
فلسفة (الخيام).. ما الذي تفعله (الرباعيات)
إذا توافقنا مع الفيلسوف (فيتجنشتاين) في قوله إن الوضوح الفلسفي الدلالي إنما يتحقق من خلال الفهم الصحيح للصورة المنطقية للغة، فلعلنا بهذا نتجه نحو رد الاعتبار إلى البنية الشكلية للنص الفلسفي بكونه حالة فلسفية بذاتها على اختلاف القوالب الفنية الحاملة له من سردية وقصصية وتقريرية ومقاليه وشعرية.
قياسًا على هذا، فقد يبدو أن أكثر الفلاسفة والنقاد الذين بحثوا في الشعر العربي قد بحثوا فيه من حيث المضمون والدلالة والأغراض الوظيفية والوجودية الشعرية، على نحو ما ذهبوا في قياس أشعار (أبو العلاء المعري) وأشعار أصحاب لمقامات الصوفية، وأشعار الدوافع السياسية والتبريرية والسلطوية والأشعار الثورية، وما نحو ذلك. وهذا ما اختص بفحصه مبحث الدلالات والمعاني (السيمانطيق Semantics) في دائرة علم العلامات (السيميوطيقا Semiotics) ولكن هؤلاء الفلاسفة والنقاد لم يشتهر عنهم أنهم بحثوا كأساس أو بنفس القدر في البناء التكويني الشكلي للنص أو القصيدة الشعرية كتكوين فلسفي بذاته، وهو ما يدخل في مبحث البناء والتركيب (السنتاطيقا Syntax) بنحو منطقي ليكون السؤال هل من قصيدة شعرية كان بنائها الشكلي بذاته فلسفيًا دون الاعتبار لمضمونها وأغراضها؟.
لعل المثال الأبرز في هذا المنحى يكون (رباعيات الخيام)، تلك الرباعيات الشعرية التي صيغت على مقطعات من أربعة أشطار، الشطر الثالث مطلق بينما الثلاثة الأخرى مقيدة. وبغض الطرف عما بهذه الرباعيات من مضامين –في أول الأمر- فإن الشكل البنائي الرباعي على ذلك النحو هو بناء صوري ذو مدلول فلسفي منطقي، حيث أن اختلاف البيت الثالث في الرباعية يمكن أن يعطي دلالة على التحرير الإبداعي. فلا يكون تحريرًا إلا لما كان حوله قيد ما أصلًا. ولذلك جاء القيد مضروبًا بسور الرباع في أوله وتاليه وآخره، فيأتي ثالثه بخلاف القيد فيعطي دلالة وقيمة التحرير، والتي بدورها تحدث تحريرًا في الذائقة الإبداعية بانتقال الأثر الانفعالي تفاعليًا لدى المتلقي.
ثم..
إن هذا البناء الشكلي للرباعيات القاضي بتحرير النص في حدود الأسوار ذات القافية الموحدة هو دائمًا ما يلائم الأغراض الروحانية لاسيما ذلك الأفق التجريدي الصوفي الذي يتسم به الوعي الشرقي كقيمة إنسانية مستمرة بطول تاريخ وحاضر مجتمعات الشرق المبدعة عن وعي شرقي صرف يحمل بنائها التكويني هذه الخاصية في التحرير الروحاني لتظهر في الهيئة الشعرية كما تظهر في المضمون، فهي الأوفق في التعبير التجريدي الإنساني الروحاني لطابع الوعي الشرقي دون التعدي على منجزات البحث العلمي الموضوعي هناك.
ثم..
إن هذا البناء التكويني الفلسفي لهيئة النص الشعري بنحو (رباعيات الخيام) يوافق الاتجاه المعاصر في النظر إلى الفلسفة بأنها (منهج) أولى من كونها نسقًا أيديولوجيًا، الأمر الذي يفتح النص في معرض التحليل أمام تعدد التأويلات النقدية والتفسيرية والاستشهادية عليه به.
ثم..
طالما أن هذه البنية التكوينية الشكلية للنص الشعري في الرباعيات هي تعبير بكلمات، فحتمًا يؤثر الشكل على المضمون في استعمال هذه الكلمات المنتقاة للقصيدة. فإن كان البناء التكويني الشكلي يحمل خاصية التحرير لزم عن ذلك أثرًا في التحرير الدلالي على أساس من التجريد الروحاني. حتى إذا فاض الوجد بصاحب الشوق:
القلب قد أضناه عشق الجمال
والصدر قد ضاق بما يقال
يا رب هل يرضيك هذا الظمأ
والماء ينساب أمامي زلال
(الرباعيات)
استبدل دلالات الكلمات المعينة بضدها أو أنه استعار للكلمات عكس ما بنيت له في أصل اللغة، وهي حال الصوفية المغرقين أمثال (الحسين بن منصور الحلاج) و(رابعة العدوية) وغيرهم، فيتصور الشطح فيهم بطريقة تراص الكلمات في سياقاتها بما يمنحها مستويات متعددة للتأويل بالأضداد، وهو ما يليق بأن الذوق هو الدليل على حلاوة العسل (فمن ذاق عرف)، فيكون نصب الشاعر للدلالات والمقاصد قمين بجعلها رمزًا مفتوحًا يدركه المتأولون على مستوياتهم من انطلاق روحاني تجريدي بالضرورة اعتمادًا على التسليم العرفاني (بأسبقية الوعي على الوجود) في أصل المعرفة، في مقابل الانجذاب إلى الأرض والشد إليها بنزعة حسية تجريبية لدى فئة الفلاسفة والنقاد الذين يجعلون الافتراض الأساسي عندهم (أسبقية الوجود على الوعي). فكل بناء (الخيام) الشعري في (الرباعيات) قائم بهذا الغرض، ودليله فتح البيت الثالث واغلاق الأول والثاني والرابع، حيث تكون الدلالة التكوينية للبيت المفتوح أو الحر عن قيد القافية كأنه في سجن بين الأبيات المغلقة أو المقيدة بالقافية الموحدة على نفس دلالة حبس الروح في سجن الجسد فتتحرر في آثارها خارج هذا السجن بقدر سموها.
ثم..
لعل أن هذا كان هو السر وراء إغراق (الخيام) رباعياته بذكر الخمر واللذات قاصدًا بها التعبير بالضد الدلالي عن حال الوجد الروحاني الذي تعجز الكلمات المتوافقة مع دلالاتها تعبيرًا عنه، فيقول:
أفق وهات الكأس أنعم بها
واكشف خفايا النفس من حجبها
(الرباعيات)
هذا الأمر الذي يجعل من (الخيام) أحد الداعين إلى فلسفة الخلاص بنحو ما سعى إليها الشرقيون في (نيرفانا) والاغريقيون في (أتراكسيا) وكلاهما محقق للطمأنينة السلبية بالخلو من الألم.
فأولًا؛ نرى (الخيام) يرسى مسوغات الخلاص وضرورته بحال الإنسان العادي السالك في الحياة الدنيا، كمثل قوله:
الدهر لا يعطي الذي نأمل
وفي سبيل اليأس ما نعمـل
ونحن في الدنيا على همها
يسوقنا حادي الردى المعجل
(الرباعيات)
وقوله:
أفيت عمري اكتناه القضاء
وكشفت ما يحجبه في الخفاء
فـلـم أجــد أســرار وانقضى
عمري وأحسست دبيب الفناء
(الرباعيات)
وقوله:
تملك الناس الهوى والغرور
وفتنة الغيد وسكنى القصور
ولو تزال الحجب بانت لهم
زخارف الدنيا وعقبى الأمور
(الرباعيات)
ويبلغ الوصف في مسوغ الخلاص ذروة سنامه في قوله:
يا قلب كم تشقى بهذا الوجود
وكل يــوم لك هـــم جــديـد
وأنت يا روحـي مـاذا جنيت
نفسي وأخراك رحـيل بعيد
(الرباعيات)
ثم ثانيًا؛ يتحدد المطلوب للعيش السليم السعيد بالخلو من الألم، إذ الألم في طلب الدنيا هو صانع الأحزان:
زخارف الدنيا أساس الألم
ومطالب الدنيا نديم الندم
فكن خالي البال من أمرها
فكل ما فيها شقاء وهم
(الرباعيات)
ومظاهر ذلك:
من يحب المال أحب المنى
ويزرع الأرض يريد الغنى
يفارق الدنيا ولـم يخـتبر
في كده أحوال هذي الدنى
(الرباعيات)
ثم ثالثًا؛ يرسم المنهج لبلوغ الخلاص:
عش راضيًا واهجر دواعي الألم
واعـدل مع الظالـم مهما ظلـم
نـهـايـة الـدنيـا فـنـاء فـعـش
فيها طليقًا واعبرها عدم
(الرباعيات)
ولهذا المنهج لدى (الخيام) مقامات في السلوك. منها، عدم الأسى على ما فات وعدم الفرح بما يأتي (على دلالة الآية القرآنية الكريمة (لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم) الحديد 23):
يا طالب الدنيا وقيت الـعـثار
دع أمل الربح وخوف الخسار
(الرباعيات)
فمنها، أن تتحرر نفس الإنسان من سجن الجسد وهي فيه، على نحو قريب من التصور الأفلاطوني لحقيقة العالم الحسي الذي سقطت فيه النفس فتجزئت بعد أن كانت تعيش كلية طليقة في عالم المثل:
وإنما الدنيا خيال يزول
وأمرنا فيها حديث يطول
مشرقها بحر بعيد المدى
في مداه سيكون الأفول
(الرباعيات)
مؤكدًا ذلك بالقول:
فـأطلـق الـنـفـس ولا تـتـصـل
بزخرف الدنيا الوشيك الذهاب
(الرباعيات)
وشيء من التماس عالم المثل الأفلاطوني حيث النفس قديمة هناك حرة:
وصلتني بالنفس منذ القدم
فكيف تفرى شملنا الملتئم
(الرباعيات)
ثم خلاصة تشخيص الداء:
قلبي في صدري أسير سجين
تخـجلـه عـشـرة مـاء وطـين
وكم جـرى عـزمي بتحطيمه
فكان ينـهـاني نـداء اليقين
(الرباعيات)
ومنها، الحد من رغبات الجسد وتجاوزها:
شيئان في الدنيا هما أفضل
في كل ما تنوي وما تعمل
لا تتخذ كل الورى صاحبها
ولا تـنـل كــل مــا يـؤكــل
(الرباعيات)
ويعود في برهان هذا باستعمال الكلمة بدلالة ضدها ويجعل (الخمر) كلمة مجازية تحمل معنى التحرر الروحاني من رغبات الجسد وسجنه، لقوله:
طارت بي الخمر إلى منـزل
فوق السماك الشاهق الأعزل
فأصبحت روحي في نجـوة
من طيف هذا الجـــسد الأرذل
(الرباعيات)
ويمكن تأويل هذا الرمز أيضًا على منطق المخالفة أن لمفهوم الخمر وجه آخر، وهو أن إشباع رغبات الجسد وشهواته تفعل فعل الخمر في عزل الوعي عن العقل، فتعزل الروح عن الانطلاق، وهذا ما لا يريده (الخيام).
ولعل أن البرهان الكامن في هذه الدلالة المجازية أو الرمزية للخمر –بالصورة الواردة في الرباعيات- أن فعلها في الرؤوس يحاكي فعل الجذب الصوفي للدرويش الفاني في حضرة الممارسة الروحانية:
في مجلس العمر شربنا الطلى
فلم يقف منا صريـع الشراب
(الرباعيات)
ومنها، ما يلزم للخلاص من الآلام وبلوغ الطمأنينة السلبية (حالة أتراكسيا/ نيرفانا) والبرهان عليها في ذات الوقت، هو القدرة على تحقيق (العزلة النافعة) والتي شرطها أن تكون والإنسان السالك إلى الخلاص قائم بين الناس وليس بالاحتجاب عنهم:
إذا بلغت المجد قالوا زنيم
وإن لزمت الدار قالوا لئيم
فـجـانب الناس ولا تلـتمس
معرفـة تورث حمل الهموم
(الرباعيات)
ويكون من قبيل هذا (الاعتزال النافع) كتمان الألم وسر الوجد الباطني عنهم:
إذا سقاك الدهر كأس العذاب
فـلا تبن للناس وقـع المصاب
(الرباعيات)
وقوله:
لا أفضح السر لعال ودون
ولا أطيل القول حتى يبين
حالي لا أقوى على شرحها
في حنا الصدر سري الدفين
(الرباعيات)
ولعل في هذا ما قد يؤول جانبًا من حكمة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (تبسمك في وجه أخيك صدقة) أن المعنى الظاهر هو أجر الصدقة بأيسر الأمر. ولكنه قد يتضمن دلالة تأويلية بأن التبسم في وجه الناس يحجب عنهم معرفة الآلام المتبسم لأنه أمر ذاتي خاص لن قدره حق قدره أكثر الناس، فتكون الابتسامة وقاية وحجاب له من هتك الاستار النفسية الخاصة. وفي هذه الدلالة التأويلية مدعاة لتصفية المخلص المستحق للمصاحبة من الناس بما يدعم وصول الإنسان لسموه المنشود في حياته. فهذا النوع من الناس هو من يجتهد بصدق في فهم الظاهر والباطن على الحقيقة ككيان كلي لظاهرة واحدة. وهذا ربما فيه شيء من التفسير الفينومينولوجي الذي يميز بين مفهوم (الظاهر) الحامل لباطنه عن مفهوم (السطح) الذي لا يتوفر فيه إلا ما تراه حاسة العين من خارج فقط:
اعلم من أمري الذي قد ظهر
واسـتـشـف الباطن المـسـتتـر
عـدمت فهمي إن تكن نشوتي
وراءهــــا منزلــة تنــتظـــر
(الرباعيات)
وبالبناء على هذا:
فـعاشــر الناس على ريبـة
منهم ولا تكثر من الأصدقاء
(الرباعيات)
وهذا الاعتزال النافع ليس نفعه للسالك نحو الخلاص فحسب، بل هو مردود إلى الناس كلهم على السواء بمكارم من الأخلاق يورثه إيها الإحسان إليهم:
أحسن إلى الأعداء والأصدقاء
فإنما أنس الـقـلوب الصـفاء
واغـفـر لأصحـابك زلاتـهم
وسامح الأعداء تمح الـعـداء
ومنها، مقام عالي. ما يجعل النفس تسمو فوق كل الخطوب والآلام، بل وكل المشار موجبها وسالبها. فهو مقام استصحاب (الموت) وذكره والتعايش معه في ثنايا الحياة:
الموت حق لست أخشى الردى
وإنـمـا أخـشى فـوات الأوان
(الرباعيات)
وما يفعله الموت في ثنايا الحياة أنه يخفف من الانفعال بالألم وييسر سبيل الخلاص:
ولست مهما عشت أخشى العدم
وإنــمـا أخـــشـى حـيـاة الألــم
أعــارني الله حــيـاتـي ومــن
حقوقه استرداد هذي النسـم
(الرباعيات)
وهذا الاستصحاب للموت يفضي إلى التسليم:
ولا تذق نفسك مر الأسى
فــإنما أعـمـارنا للنـفـاذ
(الرباعيات)
كما أنه يفضي إلى فائدة عظيمة في تجاوز الجدل والاشتغال بالمشكلات الفلسفية الزائفة بنحو السؤال عن (حدوث العالم وقدمه):
وليس الـعـيش خـلـدًا مـقـيـم
فما اهتمامي محدث أم قديم
سـنـترك الـدنـيـا فـمـا بالنا
نضـيع منها لحـظـات النعيم
(الرباعيات)
ومنها، المقام الأعلى وذروة سنام الأمر. أن لا خلاص على الحقيقة إلا بالخضوع لله تعالى خضوعًا كاملًا:
يا رب مـهـد للي سـبيل الرشاد
واكتب لي الراحـة بعد الجـهـاد
واحـي في نـفـسي المنى مـثلما
يحيى موات الأرض صوب العهاد
فيكون بلوغ المنتهى في هذا المقام الأعلى على طريق الخلاص:
يا عالم الأسرار علم اليقين
يا كاشف الضر عن البائسين
يا قـابـل الأعـذار فـئـنا إلى
ظـلك فاقـبل توبـة التائـبين
(الرباعيات)
ثم ختامًا..
لعل هذا الدرس في (رباعيات الخيام) خطوة على سبيل الكشف بمنهج تحليلي فلسفي معاصر عن البناءات الفلسفية العميقة وذات الأصالة في الموروث العربي الإسلامي على ما لم يكن منبهًا إليه على محاك النقد والتأويل من عمق فلسفي، ومما لم يبدو للألباب قبلًا فيه أنه جدير بالسبر والتنقيب.
*مرجع الدراسة: رباعيات الخيام، ترجمة عن الفارسية/ د. الحسيني الحسيني معدي
عدد التحميلات: 0