
التراث العربي في مرآة الأنيمي: تحليل نقدي لمزج الثقافات في مغامرات السندباد
مقدمة
يُعَدّ مسلسل الصور المتحرّكة (الأنمي) «السندباد» من أبرز الأعمال التي شكّلت وعي أجيال من المشاهدين في العالم العربي منذ أواخر السبعينيات والثمانينيات، فظلَّ حاضرًا بقوة في الذاكرة الثقافية الشعبية. ورغم أنّ القصّة الأصلية لشخصية «السندباد» ترجع إلى ألف ليلة وليلة، إلّا أنّ النسخة اليابانية المنتَجة عام 1975م من قِبَل شركة نيبّون أنيميشن (Nippon Animation) قدّمت مزيجًا فريدًا من الشخصيات الأسطورية العربية من جهة، والشخصيات الأسطورية والمخلوقات الخيالية الغربية – لا سيما المستمدّة من الميثولوجيا الإغريقية أو الأوروبية – من جهةٍ أخرى. وبهذا، أصبح «السندباد» نموذجًا لاجتماع ثقافي متعدّد الروافد، يستلهم عناصر تراثية عربية ويحاكي في آنٍ واحد عناصر أسطورية عالمية.
من زاوية بحثية وأكاديمية، تبدو هذه الظاهرة محيّرة ومثيرة للاهتمام. فالتساؤل الأوّل الذي قد يتبادر إلى الذهن هو: لماذا لجأ المنتجون اليابانيّون أو كُتّاب السيناريو إلى إدخال تلك العناصر الغربية على حكاية معروفة جذورها في الأدب العربي؟ وهل كان الدافع فنيًّا محضًا لتوفير قدرٍ أكبر من التنويع الدرامي، أم تجاريًّا يبحث عن انخراط عالمي أشمل؟ وما أثر هذه العملية على فهم المشاهد العربيّ لتراثه – خصوصًا أنَّ الطفل العربي الذي تربّى على مشاهدة هذا المسلسل ربّما التبس عليه الفرق بين الشخصيات العربية الأصيلة (الجن، الرخّ، البساط السحري…) وبين الشخصيات والأساطير الغربية (مثل مخلوقات ذات عين واحدة، أو حوريات البحر، أو وحوش ترتبط غالبًا بالميثولوجيا اليونانية أو الأوروبية)؟
تهدف هذه الدراسة إلى إجراء مقارنة معمّقة حول استخدام الشخصيات الأسطورية العربية والغربية في مسلسل «السندباد»، راصدةً الأبعاد الدرامية والثقافية لكلٍّ من توظيف هذه الرموز والمخلوقات المختلفة. وسنحاول تفكيك البنية السردية التي صاغها المسلسل، والنظر في مدى التوافق – أو التنافر – بين الحكاية العربية الأصلية والتعديلات التي أُدخلت عليها. وسنُعنى كذلك بكيفية تفاعل المشاهد العربي مع هذا المزج الثقافي، وتأثيره على الصورة المتخيلة للتراث العربي والإسلامي.
لتحقيق هذه الأهداف، سنقسّم الدراسة إلى محاور عدّة. بدايةً، سنتناول خلفية تاريخية لمسلسل “السندباد: النشأة، ومرجعيّته الأدبية في ألف ليلة وليلة، وكيف جرى تبنّيه في اليابان. بعد ذلك، سننتقل إلى دراسة تفصيلية للشخصيات الأسطورية العربية التي ظهرت في المسلسل، مع بيان مواضع تطابقها مع التراث المكتوب في حكايات «السندباد البحري» والأجزاء الأخرى في الليالي. لاحقًا، سندرس الشخصيات المقتبسة من أساطير أوروبا، مثل الميثولوجيا اليونانية أو غيرها من النماذج الغربية، مع تعليل الأسباب الدرامية والثقافية لإدخال هذه العناصر. ثم سنجري مقارنة بين طبيعة كلٍّ من الأسطورتين العربية والغربية داخل المسلسل، مبرزين مظاهر التلاقح الثقافي أو التنافر السردي. وفي الأخير، سنختم بتقييم نقدي لأهمية هذا المزج على وعي المشاهد العربي، وعلى فهم التراث في سياقٍ عالمي أشمل.
إنّ هذه الدراسة تعتمد منهجًا تحليليًا-مقارنًا، يرتكز على قراءة نقدية للحلقات المتاحة من المسلسل وتحليل نصوص ألف ليلة وليلة، إلى جانب مراجعة بعض المقاربات النظرية حول الأسطورة والتبادل الثقافي. ومن خلال هذا المنهج، نحاول تأمّل التغييرات التي طرأت على القصة الأصلية، وكيف ظهرت تأثيراتها على استيعاب المشاهد العربي (وخاصة الطفل) لمكوّنات تراثه، وكذلك على تمثيله للصورة الغربية أو الميثولوجيا الأجنبية.
أولًا: الخلفية التاريخية لمسلسل «السندباد»
- السندباد في أدب ألف ليلة وليلة
يرجع الفضل في شهرة «السندباد البحري» إلى إدراجه ضمن حكايات ألف ليلة وليلة، تلك المجموعة القصصية التي تمزج عوالم سحرية وفانتازية بالواقع. يعود تاريخ تجميع هذه الحكايات إلى حقبٍ متفاوتة من التاريخ الإسلامي، إذ تشير دراساتٌ عديدة إلى أنّ أصول بعض الحكايات ربما كانت فارسية أو هندية، ثم استقبلها الأدب العربي وصقلها وأعاد توزيعها في صيغ مختلفة، إلى أن استقرّت في «الهيكل» المعروف في القرون الوسطى. وتُعدّ قصص السندباد أحد الأجزاء المهمة؛ فهو البحار المغامر الذي يعيش في بغداد، وينطلق في سبع رحلاتٍ بحرية محفوفة بالغرائب والمخاطر والمخلوقات العجيبة. تتنوع هذه المخلوقات بين طيور الرخّ العملاقة، والحيّات الضخمة، والجنّ، وغير ذلك مما يرتبط غالبًا بالمخيلة العربية.
في النص العربي الأصلي، لا تبرز أيّ إشارات مباشرة إلى شخصيات أسطورية غربية محدّدة؛ فالحكاية تميل إلى تمجيد جوّ الشرق الساحر بالجنّ والعفاريت وجزر الكنوز والألغاز. وإن كانت بعض الدراسات تلمح إلى إمكان تأثُّر بعض جوانب هذه القصص برحلات «أوديسيوس» في الميثولوجيا الإغريقية، إلّا أنّها تبقى في نطاق التشابه العام للفولكلور العالمي المتعلّق بمغامرات البحارة. ولا توجد دلائل تاريخية على تبنّي «ألف ليلة وليلة» لوحوشٍ يونانية مثل السيكلوب، على سبيل المثال. لذا، عندما نجدها في مسلسل الصور المتحركة، فإننا نواجه عنصرًا مضافة لم يكن جزءًا صريحًا من الحكاية الأصلية.
- نشأة النسخة اليابانية وتطوّرها
كانت شركة نيبّون أنيميشن اليابانية من أوائل الشركات التي اهتمّت بإنتاج أعمال تلفزيونية مستوحاة من التراث العربي، وبالأخص «ألف ليلة وليلة». ففي سبعينيات القرن الماضي، بدأت محاولات لجعل الأدب العالمي مادة خصبة لأعمال الرسوم المتحركة (الأنمي) الموجّهة للأطفال واليافعين. وتميّزت هذه الفترة برغبة المنتجين في توسيع أسواق العرض خارج اليابان، فاختاروا أعمالًا عالمية معروفة، مثل «عدنان ولينا» مقتبس من رواية الخيال العلمي للأديب الإسكتلندي ألكسندر كي) وجزيرة الكنز (اقتباسًا عن روبرت لويس ستيفنسون)، وغير ذلك.
ضمن هذا السياق، رأت نيبّون أنيميشن في «السندباد» مادةً جذابة، تجمع بين المغامرة والقصص الخيالية والعبر الأخلاقية، مما يتيح جذب جمهور واسع، سواء في المنطقة العربية أو أماكن أخرى في العالم. ومن هنا جاء مسلسل «مغامرات السندباد» الذي صدر عام 1975م في اليابان، ثم جرى دبلجته للعربية لاحقًا، وعُرِض في العديد من القنوات العربية خلال الثمانينيات والتسعينيات، ليغدو جزءًا لا يتجزّأ من ذاكرة الطفولة لدى أجيالٍ كاملة.
- انتشار المسلسل في العالم العربي وأهميته الثقافية
تزامن عرض المسلسل المدبلج للعربية مع حقبة كانت فيها خيارات الرسوم المتحركة العالمية محدودة على الشاشات العربية، فلم يكن هناك الكمّ الهائل من القنوات الفضائية أو المنصّات الرقمية كما هو اليوم. لذلك، حظي «السندباد» بمشاهدة عالية، وصار أيقونة راسخة في ثقافة الأطفال والمراهقين. تميّز المسلسل بالإيقاع المشوّق للحلقات، والرسوم المقبولة بمعايير الزمن السابق، إضافةً إلى الموسيقى المصاحبة والمؤثرات الصوتية التي أكسبت الحلقات طابعًا سحريًا خاصًّا.
من جهة أخرى، كان هذا العمل فرصة للأطفال العرب للاطّلاع على جزء من تراثهم – في ظنّهم – متمثّل في شخصية السندباد، لكنّه – في الوقت ذاته – قدّم سياقًا جديدًا يتم فيه تضمين عناصر من ثقافات مختلفة. والمفارقة أنّ الطفل أو المشاهد العربي لم يكن بالضرورة يفرّق بين العناصر الموروثة من التراث العربي (مثال: الجنّ، العفاريت، الرخّ، إلخ) وبين الأساطير المُقحَمة من خارج هذا الإطار. وقد ساهمت هذه المزاوجة في بناء تصوّرٍ «شامل» لدى بعضهم عن القصّة الأصلية، رغم كونه في الواقع مزيجًا ثقافيًا متنوّعًا يتجاوز حدود النص التراثي العربي.
ثانيًا: الشخصيات الأسطورية العربية في «السندباد»
- الجنّ والعفاريت وسياق التراث الإسلامي-العربي
يحتلّ الجنّ والعفاريت مكانةً مهمة في الحكايات الشعبية العربية والإسلامية، لا سيّما في ألف ليلة وليلة التي تُكثر من حضورهم بصورٍ مختلفة: جنّ طيب يساعد الأبطال، وعفاريت شريرة توقع بهم، وجنّ تكشف الأسرار أو تحرس الكنوز. في مسلسل «السندباد»، نجد أصداءً واضحة لذلك التراتب الخيالي. ففي بعض الحلقات، قد يصادف السندباد جنًّا يسدي له النصح، أو يعارضه عفريتٌ يريد إلحاق الأذى به. وتظهر الشخصيات أحيانًا بأشكال كاريكاتورية تجمع بين هيئة إنسانية وأجنحة أو قرون تبرز طبيعتها الخارقة.
اللافت أنّ المسلسل غالبًا ما يحافظ على الألفاظ العربيّة الشائعة في السياق الديني أو التراثي، مثل استخدام مصطلح «عفريت» أو «جني»، بما ينسجم مع مخزون المتلقّي العربي من الحكايات، وإن كان يصوغها ضمن إطار أنمي ياباني. كذلك، نجد هذه الكائنات عادةً مرتبطة بفضاء غامض، مثل كهف تحت البحر، أو قصر منعزل في الصحراء، أو خرائب موحشة، مما يرسّخ الطابع السحري-الشرقي في سرد الأحداث.
- طائر الرخّ ومخلوقات أُخَر من التراث العربي
يُعتبر طائر الرخ من أشهر المخلوقات الخرافية في ألف ليلة وليلة، حيث يظهر في حكايات السندباد البحري كمخلوق هائل الحجم، قادر على رفع الأفيال أو سفن بأكملها، وقد يهاجم البحارة في عرض البحر. ويُمثّل في الحكاية رمزًا للقوة الساحقة للطبيعة أو العالم الماورائي. في المسلسل، يظهر الرخّ بدور بارز في بعض الحلقات؛ قد يأسر السندباد وأصدقاءه في عشه، أو يقتحم سفينتهم. وتستند هذه الحبكة إلى الأصول التراثية، إذ تُذكَر مغامرات سندباد مع الرخّ في النصوص الأصليّة.
بموازاة الرخّ، يمكننا رصد ظهور كائنات أخرى ترتبط بالمخزون العربي، وإن بصورة متفاوتة في الحلقات؛ مثل الأفاعي البحرية العملاقة أو أسماك «العِملاق» التي تُشبه الحوت الذي ادّعى بعض الرواة أنّه يحمل جزيرةً وهمية. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الكائنات تُحيل بشكلٍ ما إلى «العجائب والمخلوقات الغريبة» التي تميّز السرد العربي في العصر العباسي وما يليه، حين كانت الرحلات البحرية تعجّ بحكايات خيالية تُدخل الرعب والإثارة في نفوس المستمعين.
- قيم الضيافة والكرم الشرقية في المسلسل
لا تقتصر «الشخصيات الأسطورية العربية» في المسلسل على الكائنات الخرافية فحسب، بل تشملُ شخوصًا بشرية تُجسّد قيمًا عربية أصيلة، مثل الكرم والشهامة والشجاعة. ففي بعض الحلقات، يظهر حُكام أو سلاطين عرب يستقبلون السندباد ورفاقه بحفاوة. كما يتجلّى البُعد العربي في تصاميم المباني والقصور ذات القباب والمآذن، والملابس التي تحمل ملامح الثقافة الإسلامية. يُعزّز هذا الجانبُ انطباعَ المشاهد العربي بأنّه أمام عملٍ يتناول تراثه بشكلٍ إيجابي، وإن كان في الواقع مشوبًا ببصمة يابانية اقتبست الكثير من العناصر الأخرى.
من الملامح الملفتة للانتباه، ظهور شخوص يتمتّعون بحكمة عربية تقليدية، ينصحون السندباد في محطّات مهمة من رحلاته، أو يقدّمون له مفتاح حل لغزٍ معيّن. ويُذكّر ذلك بهيئة الرواة المتجولين في التراث الشعبي، أو بالشخصيات الحكيمة في بلاط الخلفاء. وعلى الرغم من أنّ المسلسل يُبسط هذه القيم لتتناسب مع جمهور الأطفال، فإنّه بذلك يزرع في وجدانهم صورة نمطية إيجابية حول الخلق العربي كمرادفٍ للضيافة، وهي صورةٌ تنسجم مع التصوّر المثالي للتراث في ألف ليلة وليلة.
ثالثًا: الشخصيات الأسطورية الغربية في «السندباد»
- الميثولوجيا اليونانية: السيكلوب (Cyclops) وحوريات البحر (Sirens)
عند تحليل الحلقات التي تضمّنت وحوشًا أو كائنات غير عربية، نجد العديد من الإشارات إلى الميثولوجيا اليونانية بشكلٍ مباشر أو غير مباشر. من أبرز هذه الأمثلة:
- السيكلوب: كائنٌ شهير في الأساطير الإغريقية، يتميز بكونه عملاقًا ذا عين واحدة في منتصف الجبهة. في الأوديسة لهوميروس، يُدعى وحشًا متوحّشًا يأكل لحوم البشر، ويحبس البطل أوديسيوس ورفاقه في كهف. في «السندباد»، يُقدّم السيكلوب بوصفه عملاقًا مخيفًا يهدّد البحارة؛ وأحيانًا تحتفظ القصة بالعنصر المركزي المتمثّل في العين الواحدة وشهوة الافتراس، مما يعزّز الجانب الدرامي لقصة المواجهة.
- حوريات البحر (Sirens): يظهرن في الميثولوجيا الإغريقية كمخلوقات أنثوية ذات صوت عذب تُغوي البحارة وتقودهم إلى الهلاك. في المسلسل، قد تختلف بعض التفاصيل الشكلية أو الدوافع، ولكن نجد حلقة أو أكثر تقدّم نسخًا من هذه الكائنات التي تمزج بين الجمال والخطر.
تتجلّى هذه الشخصيات الغربية ضمن مشاهد المواجهة أو المغامرة، مما يؤكّد رغبة القائمين على العمل في توسيع رقعة الأحداث خارج حدود «الواقعية الشرقية» أو حتى «الخيال الشرقي» التقليدي. فالسندباد لا يواجه فقط جنا أو عفريتًا شرقيًّا، بل يدخل في صراعٍ مع كيانٍ مشتقٍّ من ثقافة أخرى (اليونان القديمة). ويجدر التنبيه إلى أنّ هذا الدمج لم يرد في ألف ليلة وليلة، ما يثبت أنّه اجتهاد من صنّاع المسلسل لخلق مزيد من التنويع والتشويق.
- عناصر الأدب الأوروبي الكلاسيكي
إلى جانب ما استُمدّ من الميثولوجيا اليونانية، رصد بعض النقاد والباحثين تلميحات إلى أدبيات أوروبية كلاسيكية. فمثلًا، تُظهِر بعض الحلقات عوالم أو أجواء تذكّر بالقرون الوسطى الأوروبية: قلعة ذات أبراج تشبه تلك التي عُرفت في أوروبا أكثر من الشرق، أو فرسان مدجّجين بالدروع يختلفون عن صورة «المماليك» أو الجنود المسلمين التقليديين. وفي أحيانٍ أخرى، نجد إشارةً إلى مفهوم القراصنة بأسلوب أقرب إلى القراصنة الأوروبيين في البحر الكاريبي، لا القرصنة في البحر الأحمر أو المحيط الهندي التي كانت جزءًا من تاريخ العرب والمسلمين في فترات معيّنة.
يمكن أن نفسّر هذا التوجّه بإطار «العالمية» التي كان يسعى إليها المنتجون اليابانيّون. فالجمهور الغربي قد يستسيغ مشاهد تناسب مخزونه الثقافي من القصص البحرية الأوروبية، كالقرصان ذي العين الواحدة والخطّاف بدل اليد. وفي المقابل، يجد المشاهد العربي متعة في تتبّع «السندباد» وهو ينتصر على تلك الشخصيات التي يُنظَر إليها بوصفها خطرًا متعدّد الأوجه. هكذا تتولّد دراما أكثر ثراءً من مجرّد «حكاية شرقية» محضة.
- إعادة تكييف الأساطير الغربية داخل القالب «الشرقي»
من المهم ملاحظة أن المعالجة الدرامية لهذه الأساطير الغربية لا تكون مطابقة بالضرورة لأصولها اليونانية أو الأوروبية. فعلى سبيل المثال، السيكلوب في الميثولوجيا الإغريقية مرتبط بمسائل دينية/ روحية تخصّ علاقة الآلهة بالبشر، وقد يشير إلى عصر آلهة الأوليمب. أمّا في «السندباد»، فهو أشبه بوحشٍ مستقلّ يعيش في جزيرة أو كهف، ولا نتعرف إلى خلفيته الدينية أو خرافاته الخاصة. يتم إخضاعه لآليات السرد التي تهيمن عليها مغامرة البحار العربي، لكي تتكامل العناصر الدرامية مع الثقافة المقترحة لحلقات المسلسل.
مثال آخر هو حوريات البحر؛ ففي النص الإغريقي (الأوديسة) يرتبطن بتجربة «أوديسيوس» معهن كاختبارٍ يصارع فيه الإغواء. أمّا في «السندباد»، فقد تأتي حوريات البحر بتصوّر مختلف؛ قد يقدَّمن بوصفهن أقرب إلى «عالم الجنّ» أو كائنات نصف بشرية هائمة في البحار الشرقية. هكذا نرى أنّ العمل لا يحافظ على رسمٍ دقيقٍ للجذور الغربية لتلك الشخصيات، بل ينقل خطوطها الأساسية في تكوينها الشكلي أو طبيعتها العجيبة، ثم يدمجها في الإطار العام لحكاية عربية.
رابعًا: البُعد الدرامي والثقافي لدمج الأساطير
- تحقيق التنويع والتشويق
يرى كثيرٌ من النقاد أنّ دمج الشخصيات الأسطورية العربية بالغربية يكفل قدرًا عاليًا من التنويع في حبكة المسلسل. فالمتابع – سواء كان طفلًا أو بالغًا – سيشاهد حلقاتٍ تتعدد فيها مصادر الخطر والإثارة: مرّةً يواجه السندباد وحوشًا سبق أن سمع عنها الطفل في قصص الشرق؛ وفي حلقةٍ أخرى يصطدم بوحشٍ أتى من مخيال مغاير تمامًا. هذه التشكيلة الواسعة من الخصوم والمخلوقات تمنح المسلسل امتدادًا سرديًا غنيًّا، ما يجعل كل حلقة أو مجموعة حلقات تحمل طابعًا فريدًا نوعيًا.
على الصعيد الإنتاجي، يتيح هذا التنويع لصنّاع العمل الإبداع في رسم مشاهد مختلفة، وتصميم شخصيات متباينة. إذ إنّ تصوير المخلوقات الشرقية قد يتطلب ألوانًا وأجواءً ضبابية، فيما يتطلّب تصميم المخلوقات الغربية هيئةً جسديّةً أخرى أو خلفيات معينة. هذا التنويع البصري يضفي جاذبية للإنتاج، ويساعد في كسب الجمهور العالمي الذي قد يستسيغ ثقافته الخاصة منعكسةً في بعض المشاهد (مثل اكتشاف كائن يونانيّ أسطوري) أو ينشدّ إلى غرابة ما يراه للمرة الأولى.
- مدّ الجسور بين الثقافات
يرى بعض الدارسين أنّ توظيف الشخصيات الأسطورية الغربية في عملٍ مستوحًى من حكاية عربية أصيلة قد يعكس رغبة في «مدّ جسور» ثقافية بين الشرق والغرب. ومع أنّ المسلسل ليس بالضرورة عملًا «تنويريًّا» فلسفيًّا، فإنّ هذا المزيج يفتح الطفل أو المشاهد العربي على عناصر من الثقافة الكونية. كذلك فإنّ توزيعه عالميًّا يعرّف جمهورًا غير عربي على ملامح من أسطورة «السندباد» العربي. فيصير الخطاب الموجّه عبر الشاشة أشبه برحلة بحريّة عابرة للمجتمعات والأساطير في الوقت ذاته.
وبالتالي، ينطوي الأمر على قيمةٍ تربويّةٍ كامنة في التلاقح الرمزي بين الأسطورة العربية وأخواتها الغربية. إن تفاعل الطفل العربي مع صورة السيكلوب أو حوريات البحر ضمن السياق العام لحكاية السندباد قد يجعله لاحقًا أكثر استعدادًا للتعرّف إلى التفاصيل الأصلية للميثولوجيا الإغريقية. وفي المقابل، من يتابع المسلسل في لغات أخرى قد يميل إلى البحث عن أصول طائر الرخّ في التراث العربي. بهذا، يترك العمل الفني أثرًا دافعًا نحو فضول ثقافي مشترك.
- التسويق العالمي وتوسيع الجمهور
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ دمج أساطير غربية في عملٍ ذي نكهة شرقية قد يتصل باستراتيجية تسويقية؛ فالمنتج الياباني يرغب في نشر مسلسله في أوروبا والأمريكيتين بقدر ما يسعى لنشره في الشرق الأوسط. ومن ثم، كلّما زاد عدد العناصر «العالمية»– أي الشخصيات التي تحمل جذورًا أوروبية أو إغريقية – سَهُل على المشاهد الغربي إيجاد نقطة اتصال بينه وبين العمل. أما بالنسبة للمشاهد العربي، فالمسلسل يحمل من الأساس عنصره الجذاب المتمثّل في صورة بغداد، والملابس الشرقية، والمخلوقات المستوحاة من “ألف ليلة وليلة”.
من المهمّ ملاحظة أنّ الأنمي في السبعينيات لم يكن قد بلغ بعد ذروة «التخصص» أو التكثيف الإنتاجي الذي شهده في العقود اللاحقة. فالشركات اليابانية في تلك الفترة كانت تختار أعمالًا يمكن أن تحظى بسوقٍ عالمي نسبيًّا، وهذا يعني التوجّه إلى قصص عالمية مشهورة (جزيرة الكنز، هايدي، توم سوير، إلخ) أو إلى حكايات كلاسيكية من ثقافات مختلفة. ومن هنا، يمكن فهم حرص نيبّون أنيميشن على استثمار اسم «السندباد» وتطعيمه بالعناصر الأسطورية التي يعرفها المتلقّي الأوروبي والأمريكي، مثل السيكلوب وغيره.
خامسًا: مقارنة بين توظيف الشخصيات العربية والغربية في المسلسل
- التماسك البنيوي للسرد
عند إجراء قراءة نقدية للخط السردي في المسلسل، نلاحظ أنّ الشخصيات الأسطورية العربية (الجنّ، العفاريت، الرخّ…) غالبًا ما تندمج بسلاسة أكبر مع عالم «السندباد»؛ ذلك لأنّ النص التراثي – ألف ليلة وليلة – يوفّر أصلًا أرضية صلبة لهذه المخلوقات. فالقصة الأصلية تركز على مغامرات تدور في أراضٍ شرقية، وتتضمن قلاعًا أو جزُرًا أو أودية يعمّها السحر. وبالتالي، عندما يُظهِر المسلسل عفريتًا يأسر السندباد، فالمتلقي العربي لا يشعر بتنافر كبير؛ إذ يجد الأمر متوافقًا مع تراثه الذهني.
في المقابل، حين يقدم المسلسل وحشًا إغريقيًّا أو كائنًا أوروبيًّا بحت، قد يلوح في الأفق تساؤلٌ عن مدى اندماج هذا الكائن في النسق العام. لكن المسلسل يعالج الأمر عبر صيغة» الرحلات البحرية»: «إذ يُصوّر أن السندباد يبحر إلى جُزر بعيدة، وبعضها قد يكون على «أطراف العالم» – تلك الفكرة التي تفتح الباب على أي خيال ممكن. هكذا يغدو التنقل جغرافيًا من الشرق إلى الغرب سببًا دراميًا يسمح بظهور هذه الكائنات. ومن ثم، يُهيّئ النص المشاهد لتقبّل هذا العبور الثقافي ضمن المسلسل نفسه.
- طبيعة الأدوار الدرامية
- الشخصيات الأسطورية العربية: كثيرًا ما تحوز دورًا محوريًا أو رئيسًا في سياق الحلقات، فهي محرّكٌ للأحداث. فالعفريت قد يخطف رفاق السندباد ويطلب فدية، أو الجنّ يُعينه على تجاوز عقبةٍ صعبة. كذلك، الرخّ يُشكّل ذروة الخطر في الرحلة، فتكتسب هذه الكائنات دورًا بنيويًا، لا مجرد حضور عابر.
- الشخصيات الأسطورية الغربية: قد تكون في بعض الحلقات بمثابة «عدو ثانوي» أو مفاجأة تُغني الحبكة، فتعطي السندباد مناسبةً جديدة لإظهار شجاعته وفطنته. وفي أحيان أخرى، تبرز حلقة كاملة تركز على مواجهة وحشٍ أوروبيٍّ ما. غير أنّ تكرار الحلقات التي تتبنى هذه الثيمة عادةً أقل من تكرار حضور الجنّ أو العفاريت والرخّ في المسلسل. وبذلك، يمكن القول إنّ الشخصيات العربية تشكّل العمود الأساسي للحكاية، فيما تمارس الشخصيات الغربية دور «الإثراء» أو «الإضافة» المتفرعة.
- التأثير على نظرة المشاهد للتراث
إنّ إدخال الشخصيات الغربية وسط حكاية عربية عريقة كالتي نعرفها في ألف ليلة وليلة قد يخلق عند المشاهد إحساسًا غامضًا بشأن التراث. فالطفل العربي الذي يتعرّض للمسلسل ربما يظنّ أنّ السيكلوب ينتمي بالضرورة إلى عالم السندباد الأصلي، مع أنه مستمدّ من مرجعية يونانية. هذا التداخل قد يغدو ملتبسًا، إن لم يتداركه تعليمٌ أو توعية توضح حقيقة كل عنصر تراثي.
في الوقت نفسه، هناك منظورٌ إيجابي يرى أنّ هذا الانفتاح يساعد على «عولمة» التراث العربي. فبدلًا من أن تبقى حكايات السندباد حبيسة جوّ عربي محدود، تدخلها عناصر أخرى تجعلها أقرب إلى قصة إنسانية-كونية يتجاوب معها أطفال من ثقافات مختلفة. وربما يحفّز ذلك المشاهد العربي على استكشاف الأساطير العالمية، فيكتشف لاحقًا الفروق بين الحكاية الأصلية والأشكال المُعدّلة منها.
سادسًا: الأبعاد النقدية والثقافية
- مفهوم “الآخر” بين الشرق والغرب
في أدبيات الدراسات الثقافية، تحضر بقوة إشكالية «الآخر» (The Other) بوصفها رؤيةً تُشكّل الهوية الذاتية في مقابل هوية مختلفة. في مسلسل «السندباد»، تلتقي هويات متعددة: هوية عربية/إسلامية، هوية يابانية (المتمثلة في صنّاع العمل)، هوية إغريقية/أوروبية (مجسَّدة في بعض الأساطير). ومع أنّ الأطفال قد لا يدركون ذلك التعقيد بوعي، فإنّ النتيجة النهائية تعكس «صورة» عن الشرق بعيون يابانية تمتزج أحيانًا بصور غربية.
إحدى المحاور المهمّة هنا هي كيف يُقدَّم «الآخر» الأسطوري (الغربي) في مسلسل يفترض أنّه يتمحور حول تراث عربي. هل تُقدَّم الشخصيات الإغريقية باعتبارها عدوًّا دائمًا للبحار العربي؟ أم توجد مساحة للتعاون؟ إذا تتبعنا المسلسل بأكمله، سنجد أنّ الشخصيات الغربية – مثل السيكلوب – عادةً ما تأتي في إطار الشرّ والمواجهة؛ فيما الشخصيات العربية المتعلّقة بالجنّ قد تأتي في إطار الخير أو الشرّ، ولكنها متجذرة بعمق في الحكاية. هذا يطرح تساؤلًا حول توزيع الأدوار الأخلاقية في العمل، ومدى ارتباطه بالتحيّزات الثقافية لدى صنّاع المسلسل أو أهدافهم.
- تشكّل المخيال الشعبي العربي المعاصر
من المؤكد أنّ مسلسل «السندباد» ترك بصمةً قوية في الوعي الجمعي العربي، لا سيما للأجيال التي تابعت حلقاته في وقتٍ لم يكن هناك منافسون كثيرون في ميدان الرسوم المتحركة المدبلجة. ومن ثَم، تسرَّبت كثيرٌ من الرموز التي ظهرت في المسلسل إلى المخيال الشعبي، إلى درجة أنّ بعض الناس عندما يسمعون بـ«الجنّ» أو «الرخّ»، يتذكّرون مشاهد معيّنة من «السندباد» .وبالمثل، حين يُذكر «السيكلوب» أو «حوريات البحر»، قد يستدعون الصورة التي ظهرت في هذا الأنمي.
يؤثّر ذلك على التصوّرات المستقبلية لكيفية قراءة الحكاية الأصلية في ألف ليلة وليلة. فقد لا يكون القارئ المعاصر قادرًا على الفصل الذهني بين الصورة التي قدّمها المسلسل والصورة النصيّة التراثية. وهذا يبيّن مدى القوة التي تحملها الأعمال المرئية في تشكيل الوعي. ومثل هذا التأثير ليس حكرًا على العالم العربي؛ إذ تجارب مشابهة حدثت مع أعمال يابانية أو أمريكية أعادت صياغة قصص أوروبية كلاسيكية، لتصبح «النسخة المعتمدة» لدى أجيال من الأطفال.
- هل يُعدّ «السندباد» نموذجًا للعولمة الفنية المبكرة؟
يرى بعض النقاد أنّ ما حدث في مسلسل «السندباد» يمثّل نمطًا من أنماط «العولمة» في الصناعة الثقافية، قبل أن يتبلور مفهوم العولمة بالمعنى الاقتصادي والإعلامي الحديث. ففي سبعينيات القرن العشرين، كانت شركاتٌ يابانية تبحث عن مواضيع عالمية لاستثمارها فنّيًا، فوجدت ضالتها في الأدب الكلاسيكي المعروف. وبالمثل، كان العالم العربي في حالة انفتاحٍ ملحوظٍ على الأعمال الأجنبية المُدبلجة. تكوّن من هذا التفاعل نموذجٌ مفيد لتحريك الثقافة الشعبية الدولية، حيث تتلاقى الأسطورة العربية مع الأسطورة اليونانية في منجز فني يستهلكه الجمهور على نطاقٍ واسع.
إنّ هذا المزج قد لا يخلو من «التسطيح» أو التشويه للأنساق الأسطورية الأصلية (العربية أو اليونانية)، ولكنه – في الوقت ذاته – قدّم جسورًا للمعرفة والترفيه. حتى لو لم تتّضح حدود الملكية الثقافية والفكرية لهذه التراثيات، فقد استمتع المشاهدون بشيءٍ جديد، وانطبعت في أذهانهم صورة «التراث العالمي» وكأنه كلٌّ واحدٌ متداخل، وليس حصرًا على الإقليم أو الديانة أو اللغة. وهذا بدوره يفتح نقاشًا أوسع حول كيفية تعاملنا اليوم مع إنتاجات ثقافية من حقبةٍ سابقة مثّلت نقطة التقاء بين الشرق والغرب.
سابعًا: أمثلة محدّدة لحلقات تميّزت بالدمج الأسطوري
لتوضيح الصورة بشكل أكثر عمقًا، سنستعرض بعض الأمثلة من حلقات المسلسل التي تجمع بين الشخصيات العربية والغربية. من المهم الإشارة إلى أنّ عناوين الحلقات قد تختلف أحيانًا في طبعات أو دبلجات مختلفة، ولكنّنا سنحاول وصف المحتوى:
- حلقة مواجهة السيكلوب
- في هذه الحلقة – وغالبًا تُعرض في مرحلة متقدمة من المسلسل – يحطّ السندباد رحاله في جزيرة تبدو مهجورة للوهلة الأولى، قبل أن يكتشف ورفاقه وجود عملاقٍ بعينٍ واحدة يسكن كهفًا منعزلًا. يُذكّر المشهد بصراع أوديسيوس مع السيكلوب بوليفيموس في الأسطورة اليونانية؛ إذ يُحاصَر البحارة، ويسعى العملاق لأكلهم أو الاحتفاظ بهم. لكن السيناريو يُبرِز السندباد كقائد مغامر يتوصّل إلى حيلة ذكية للهروب (تعاونًا مع حسن أو علي بابا أو شخصيات أخرى). والمفارقة أنّ الحلقة عادةً لا تشير إلى أيّ مرجع إغريقي، بل تطرح السيكلوب كوحشٍ «عام» يمكن مصادفته في أقصى البحار، وبهذا تكتسب الحكاية بعدًا «كونيًا» خارج الزمن والمكان المحددين.
- حلقة حوريات البحر
في بعض نسخ المسلسل، يجد السندباد نفسه في بحرٍ هادئ تحيطه حوريات البحر ذات الغناء الساحر. يتعلّق أحد أعضاء الفريق بجمال تلك الحوريات، فيقع ضحية الإغراء. تتشابه الحبكة مع الأسطورة الإغريقية (السيرينات) التي واجهها أوديسيوس، لكننا نجد في «السندباد» معالجة مخففة، وغالبًا لا تنتهي النهاية بمأساة، بل بإفلات الأبطال من سحر الحوريات. تظهر الحوريات في صورة أقرب إلى الأنيمايشن الجميل المليء بالألوان البراقة، مما يجعلها حلقة جذابة بصريًا، وإن كانت تفتقر للصلابة الدرامية للقصص الأصلية.
- حلقة الرخّ
هذه الحلقة تقع ضمن الخط الأساسي لحكاية السندباد في ألف ليلة وليلة، حيث يواجه طائر الرخ العملاق الذي قد يهاجم سفينته أو يقتلع أشجارًا كاملة، فيصير على الأبطال إيجاد وسيلة للهروب. هنا نرى التزامًا أكبر بما ورد في التراث العربي، إذ تُعدّ قصة الرخّ جزءًا أصيلًا من حكايات السندباد. ومن خلالها، يعبّر المسلسل عن البعد العربي-الإسلامي بوضوح. غالبًا ما تتميز الحلقة بدراما عالية حين يُخطف أحد الأصدقاء (مثل حسن أو علي بابا) بواسطة الرخّ، ويضطر السندباد إلى التسلّق أو الطيران بمساعدة بساط سحري أو منطاد بدائي لإنقاذه. يظهر في هذه الحلقة مدى رسوخ الرخّ في المخيّلة الشعبية العربية بوصفه رمزًا للقوة الخارقة للطبيعة.
ثامنًا: انعكاسات ثقافية وتربوية
- على مستوى التكوين المعرفي للأطفال
يؤثر مسلسل «السندباد» في بناء المخزون المعرفي والثقافي لدى الأطفال من عدة جوانب:
- توسيع مفهوم التراث: الطفل قد يتعرّف على أسماء بعض الكائنات والأماكن ذات الجذور العربية، مثل الرخّ، بغداد، جزيرة واق الواق (التي تظهر في بعض المراجع التراثية).
- الإلمام بأساطير غير عربية: حين يشاهد الطفل السيكلوب أو الحوريات أو بعض عناصر القراصنة الأوروبية، تنطبع في مخيّلته فكرة أنّ هناك تنوعًا في عالم المغامرات البحرية. قد لا يدرك في طفولته مصدر هذه الكائنات، لكن انطباعًا أوّليًا يتشكّل لديه يُشجّعه على استكشافها لاحقًا.
- الربط بين الأخلاقيات والخيال: يقدّم المسلسل قيمًا أخلاقية كالصدق والشجاعة والإيثار في سياقٍ خيالي يجمع بين عناصر من الشرق والغرب، مما يرسّخ هذه القيم في لا وعي الطفل بشكل أكثر متانة.
- على مستوى الصورة النمطية للثقافة العربية
يتلقى الجمهور العالمي هذا المسلسل على أنّه «قصة عربية» بالدرجة الأولى، تروي مغامرات بحّار عربي من بغداد. لكن في الواقع، لا تُنقَل الصورة العربية بشكلٍ خالص؛ بل هي خليطٌ من مكوّنات يابانية في أسلوب الرسم والسرد، وإضافات أسطورية غربية. ما قد يولّد التباسًا عند المشاهد غير العربي حول مدى «أصالة» هذه الصورة. غير أنّ المسلسل يبقى – من الناحية التسويقية – يقدّم بغداد والملابس الشرقية والعمارة الإسلامية البسيطة، فنرى قبابًا ومآذن في خلفيات بعض الحلقات، مما يغرس انطباعًا إيجابيًا أو على الأقل انطباعًا «ساحرًا» عن الشرق.
- جدل «التشويه» مقابل «الإثراء»
قد يرى بعض الباحثين أنّ دمج الأساطير الغربية في نصٍّ عربي قد يشوّه الهوية الأصلية لحكاية السندباد. ويعزّز هؤلاء رأيهم بالقول إنّ الطفل سينشأ وفي ذهنه أنّ السندباد حارب السيكلوب، بينما هذا لم يرد أصلًا في ألف ليلة وليلة. في المقابل، يرى آخرون أنّه من الطبيعي أن تخضع الأعمال الأدبية إلى تحويرٍ في كل عصر، خصوصًا عندما تتحوّل إلى عمل مرئي جماهيري، بما يخدم متطلبات عالمية النص الحديث. ويشير هؤلاء إلى أنّ النص نفسه (ألف ليلة وليلة) شهد إضافات وحذفًا عبر تاريخه الطويل، فلا غرابة في أن يستمر هذا التحوير في أعمالٍ تلفزيونية أو سينمائية معاصرة.
خاتمة وتقييم نقدي
من خلال ما تقدّم، يتبيّن أنّ مسلسل «السندباد» يقدّم لنا دراسة حالة متميّزة لفهم آليات التوظيف الثقافي العابر للحدود الجغرافية والتاريخية. فبالرغم من انطلاقه من أدبٍ عربي أصيل شهير، عمد صُنّاعه اليابانيّون إلى إدراج شخصياتٍ ومخلوقاتٍ من أساطير أخرى، لا سيّما الأساطير الإغريقية والأوروبية، بهدف تنويع الحلقات وزيادة الجذب والتشويق، وتحقيق انتشار واسع في مختلف مناطق العالم. وعلى صعيد المشاهد العربي، اندمجت تلك العناصر الغربية مع المكونات الشرقية التي يعرفها مسبقًا، ليخرج في نهاية المطاف برؤية موسّعة عن «تراث السندباد»، وإن كانت رؤية مشوّبة بالخلط بين الأصيل والدخيل.
لقد أفرز هذا الدمجُ انعكاساتٍ متعدّدة، منها ما هو إيجابيٌّ يتعلّق بتقريب الثقافات وتفعيل خيال الأطفال على نحوٍ ثري بالصور والمغامرات المنتمية إلى حضارات شتى، ومنها ما يثير الجدل حول «أصالة» الحكاية والخوف من تضييع الهوية العربية في زحمة الاستعارات الغربية. ومع ذلك، فربما كان هذا التلاقح نتيجةً طبيعيةً لمنطق «العولمة» الثقافية، الذي لا يسلم منه أيُّ تراثٍ يُعاد إنتاجه في إطارٍ تجاري حديث يستهدف جمهورًا عريضًا متنوع المشارب.
لو عدنا إلى بعض التفاصيل في الحلقات، لرأينا مستوى مختلفًا من الاندماج السلس أحيانًا، ومن الإقحام القسري أحيانًا أخرى. ففي حين يلتحم ظهور العفاريت والجنّ بالمناخ الشرقي بسلاسة منطقية تُذكّر بأصول «ألف ليلة وليلة»، نجد أنّ السيكلوب أو الحوريات في أحيانٍ أخرى يظهرون دون مبرّر يرتكز إلى القصة التراثية، بل فقط لأنّ حبكات «الجزيرة النائية» تتيح استقدام أي وحش. ومع أنّ هذا قد يُضعف الحبكة في بعض المواضع، إلا أنّه لا ينكر أنّ المشاهدين حصلوا على جرعات إضافية من المتعة البصرية والمغامرة المتنوّعة.
من جهة أخرى، فإنّ الآثار الثقافية بعيدة المدى لهذا المسلسل ليست بالهيّنة. لقد أصبح «السندباد» لدى الأجيال التي نشأت عليه مثالًا على «القصة العربية» الممزوجة بعالمٍ أوسع من الأساطير، ما جعل عقولهم أكثر انفتاحًا على احتمالات الخيال الممتدّ وراء الحدود الإقليمية الضيقة. وفي الوقت عينه، قد يكون هذا ساهم في نشوء تصوّراتٍ مغلوطة لدى البعض حول ما هو «عربي أصيل» وما هو «مقتبس». وربما تكون وظيفة التعليم والثقافة اللاحقة توضيح المسافة بين النص التراثي (بنسَخِه التاريخية المختلفة) والتجسيد الدرامي المعاصر.
إجمالًا، يبدو مسلسل «السندباد»– في ضوء التحليل الثقافي – مثالًا ناجحًا نسبيًّا على كيفية ربط أسطورة عربية بنماذج أسطورية عالمية، يكمُن نجاحه في كونه حافظ على الهوية العامة للسندباد بوصفه بحارًا عربيًا من بغداد، يخوض مغامراتٍ في بحار بعيدة، لكنه أيضًا وسّع نطاق هذه الحكاية لتصير فضاءً مفتوحًا على رموز الإغريق وأوروبا. ولا شك أنّ هذه الحركة تعكس روح الإنتاج الفني السائد في تلك الحقبة، والذي كان يسعى لتقديم «وجبة» عالمية من خلال شاشة التلفاز، تجمع الأطفال حول عالم خيالي واحد، بغضّ النظر عن خلفياتهم اللغوية أو الجغرافية.
ولئن كانت هذه الخاتمة توضّح الإيجابيات والسلبيات، فمن الضروري أخيرًا القول إنّ قيمة «السندباد» تظلّ كبيرة في الذاكرة الثقافية العربية؛ إذ تعرّف كثيرٌ من الأطفال على تراثهم لأول مرة عبر هذا الأنمي، برفقة أغنية شارة البداية المشهورة، وعبر مشاهد تجمع السندباد وصديقه حسن وطائر ياسمينة (الببغاء المتكلمة) التي أُضيفت خصيصًا للمسلسل. كما تعرفوا على مفاهيم مثل الرحلات البحرية، والجزيرة العائمة، وكائنات مثل الرخّ والجنّ، ومن ثم تطلّعوا إلى عالم أرحب عندما رأوا شخصية السيكلوب أو مواجهات أخرى مع كائنات غير مألوفة. وفي المحصلة، ما زال «السندباد» حاضرًا في النقاشات المتعلقة بتاريخ الأنمي الياباني المدبلج للعربية، ودوره في صياغة وعيٍ جمعي حول الأساطير والمغامرات.
مراجع ومصادر للاستزادة
فيما يلي مجموعة من المراجع والمصادر التي يمكن الاستعانة بها للتعمّق في دراسة الشخصيات الأسطورية في المسلسلات المقتبسة عن الأدب العربي-الإسلامي، وتحليل تداخلاتها مع الميثولوجيا الغربية:
1- ألف ليلة وليلة
○ النسخة العربية الشائعة، منشورات دار الشروق، القاهرة.
○ ترجمات مختلفة باللغات الأوروبية (مثل ترجمة أنطوان غالان إلى الفرنسية، أو ريتشارد فرانسيس بيرتون إلى الإنجليزية).
2 – ديز، عبدالحليم. الأسطورة في الأدب العربي. القاهرة: دار النهضة العربية، 1985م.
3 – فالح، عبدالوهاب. الجن والأساطير في التراث الإسلامي. بيروت: دار الكتب العلمية، 2001م.
4 – Nippon Animation.
The Arabian Nights: Sinbad’s Adventures (1975).
○ العمل الأصلي باليابانية، مع وجود نسخ مدبلجة باللغات المختلفة.
5 – Rieu, E. V. (trans.).
The Arabian Nights. London: Penguin Classics, 2003.
○ ترجمة إنجليزية مع تعليقات توضيحية حول خلفيات بعض الحكايات المشهورة، بما فيها قصة السندباد.
6 – Campbell, Joseph.
The Hero with a Thousand Faces. Princeton: Princeton University Press, 1949.
○ كتاب نظري مفيد لدراسة أنماط البطل في الأساطير العالمية، ويمكن تطبيقه على شخصية السندباد.
7 – Trapp, Michael.
“Homer’s Odyssey and the Arabian Nights: A Cross-cultural Perspective.” في Classical Receptions Journal, Vol. 6, No. 3, 2014.
○ دراسة أكاديمية تشتبك مع فكرة المقارنة بين قصص الأوديسة وحكايات السندباد، وإمكانات التلاقح الأسطوري.
8 – ابن النديم.
الفهرست. تحقيق أيمن فؤاد سيد، لندن: نشر مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، 2009م.
○ يضمّ إشاراتٍ لبعض القصص والكتب التراثية التي تتناول الغرائب والعجائب في الأدب العربي.
عدد التحميلات: 0