكاملة، لا يستطيع القارئ أن يفرق بينهما.
وتصور الرواية حياة أماني في بيتها على النحو التالي: «لا تجدُ متعة في المطبخ، تقتصر وقفتُها على دقائق، تخطف مِن الثلاجة ما تأكله، وتخرج، تستلقي على السرير، يداها معقودتانِ خلفَ عنقها، ونظراتها تتأمل أضواء السيارات المتراقصة عبر النافذة في الحوائط والسقف، يأخذها النوم، تصحو على تسابيح الفجر من مئذنة أبو العباس، تُعْنَى بترتيب الشقة، تتشاغل بإزالة الغبار والكنس والمسح والترتيب، تبدِّل مواضع قطع الأثاث، تُوارب النوافذ، تفتحها، تغلقها، تدير الراديو أو التلفزيون، لا لتُنصتَ أو تشاهدَ، بل لتُحْدِثَ مِنَ الأصوات ما يبدِّلُ شعورَها بالوحدة، تُحَدِّثُ نفسها بصوت عال، كأن هناك مَن يستمع إليها، تعكِفُ، لمجرد سرقة الوقت، على أشغال التريكو والكانفاه والكروشيه، تقتحم أنفَها رائحة من المطبخ، تترك ما في يدها، تعرِف أنها توهَّمَتِ الرائحة، أَمْلَى القلقُ عليها ما تصوَّرَتْه، لا حظتْ في نفسها عزوفًا عن ترك البيت، تخشى أن تصادِفَ ما لا تحبه، ما يُلغي إحساسها بالأمان» (ص116).
والفضاء الذي تتحرك فيه المرأة، وهو المنزل، فضاء داخلي مغلق محدود، ويستغرق هذا الفضاء يومًا كاملاً، وتظهر المرأة في بيتها وحيدة، والزوج غائب، وهي تشعر بالوحدة والقلق، وتحس بالغربة والوحشة، وينتابها التوتر، وتحاول تفريغ شحنات قهرها بمختلف الوسائل، كما تحاول مَلْءَ فراغ المكان والزمان والنفس بأمور كثيرة، وتظهر في التصوير أفعال كثيرة تدل على الحركة والقلق والتوتر.
وبعد ذلك القلق تغادر أماني الشقة، ولكن إلى أين؟ «ثمة شيء لا تتبَيَّنُه، دَفَعَها إلى التصرُّف بما لم يَدُرْ مِن قبل بخاطرها، ركبتِ الترام من ناصية شارع صَفَر باشا، نَزَلَتْ في ميدان محطّة الرَّمْل، أمضتْ وقتًا في التمشِّي، ومشاهدة البضائع المعروضة في واجهات محال شارع سعد زغلول، أطالتْ في مفترق الطريق تقليبَ نظراتها بين شارع صفية زغلول إلى اليمين، وأفق البحر إلى اليسار، عَبَرَتِ الجزيرة الصغيرة بين التريانون ومحطة الرمل، غالبتْ في الساحة المزدحمة مشاعر الارتباك والتوتر والخوف، اتجهت ناحية الترام». (ص 117)
والمقطع يصف حالة التوتر، وتفريغ الشحنة بالتجوال على غير هدى ولا قصد، في أمكنة واسعة مفتوحة لاستنفاد الجهد وتدمير الطاقة من أجل الخلاص من التوتر، ولذلك يحس المتلقي أنه يمشي بخطوات سريعة تائهة مع أماني، وهو لا يعرف ماذا يريد، وليست غايته أن يرى ويعرف، بل الغاية أن يمشي ويبدد الوقت والطاقة والانفعال، وهذا هو حال من يمر بالأشياء ينظر إليها، ولا يراها، وقد تسأله عن شيء مر به، فيقول: ما رأيته، ولذلك، فالوصف تصوير خارجي لحركات في المكان للتعبير عن حالات قلق وتوتر في الداخل، فهي حركات خارجية تكافئ حركات داخلية، وتدل عليها.
هذا الوصف للمكان هو ما نرى أن نسميه التصوير، فهو مشهد سينمائي حي متحرك، يقوم على الحركة والفعل، فثمة شخص يتحرك في الأمكنة، وعين الكاميرا ترصده، وهو يتنقل من موضع إلى موضع في حركة سريعة، وفي المشهد ستة أفعال تدل على الحركة، والانتقال، وهي: ركبت، نزلت، أمضت وقتًا، أطالت، عبرت، اتجهت، بالإضافة إلى اسمين يدلان على الحركة، وهما: التمشي، تقليب نظراتها، وكلها أفعال حركة خارجية، ظاهرة للعيان، ويعقبها فعل نفسي داخلي، وهو: غالبت مشاعر الارتباك، وبذلك يظهر المشهد حافلاً بالحركة المعبرة عن القلق والتوتر.
وظهرت في المشهد عشرة مواضع، تم الاكتفاء بتسميتها، وهي: شارع صَفَر باشا، ميدان محطة الرمل، شارع سعد زغلول، شارع صفية زغلول، أفق البحر، الجزيرة الصغيرة، التريانون، محطة الرمل، الساحة المزدحمة، الترام، ويلاحظ البدء من محطة الرمل، ثم العودة إليها، مما يدل على اللف والدوران والتشتت ثم العودة إلى البداية ونقطة الانطلاق، مما يؤكد العبث والضياع والقلق.
وتبدو أماني مثالًا للمرأة في المجتمع العربي، فهي الزوجة الوفية، المخلصة لبيتها، تعمل في الوظيفة، وتعمل في البيت، وتخدم زوجها، وتؤانسه، وتسليه، وتصبر على مزاجه العكر، وتتمنى لو ترزق منه بولد، لأنها تدرك طبيعة دورها الطبيعي في الأسرة والمجتمع، إذ عليها أن تنجب لتحفظ الحياة، بل من حقها أن تنجب لتحق أنوثتها وأمومتها، ولكن حين يتخلى عنها زوجها، وتعرف حقيقة أنه يخونها، تطلب عندئذ الطلاق.
*
أما هاني الزوج فهو كما تصوِّره الرواية: «جفاها النوم إلى جانبه في أيام زواجهما الأولى، ثم أَلِفَتْ صوتَ الشخير الذي يتخلل نومه، يوقظها في عِزِّ النوم، لا تَذْكُرُ أنَّه قبَّلَها، أو سَبَق الفعلَ بمُداعَبَات، هي وعاءٌ يُفْرِغ فيه شهوتَه، تترك له جسدَها، يحتضنه، يعبث به، كأنه شيءٌ لا تُحِسُّهُ، ولا صِلَةَ لها به» (ص101)، ولا تطيب له العلاقة الطبيعية مع زوجته، لأنها تستسلم له بالرضا، ولكن تطيب له العلاقة مع بَغِيٍّ تُمَرِّغُ كرامتَه بقدَمِها، وقد أكد الطبيب قدرة زوجته على الإنجاب، وهو الذي لم يرزق منها بولد، في حين يرفض أن يَعْرِضَ نفسَه على الطبيب.
إن فسادَ الأسرة بؤرة منها يكون فسادُ المجتمعِ كلِّه، بل دمارُه، فالمرأة هي الأُمْنِية، بل هي الأماني، واسم زوجة هاني هو أماني، واسمه هاني، ولكنه لا يريد لها ولا لنفسِه الهناءةَ، بل يظن الهناءةَ خارج الأسرة، وبعيدًا عن زوجته، وهي القادرة على بالإنجاب، واستمرار الحياة، وتجديدها، وهو العقيم والفاجر والمستبد والظالم، ومِن بعدِ هذا الفساد تتساوى كل أشكال الفساد، فهو الأخطر، لأنه يدمِّر المجتمع، وينهي الحياة.
وقد عالجتِ الرواية الشخصيتين بإتقان، وصوّرت كلًّا منهما على حِدَةٍ، من زاويته الخاصة، فتعدَّدَتْ الأصوات والجوانب، واستطعنا أن نرى الزوجة أماني من زاويتها هي، واستطعنا أن نرى هاني من زاويته هو، بفنية تُخْلِصُ لِكُلٍّ من الطرفين، ولعل أسوأ ما في الفساد أن يدرك هاني جمال أماني بعد الطلاق، ثم يحاول استمالتها لينالها، وهي لم تَعُدْ له زوجة، وهو يَعُدُّ ورقة الطلاق مثل شَبْكَةِ الزواج، فَهَمُّه الأول هو العلاقة لا غير، ويُرَجَّح أن يكونَ إحساسُ الجزيري بالفسادِ قد تفاقَمَ بعد أنْ رأى ابنَه يخون زوجته أماني، ويختصِمُ معها، ثم يُطَلِّقُها.
*
ويلتقي الجزيري أُسامةَ الجويلي، وهو أكثر الركاب حكمة ومعرفة، ويكاد يبدو أسطوريًا، شخصية من شخصيات ألف ليلة وليلة، ويعرِضُ عليه الرحيل، ويدور بينهما حوار مركز، ومما يقوله للجزيري: «إصلاح الأعمال بإقامة العدل، وَرَدِّ الظلم، وإعمار الحياة، ذلك ما يجب أن يتحقَّق، ليس في جزيرة خيالِك وحدَها، بل في كلِّ الدنيا» (ص 84)، وقُبَيْلَ نهاية الرحلة يضيف قوله: «هل نصنع في الجزيرة ما لم نستطعْ صُنْعَهُ في بحري؟» (ص 173).
وتصف الرواية الجويلي بأنه «يَخْتزِن في رأسه ما لا حَصْرَ له من العلوم والمعارف، فيصعب معرفةُ تخصُّصه، عُرِفَ بفهمه لعالم ما بعد الطبيعة من غوامض وأسرار ومقدسات، وبقدرته على التنبؤ بالمستقبل…لا يُقْدِم على فِعْلٍ ما، إلا إذا دَرَس الاحتمالات، ووضعَ الحسابات الدقيقة… تشمل قراءاتُه المتونَ والهوامشَ والمصادرَ والمراجع، يطبق ما يقرؤه من كتب السحر والكيمياء، يختبر النتائج بنفسه… هو في عالَمٍ آخرَ غيرِ الذي يعيشه أهل بحري، عالَمُه السماء والكواكب والنجوم والسحب والرياح وأنواء المحيطات والبِحارُ والأنهار والصحارى والوديان وظواهر الطبيعة» (ص 80 – 81)، «وثمة روايات بأنه يمتلك قدرة السيطرة على الجانِّ وتعذيبه، وعلى تحويل الأشخاص إلى مُسُوخ وأصنام، يُلْقي تعويذة، يتحول البشر إلى جماد، وتنتقل الجمادات من أماكن إلى أماكن أخرى، قد تَبْعُدُ بمسافة طويلة» (ص 83) .
وتصف الرواية مظهر أسامة جويلي على هذا النحو: «تحدَّثْ عن مشارف الخمسين، وإن بدا أكبرَ مِنْ سِنِّهِ، رأسٌ ضخم، بالنسبة إلى الجسدِ النحيل، والصدرِ الضامر، التجاعيدُ الخفيفةُ حولَ عينيه وفمه، تخلَّلَ البياضُ شعره الأسود، وجه جامدٌ يخلو من الانفعال، يرتدي بذلة خفيفة زرقاء» (ص 83).
يبدأ الوصف بتحديد العمر، ليدل على خبرة السنين، ثم يذكر الرأس الضخم بالنسبة إلى الجسد النحيل، ليدل على رجل يهتم بعقله أكثر مما يهتم بجسمه، وصدره ضامر، دليل إهماله الجسد، وثمة تجاعيد خفيفة حول العينين والفم، تدل على الحكمة، ولكن ليس الخرف والتقدم في العمر، ووجهه جامد يكاد يخلو من الانفعال دليل اتزانه وعدم خضوعه للانفعال وَرَدّةِ الفعل، وهو يرتدي بدلة زرقاء خفيفة دليل الحكمة والاتزان، وعدم العناية بالمظهر والشكل، وهذا الوصف يناسب شخصية أسامة الجويلي، وهو الرجل العاقل.
*
وشخصيات الرواية كثيرة، وهي متنوعة، تجمعها البساطة، وتنتمي إلى الشرائح الشعبية الدنيا، بما تمتاز به من طيبة وبراءة، حتى الطبيب نفسه، والذي يجمعهم هو الرحلة: «يرحلون إلى جزيرة لا يعرفون موقعها، ولا إن كانت خالية أم مأهولة، لا يعرفون حتى اسمها، رآها الجزيري في يقظة كالحلم، أو حلم كاليقظة، أو أنه لم يَرَها، إنما تخيّلها، اخترعها، تنبثق في رأسه كالحقيقة» ( ص 146)، ودوافعهم إلى الرحلة لم تكن قوية، وفي هذا ما يدل على طيبتهم وسذاجتهم، إلى حد البله.
لقد وصَفَتِ الرواية الشخصيات، في ملامحها المميزة، وفي لباسها، وعبَّرت عن دواخلها في مونولوجات وفي مشاهد حوارية، كما وصفت الأماكن وصفًا حيًّا، فضلا عن الاهتمام بتسمية الأشخاص والأمكنة الأزياء.
إن تسمية الشخصيات والأماكن ووَصْفَها يُخِرُج القارئ مِن عالَمه، ويضعه في عالم الرواية، ويبتعث طاقة الخيال عنده، فيرسم في ذهنه صورة للشخصيات، فيعيش معها، ويتفاعل، ويكتسب حسًّا بصريًّا، فيرى الأماكن بعين خياله، ويتعرف عليها، ويكتشف بيئة جديدة لم يكن يعرفها من قبل، أو يتعرف عليها من جديد، ويكتشف فيها زوايا لم يعرفها، ويُحِسُّ بها من خلال إحساس الشخصيات بها، ويستمتع بجمال اللغة، والعمل الأدبي في حقيقته عمل لغوي، وجماله في لغته الخاصة، ولولا خصوصية اللغة في مفرداتها وتراكيبها وبنائها لما كان العمل عملًا أدبيًّا، فالعمل الأدبي ليس خبرًا في جريدة، يُلَخَّصُ في كلمات.
إن وصف الملامح والثياب والتدقيق في الوصف ليس حشوًا ولا استطرادًا ولا تزيُّدًا، وليس مهارة في الوصف، ولكنه مهارة روائية، إذ يساعد الوصفُ على تصوُّر الشخصية، وتخيُّلها، ورسم صورة لها في الذهن، وقد يُسْتَدَلُّ من الهيئة على الحالة النفسية، ويُساعد وصف الثياب على معرفة الشريحة التي ينتمي إليها الشخص، فثياب المرء تدل عليه، وتُنْبِئُ عن شخصيته ونفسيته وعمله ومكانته الاجتماعية، ولا سيما بالوصف في عالم الرواية، بما في الوصف نفسه من جمال.
*
وتصف الرواية وكالة العطار في ثلاثة أسطر وصفًا موجزًا، «باب الوكالة الخشبي يُفْضي إلى فِناءٍ تُرَابِيٍّ، تحيط به دكاكينُ ومخازِنُ، وفي الطابق العلوي صفٌّ مُتَلاصِقٌ من الحُجُرات المفتوحةِ والمُوارَبة والمغلقة، وإلى الجدران رُصَّتِ الكراتين والأكياسُ والركائبُ والسلال والأجولةُ والأقفاص، ودقَّاتُ اليدِ الحديدة تدق الهَوَنَ الجرانيتي الضخم» (ص 41 – 42)، والوصف كليٌّ شامل، يعطي صورة واسعة عريضة للوكالة، وتكثر فيه الأسماء، لتحقيق الرؤية للمكان، والجميل في الوصف رصدُه صوتَ دقِّ التوابل في الهون الجرانيتي بيد من حديد، دلالة على قوة الصوت وعلوه وضخامته.
وقد يعمَدُ المؤلف إلى تسمية الأماكن أو الأشياء مِن دون وصفها، وهذا ما يدلُّ على معرفته بها، وما يُوحي بثقته بمعرفة القارئ بها، أو يدلُّ على رغبتِه في إثارة خيال المتلقي والزج به في أمور لا يعرفها، ولكن يستطيع في مجموعها العام أن يُكَوِّنَ معرفةً أولية، أو شعورًا أوليًّا عامًا بها، لا يخلو من ضبابية، وهذا ما يكفي لِمَلْءِ خيال الملتقي، وليس من الضروري التوسُّعُ في وصف كل نوع وشرحه والتدقيق فيه، لأنه ليس هو الغاية بحد ذاته، إنما الغاية المناخ العام.
والرواية لا تهتمُّ بوصف المشاهد الداخلية المغلقة قدْرَ اهتمامها بوصف الأماكن الخارجية المفتوحة، فهي تُعنى بوصف الأزقة والشوارع والحارات والساحات ومشاهد العمارات والمحلات من بعيد في رؤية كلية شاملة، وتنطلق في وصف البحار والسماوات والجزيرة المُتَوَهَّمة، بل تَمضي في وصف الجنة وما فيها من نعيم وأشجار وحور عين، وهي جميعًا أمكنة ذات مساحات واسعة عريضة، تدل على رغبة في الخروج إلى عالم واسع رحب والخلاص من جو المدينة المغلق الخانق.
وثمة وصف سريع، تسترجعه الذاكرة، وكأنه شريطُ صُوَرٍ يكرّ سريعًا، وقد تداعت هذه الصور على ذاكرة الجزيري لدى سماعه أغنية: «أخذتْهُ الأغنية إلى كرموز، تلاحقت مشاهدُ واضحة، وشاحبة، ومبتورة، عمود السواري، معبد سرابيوم، مقابر كوم الشقافة، غيط العنب، جبل ناعسة، شارع راغب، شارع الخديو، باب سدرة، باب عمر باشا، بحيرة مريوط، سَيْرُه من عمود السواري إلى كوبري كرموز» (ص 109) وهذا الوصف السريع القائم على مجرد تسمية الأماكن مناسب لاسترجاع الصور لتلك الأماكن، وهي تمرّ في الذاكرة، وليس من الضروري للمتلقي أن يعرفها، ولكنه يُحِسُّ مع الشخص بمرورها في خياله، ويشعر بسرعة هذا المرور، ويشاركه التجربة، لأنها تجرِبة تذكُّر، وليست تجرِبة معرفة.
*
وجاء في وصف الطريق إلى وكالة النجارة، حيث يسير إليها الجزيري: «يتَّجِه عبْرَ شوارع السيالة الضيّقة المتقاطعة المتشابكة، إلى ميدان الأئمة، يتجه ناحية ميدان أبو العباس، يمضي في شارع الأباصيري حتى شارع فرنسا، ومنه إلى شارع سوق السمك القديم، أول سوق التُّرْك، في تقاطع الشارع، باب الوكالة الخشبي المفتوح، الدكاكين المتجاورة المفتوحة والمغلقة، تتصاعد منها روائح نشارة الخشب والغِرَاء والسِّبْرتو والْجَمْلَكة والبويات» (ص11).
وعلى الأغلب لا يعرف أكثر القراء تلك الأماكن، ولكنْ لهم أن يتخيَّلوها، وهي تثير لديهم شغفًا لمعرفتها من خلال الرواية، ويتكوّن لديهم انطباع عام بتعدّد تلك الأماكن وتقاربها وتشابكها، على أنها الطريق المؤدية إلى الوكالة، وهي أماكن متنوّعة، ومسلية، حتى في أسمائها، وتصنع مناخ الرواية، ويقوم التصوير على التدفق اللغوي، والسيولة، كما يقوم على الأفعال المضارعة التي توحي بالحركة والانتقال، وتوحي حروف الجر، وهي ظروف مكان، بالحركة والانتقال، أيضًا، ويثير المكان حاسة الشم، مما يمنحه صفته ويحدد طبيعته، فعند اقترابه من وكالة النجارة تتصاعد روائح نشارة الخشب والغراء والسبرتو والجملكة والبويات، وهي من لوازم نجار الموبيليا، وهذا الوصف ليس للزينة، ولا التزيُّد ولا الزخرفة، إنما هو للعيش في حالة، والتزويد بمعرفة، وللإحساس بجمال الوصف، في حد ذاته، ولخلق مناخ الرواية وجوِّها الذي يميزها.
ويُلْقِي الجزيري نظرة وداع على بَحري، وتكون نظرته سريعة وكليِّةً شاملة، بأسلوب المسح التصويري السريع: «قَصَرَ وداعَه لبحري على السير في شوارعه، أَوْدَعَ عينيه نظرةً متفحصة، كَمَنْ يريد أن يثبِّت صورة كل شيء في ذاكرته، قبْلَ أن يفارقه: ميدان الأئمة وجامع المرسي ومستشفى الأطفال وقلعة قايتباي وحلقة السمك وقصر رأس التين والبنايات المطلة على الأنفوشي: قهوة الصادين، قصر الثقافة، مركز الشباب، نادي اليخت السكندري، نادي الصيد، النادي اليوناني، جامع نور الإسلام» (ص141).
*
وتصور الرواية السفينة، فتلجأ إلى أسلوب السؤال، وهو أسلوب يثير الخيال، ويبعث على الحَيْرَة، ولا يحدِّد شيئًا، بل يوسِّع التوقعات، ويصنع أفقًا واسعًا للخيال، وهو مناسِبٌ لوصف جزيرة لا يعرف أحد عنها شيئًا، وقد جاء الوصف على النحو التالي: «هل الجزيرة صخرية فيصعب الصعودُ إليها، أو أنَّ أطرافها مسطَّحةٌ فيسهل الرُّسُوّ والحركة؟ هل الأرض صالحة للنماء أو مُجْدِبة؟ هل يوجد فيها ما يعين على الإقامة والاستقرار، أو أنها تحتاج إلى ما يَغيب عن تصوره؟» (ص34).
وتتحدَّث الرواية عن أنواع السمك وأساليب صيدها، وذلك في صدد الكلام على دافع يسري طمان للرحيل، فهو ابن بحري، ويعرف الصيد، ولكنّه يكتفي بصيد الأسماك العادية القريبة من الشاطئ، ويحلم بصيد الحيتان أو لقاء عروس البحر، تقول الرواية عنه: «أحب يُسْرِي طمَّان الجزيرة قبْلَ أن يراها، حُلُمُ حياتِه أن يعرِفَ ما لا يعرفه مِنْ مخلوقات البحر، ليستِ الأسماك التي تصطادها السنّارةُ والطرَّاحةُ والجرافة، ليست الترسة والبوري والمرجان والدنيس والمياس والقنافذ والكابوريا والسلاحف والسبيط والإستاكوزا والجندوفلي والقواقع والأصداف، وغيرها مما يسهل صيده في المينا الشرقية أو خليج الأنفوشي أو المناطق القريبة من البوغاز، يَتُوقُ إلى مشاهدة المخلوقات الغريبة، ما شاهده في الأفلام كالحيتان والدرافيل، وما ترويه الحكايات عن عرائس البحر» (ص 58).
إن أسماء هذه الأنواع من الأسماك تثير خيال المتلقي، ويتعرّف عليها تعرُّفًا كليًّا غامضًا، وهو أكثر تشويقًا وأكثر جمالًا من وصفها نوعًا نوعًا، وهي بجموعها تدلّ على صياد بسيط يصطاد قرب الشاطئ، ومعرفته لا تتجاوز هذه الحدود، لكنّه يتطلع إلى معرفة أوسع، وهذا الطموح عند يُسري طمان يدل على رجل طيب قليلِ الخبرة بالبحر، وتطلُّعُه إلى معرفة الغرائب، ولا سيما عرائس البحر، دليلُ طموحٍ طفولي بريء، وهو أشبه بشخصية من شخصيات ألف ليلة وليلة.
ولم تستنفد الرواية أنواع الصيد ولا أنواع الأسماك، فهذا مُحسن الوكيل لا يعرف عرض البحر، يكتفي بالصيد عند الشاطئ، لكنه يحلم بجنيّة البحر وبعروس البحر، «حياته في صيد السنارة، أدواته البوصة والمشنة والطُّعْم، يقذف السنارة والخيط، تظلّ البوصةُ في يدِه ساكنة، ينتظر السمكة التي تجذب يده، فيرفع البوصة، صيد الطراحة يُؤذي صحته، وصيد الجرافة يأتي بالخلاف، استغنى عن إلقاء السنارة في المالح، حتى الطراحة أو المشاركة في صيد الجرافة أضيق مِن أنْ تَسَع أحلامه» (ص 162)، وسرد هذه الطرق من الصيد يثير خيال المتلقي الذي لا يعرف البحر ولا الصيد، ويُمْتعه، ويُدخله في عالم الرواية بأسلوب ساحر، غامض شفاف، ويُكسبه بعض المعرفة، ويجعله يعرِف بساطة هذا الهاوي للصيد لا المحترف.
ويزداد المتلقي انجذابًا نحو هذا الجو عندما يعرف أحلام هذا الصياد البسيط، وهي أحلام سحرية غامضة، فقد أحب البحر من الشاطئ، وفي ممارسته الصيد على الشاطئ لا يلتفت إلى وراء، استجابة لتحذير الشيخ الليثي، لذلك، فإن «نظراتِه دائمًا إلى الأمام، إذا رأى خلفه ما لا يجب رؤيته، فإنه يفقَدُ بصره، أو يغيبُ عقله، أو تقذِف به مخلوقاتُ البحر إلى الأعماق، فلا يصعد، يخشى الالتفاتَ إلى الخلف، ربما اجتذبَتْه جنيَّةُ البحر بأغنياتٍ ساحرة، تفتِنُه، وتأخذُه إلى الأعماق، فلا يعود، ربما حوَّلَتْه إلى حجر، وقد يتلبّسه الجنون، تمدُّ مخالب يديها من قلب الموج، تمزّق شباك الصيادين، فتُفْلِتُ الأسماكُ، تعود إلى حياتها داخل البحر، تعتَرِضُ راكبي البحر، تَنْفَذُ بأظافرها الحادة في الصدور، تقتلع الشعور والآذان، وتلتهم الأنوف والشفاه» (ص 161)،
وما أشبه الصياد بأوديسيوس، وهو يُبحر بسفينته مع رجاله من طروادة إلى مدينته إيتاكا، ولا يلتفت إلى وراء، وعندما يعلم أنه اقترب من جزيرة السيرنيات يضع في آذان البحارة الشمع، حتى لا يستمعوا إلى أغانيهن الساحرة، لأنهن بأصواتهن وأغنياتهن يجتذبن الرجال ويحوِّلْنَهم إلى خنازير، أما هو فقد ربط نفسه إلى سارية السفينة، وطلب من رجاله ألا يفكوا قيده مهما توسل إليهم.
*
وتبدو بساطة الجزيري وبساطة كل مَنْ حولَه ممَّن اقتنعوا بصنع السفينة وركوبها هي السبب المساعد لقرارهم الرحيل، بالإضافة إلى السبب المباشر، وهو إحساسهم بطغيان الفساد في البر، وكانوا في الحقيقة من قبل يبحثون عن برٍّ آخر، لا يعرفون حقيقته، وكل حلمهم أن يبدؤوا حياة جديدة، خالية من الفساد، حياة فيها العُذْرية، كما يسميها الجزيري، فالعذرية هي ما يطلبه (الرواية ص 37) ولذلك كانت تلبيتهم لدعوة الجزيري، ولا يمكن أن نقول إنهم اقتنعوا بصنع السفينة والرحيل، وإنما يمكن القول إنهم انساقوا وراء دعوة الجزيري، وهي دعوة بسيطة، ليس فيها حجة بالغة، ولا خطبة بليغة، ولا قوة في الإقناع.
وسرعان ما بدأ الشجار بين ركاب السفينة، وهي لم تقطع سوى مسافة قصيرة (ص 163)، وقد أحس كل واحد منهم أنه جزيرة معزولة عن الآخر، وبدأت الوساوس تنتابهم، كيف ستكون الحياة على الجزيرة؟ وهل فيها بشر؟ بل لعل القلق الأكبر هو قلق الجزيري نفسه، فقد بدأ يسأل نفسه: «هل للجزيرة وجود بالفعل؟ هل هي ما رآه أو أنها حلم غيَّبَه الصحو؟ هل تتحول رحلة الذهاب إلى رحلة للعودة؟» (ص 169) ولكنه يقول لنفسه مؤكدًا: «الجزيرة في موضع ما من هذه الآفاق التي بلا نهاية» (ص 172).
*
ويدل افتتاحُ الرواية على مناخها العام، ويكاد يلخّصها، وتتجلّى فيه براعة الاستهلال، ويقوم على الوصف، ويجري على النحو التالي: «أغلقت القهوة أبوابها، اتّقاء برودة الجوِّ في الخارج، صنعتْ أنفاسُ الرُّواد الجالسين لِصْقَ النوافذ الزجاجية المغلقة ضبابًا كالندى، يُخفي رؤية الطريق» (ص 7)، ويدل المقهى على واقع المجتمع الغارق في البلادة والكسل، فالمكان مقهى، وليس مصنعًا أو مدرسة أو مؤسسة ثقافية، وإغلاق الأبواب يدل على انغلاق الحياة، والانحباس في الداخل، وبرودة الجو في الخارج تدلّ على غياب دفء الحياة وحرارتها، وسيطرة البرودة تعني الجفاف والموت، وقعود الرواد لِصق النوافذ مكتفين بالإطلالة على الخارج، يدل على استسلامهم للواقع في الداخل، وعدم مغامرتهم في الخروج، والضباب المتشكل على الزجاج الذي يخفي رؤية الطريق، يدلّ على انعدام الرؤية المستقبلية، وهذا هو حال المجتمع في بحري، كما تصوره الرواية.
ووَصْفُ المقهى مُوجز مكثَّف، لا تفاصيلَ فيه، ولا حشو، ويقوم على الحركة، على الرغم من أنه وَصْفٌ لمكان ساكن، فهو يتضمن ثلاثة أفعال، الأول: أغلقتِ القهوة أبوابها، والثاني: صنعتْ أنفاس الرواد ضبابًا، وهما فعلان ماضيان، والفعل الثالث: يخفي رؤية الطريق، فعل مضارع يدل على استمرار حالة غياب الرؤية الواضحة للمستقبل.
وهذا الافتتاح ينطلق من المقهى، ويصور الجو العام الذي ستنطلق منه الرواية وواقع الناس الذين سيرتحلون، وجزئيات اللوحة محدودة ومعبرة، ولا فرْقَ من ناحية اجتماعية بين رواد المقهى، وركاب السفينة، فهم مختلفون في الأهواء والمشارب، وكلٌّ منهم له شخصيته الخاصة، وعالَمُه الخاص، ولا يجمعهم غيرُ المكان، وهو مكان ثابت في المقهى، ومتحرِّكٌ في السفينة، ولكن لا فرْقَ بين الثبات والحركة، لأن القيمة ليس في ثبات المكان أو تحركه، وإنما القيمة للناس الذين يشغلون المكان، فهم سواء، لا فرْقَ بين من قعدوا في مقهى، ومن ارتحلوا في سفينة، فتغيير المكان وحده لا يفيد ما لم يَحْدُثِ التغيرُ في الناس، وكما قال المحمدي نصير: «سَهْلٌ أن تبدِّل المكان، صَعْبٌ أن تبدِّلَ النفس» (ص 16).
*
وقامت نهاية الرواية على الوصف والسؤال، وقد جاءت تعبيرًا عن قلق الجزيري وحيرته وشكِّه وقَلَقِه حول مصير الرحلة، وهي تصور الجزيري على النحو التالي: «عيناه شاخصتان في الأفق، لا يلتفت، كأنه لا يرى مِن حوله أحدًا، يرى ما لا يراه أحد، صياحُ النوارس يختلط بهدير الأمواج، تحليقُ الطيور وتقافُزها، في صاري السفينة، وعلى أشرعتها، وفي جانبها، يشي بأنه لم يبتعد عن الأرض» (ص 170).
هذا الوصف في ظاهره خارجي، ولكنه يدل على حالة داخلية، فعينا الجزيري شاخصتان في الأفق، دلالة على أن السفينة لم تبتعد عن الأرض، أو بالأحرى عن بحري، وأن الجزيرة ما تزال بعيدة، وقد استعمل الجملة الاسمية في قوله: «عيناه شاخصتان في الأفق» ليدل على الجمود والثبات، وهو أقوى من قوله: عيناه تنظران إلى الأفق، فالجملة الاسمية تدل على السكون والثبات، وهي أنسب للمعنى المقصود، في حين استخدم فعل يختلط ليدل على حركة اختلاط صياح النوارس بهدير الأمواج.
ثم يأتي السؤال: «هل يعود إليها؟ هل يعود إلى بحري؟» (ص 176)، ومن خلال السؤال يتأكد الحوار بين المؤلف والمتلقي، وتبدو نهاية الرواية مفتوحة على تساؤلات، وللقارئ أن يضع إجابة أو إجابات، وَفْقَ فهمِه للرواية، وتعامُلِه مع أشخاصها.
ولعل الأجمل من نهاية الرحلة، أيا كانت هذه النهاية، وأيا كانت الرحلة، هو الرحلة في حد ذاتها، أي تفاصيلها، والأجمل في الرحلة هو الشخصيات التي يتعرف عليها الإنسان في أثناء الرحلة، وهكذا هي الحياة، سواء في البر أو البحر، بل لعل الأجمل هو الصورة التي يرسمها الخيال للجزيرة، سواء أكانت حقيقة أو وهمًا.
*
وقد يظن القارئ أن الرواية تعالج أيديولوجيًّا مشكلة التغيير، والعمل الجماعي، وكيف يُولَد من فكرة جنينية، ثم يكبر، إلى أن تَشْرَعَ جماعة في تحقيقه، وأن الرواية تسخر من أنموذج الجزيري وفريق عمله، لأنهم بسطاء، لا يملكون دافعًا قويًّا، ولا هدفًا واضحًا، ولكن ليس في الرواية شيء من هذا القبيل، وليس فيها شيء ممَّا يدعمه ولو مِنْ بعيد، مهما حاولنا، إلا إذا أردنا تحميل الرواية ما لا تحتمل.
وقد يذهب الظن بالقارئ إلى أن الرواية مستوحاة من واقع الهجرة غير الشرعية مِن كثير من بلدان العالم، ولاسيما مِن شواطئ جنوب البحر المتوسط، عَبْرَ البحر إلى أوروبا في زوارق لا تساعد على السفر الطويل، ودافعهم توهم الخلاص مِن أوضاع متخلِّفة وقاهرة في مجتمعاتهم، إلى أوربة متوهمين أنها جزيرة الخلاص، ولكن ليس في الرواية ما يدعم ذلك، والمهاجرون في الزوارق يبحرون إلى أرض موجودة ومعروفة، ويعرفون شيئًا عنها على الأقل، وإن كانوا يتوهمون أن فيها الخلاص، ولكن المرتحلين في سفينة الجزيري يبحرون إلى جزيرة لا يعرفون شيئًا عنها، وليسوا متأكدين من حقيقة وجودها.
وقد يذهب الظن بالقارئ إلى القول بتأثر الرواية بقصة حي بن يقظان، لابن طفيل، أو رواية روبنسون كروزو، لدانييل ديفو، أو رواية رحلات جاليفر لجونثان سويفت، وفي الرواية إشارات إلى كثير من الأعمال الأدبية والجزر والرحَّالة والرحلات، ولكن ليس في الرواية شيء من هذا التأثر.
إن الفرق كبير بين رواية سفينة الجزيري وقصة حي بن يقظان، ورواية روبنسون كروزو، ورواية رحلات جاليفر، فالاهتمام في حي بن يقظان عند ابن طفيل ينصبُّ على جزيرة معزولة غير مأهولة والعيش فيها، عيش الناسك المتعبِّد الذي اهتدى إلى التوحيد، وكانت المقولة أنَّ العقل لا يتناقض مع النقل، والاهتمام في روبنسون كروزو ينصبُّ عند دانييل ديفو على عيش المدنيِّ المتحضِّر الذي استطاع أن يقيم وحده في جزيرة منعزلة غير مأهولة أيضًا، وأن يصنع حياة مدنية متحضرة متكاملة، بل اتخذ فيها لنفسه عبْدًا مطيعًا استخدمه، ويمكن أن نقول استعمره، والاهتمام عند جونثان سويفت في رحلات جاليفر كان منصبًّا على السخرية من البشر الذين يحتربون من أجل لا شيء، سواء في ذلك العمالقة في جزيرة العمالقة، أو الأقزام في جزيرة الأقزام، وهم هنا وهناك لا يعرفون كيف يديرون أمور الحكم، وقد رأى الخيول، في جزيرة الخيول، أكثرَ حكمةً من البشر، أما الاهتمام في رواية سفينة الجزيري فينصبُّ على حُلُمِ الجزيرة وتوهُّمِها، وعلى طبيعةِ الركاب وشخصياتِهم وهواجسِهم، وعلى الرّحلة نفسها، وما كان فيها من تحولات، أما الجزيرة فتظل سابحة في عالم من الخيال والتصور والوهم، إلى أن تنتهي الرواية، ولا نعرف كيف انتهت، هل وصلوا؟ وإلى أين؟ وهل عادوا؟ وكيف؟
وفرق أيضًا بين الرواية وقصة الطوفان، وفرق بين سفينة الجزيري وسفينة نوح، فالطوفان في قصة نوح هو طوفان الماء الذي دمَّر الأرض بسبب الكفر، وطهَّرها من أجل إعادة البناء، والسفينة بناها نوح مع بعض المؤمنين للنجاة بالدين، وحمل معه فيها من كل شيء زوجين، أي أنهم يُبحرون نحو أرض ليبدؤوا فيها حياة جديدة، بما يحملون مِنْ إمكانيات العيش والولادة والتكاثُر، أمّا طوفان سفينة الجزيري فهو طوفان الفساد، وأما السفينة فهي مبحرة نحو المجهول، ولم تحمل سوى ثلاثين من الرجال، وليس بينهم نساء ولا حيوانات، وهذا يعني أنهم يبحرون نحو الموت والفناء، فهم لا يحملون عناصر التكاثر والتوالد، ولكنهم يأملون إذا ما استقر بهم المقام في الجزيرة، أن يعودوا إلى البر، ليحضروا متعهم النساء، ويبدؤوا حياة جديدة.
إن الرواية وهي تتناصّ مع قصة نوح، وتتشابه، إلى حدٍّ ما، مع قصة حي بن يقظان، ورواية روبنسون كروزو، أو رواية رحلات جاليفر، إنما تؤكد أن التاريخ يتشابه، ولكنَّه لا يتكرّر، وأنه ثمة ما هو جديد دائمًا، في الأدب وفي الحياة على السواء، وتؤكد أيضًا أن الأدب كلَّه قائم على علاقات تناصّية، أو قائم على انزياحات عن الأساطير والأعمال الإبداعية الأولى، كما يرى نورثروب فراي، ولكن يظلّ النص الجديد يملك خصوصيته، وفرادته، وتميزه، أو يجب أن يكون كذلك، وقد كان في رواية سفينة الجزيري قدْرٌ غير قليل من الفرادة والتميز والجِدَّة، وهي تستحق ما بذل فيها من جهد التأليف، وتستحق أن يبذل فيها جهد القراءة والدَّرْس.
*
لقد تخيل الجزيري جزيرة، بدافع من شدة إحساسه بالفساد في بحري، فانبثقت في ذهنه فكرة الجزيرة، وأخذ يتخيّلها، حتى أصبحت بالنسبة إليه موجودة حقيقة، لأنها هي البديل من بحري، وهي الخلاص من واقع طغى فيه الفساد، وأخذ يعشقها، وينذر نفسه لها، ويبذل من أجلها كل ما يملك من قوى، ويدعو الآخرين إلى مصاحبته في رحلته، إن هيامه بالجزيرة وشعوره أنها موجودة هو نوع من النزوع الصوفي، قوامُه عشق فكرة، والرغبة في الوصول إليها، ونذْرِ النفس لها، والتضحية في سبيلها بكل شيء.
وأيا كانت نهاية الرحلة، فيكفي الجزيري أنه أحس بالفساد، ووعاه، ولا يقارن بِمَنِ اسْتسلم للفساد واستغرق فيه، لقد امتلك الجزيري حُلُمًا بالخلاص، وهو خير مِمَّن لم لا يمتلك أيَّ حلم، وحسبُه أنه استمتع بذلك الحلم، وتحوَّل لديه إلى فكرة، آمن بها، وعاش عليها، وأيقظ وعي بعض البسطاء الطيبين، وأقنعهم بالرحيل، واستمتع معهم في بناء السفينة وركوبها، وحسبُه أنه خرج بهم من فساد البرِّ إلى نقاء الفضاء في البحر، ولا أهميةَ للنهاية بعد ذلك أيًّا كانت.
ويؤكد هذا النزوع الصوفي المغامر العَتَبَة التي افتتح بها المؤلف الرواية، وهي للشاعر ألفريد ليننتال: «أن أحلمَ بالمستحيل/ وأُصِرَّ على ما لا يُمْكِن تحمُّلُه/ وأكتبَ ما لا يجرؤ أحدٌ على كتابته/ وأَبْلُغَ نجومًا لم يبلُغْها أحد/ ويومًا ما سيعرف العالَمُ عندما أموت/ مُثْخَنًا بجراحي/ بأنَّني حاولت أنْ أصِلَ السماء» (ص3).
وفي هذه العتبة يلتقي الشاعر والروائي والجزيري، فكلٌّ منهم يتطلع إلى غاية بعيدة، وكلٌّ منهم مؤمن إلى حد اليقين بما يراه، ويعتقد أنه حقيقة موجودة، ينذُر نفسه لها، ويبذُل من أجلها أقصى ما يملك من طاقة، وما يتطلع إليه الجزيري، إذن، ليس في الحقيقة الجزيرة، أي تلك البقعة منَ الأرض في عرض البحر التي قد نراها وقد لا نراها، حتى لو كانت موجودة، وما يتطلع إليه الشاعر ليس السماء، أي تلك الرقعة من السماء التي تعلونا، وقد تكون زرقاء صافية مُشْرِقَةً حينًا، وغائمةً كئيبةً حينًا آخر، أو التي قد تكون سوداء معتمة ولا نجمَ فيها، وليس ما يتطلع إليه جبريل الرواية، أي تلك الحروف في الأوراق المطبوعة نقرؤها أو نضعها على الرف، إنَّ ما يتطلع إليه هذا وذاك وذلك أبعد من المادة، وأسمى مما هو مؤقت وزائل، ولو كان قصورًا من ذهب، وحسبُهم ذلك القدْرُ من الإبداع، وهذه هي متعة الكتابة والقراءة، والتواصل بين القارئ والمبدع.
عدد التحميلات: 0