العدد الحاليالعدد رقم 44ثقافات

اللّغة العربيّة والتّربية الإبداعيّة

هذه الضّاد وما توحي به وترمز إليه، كانت وما زالت حرفًا مِنْ نورٍ أضاء لنا درب الحياة، فعبرنا معه مِنْ ماضينا الزّاخر حضارةً وعراقةً، إلى حاضرنا الّذي يعيش الحداثة بكلّ متطلّباتها.

هذه الضّاد بما تحملِه مِنْ مرونةٍ وحيويّةٍ، كانت وما زالت قـادرةً على السّفر بنا، وبأبناء لسـاننا العربيّ الأصيل، إلى عالم الغد، عالم التّطوّر السّريع، عالم الإبداع والمبدعين. و”بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ” نتطلّع إلى بناءِ جيلٍ مِنَ المتعلّمين المبدعين، بعيدًا عن طرائق التّلقين والشّحن الآليّ للمعرفةِ.

فكيف السّبيل إلى ذلك في ضوء دعائم التّربية الإبداعيّة الحديثة؟

أوّلًا: وقبل كلّ شيءٍ نسأل: ما هو الإبداع؟

تتعدّد النّظريّات التّربويّة حول تعريفِ الإبداع. فمِنَ المفكّرين مَنْ ربط الإبداع بالإلهام والعبقريّة، حيث وجـد أنّ الإنسـان يولَد مُبدِعًا بالفطرة. ومنهم من اعتـبره تفجيرًا للمشـاعر والأحـاسيس والغرائز، وهذه نظريّة “فرويد”، كأنّ المُبدِع يحاول إشباع غرائزه بوساطة هذا الإبداع. ومنهم مَنْ رأى في الإبداع عمليّةً فكريّةً، عقليّةً، تأمّليّةً.*(1) ومِنَ المفكّرين مَنْ وجد

أنّ الإبداع قائمٌ على التّجربة والقياس، وهو موجودٌ عند كلّ النّاس لكن بنسبٍ متفاوتةٍ.*(2)ومِنهم مَنْ رأى أنّ العمليّة الإبداعيّة تتأثّر بالظّروف الاجتماعيّةِ والاقتصاديّة والثّقافيّة والتّربويّة الّتي يخضع لها الأفراد.*(3) ومنهم مَنْ وجد أنّ الإبداع يكون بكيفيّة حلّ المشكلات غير العاديّة بطرائق إبداعيةٍ، وتحدّثوا عن دور التّخيّل في هذا المجال.

ونستخلص مِنْ كلّ ما تقدّم أنّ الإبداع عبقريّةٌ وإلهامٌ، وأنّه إخراجٌ لمكبوتاتٍ أليمةٍ بصورٍ راقيةٍ وعظيمةٍ. وأنّ الإبداع ينمو بالممارسة والتّدرّب عليه، وأنّه وليد المحيط والبيئة الحاضنة، وأنّه أخيرًا وسيلةٌ لإيجاد حلولٍ مبتكرةٍ لمعضلاتٍ كبيرةٍ.

وننطلق مِنَ الفكرة الأخيرة الّتي تصف الإبداع بالابتكار والتّجديد لنؤكّد بأنّ لا معنى للإبداع مِنْ دون الحديث عَنِ الفرادة، الأصالة، القيمة، والجدوى. إذًا العمل المُبدِع لا بدّ مِنْ أن يحمِل البصمة الشّخصيّة للفرد، وأن يكون أصيلًا ذا قيمةٍ وذا جدوى حتّى تعمّ الفائدة مِنْهُ، بحيث أنّ مِنْ الصّفات الأساسيّة للمُبْدِعِ أن يكون مُلْهِمًا للآخرين، قادرًا على التّأثير فيهم، وهو ذو عقلٍ متسائلٍ وخلّاقٍ، وهو فضوليٌّ يبحث في التّفاصيل، وفي الأعماق، وهو ذو درجةٍ عاليةٍ مِنَ الذّكاء والقدرة على تحويل المعلومات إلى مادّةٍ قابلةٍ للتّحليل ولإعادة التّشكيل بما يخدم الموقف أو المطلوب.

ثانيًا: نسأل: كيف نُعِدُّ المُتَعَلِّمَ العربيّ في مجتمعنا على أسس التّربية الإبداعيّة؟

وللإجابة عَنْ هذا السّؤال نتّخذ تعليم اللّغة العربيّة وفق الطّرائق الإبداعيّة نموذجًا.

يقول “نزار قبّاني”، ويطيبُ لي الاستشهاد بقوله، كونه واحدًا مِنْ أهمّ المُبدِعينَ العرب، في العصر الحديث، يقول: “إنّ مُدَرّسي اللّغة العربيّة وآدابها يلعبون دورًا خطيرًا في فتح شهيّة الطّلّاب الأدبيّة أو سدّها. فمدرّسٌ يجعل ساعة الأدب ساعة تعذيبٍ واحتضارٍ… ومُدَرِّسٌ يجعل المادّة الّتي بين يديه حقل جلّنار… ويحوّل النّصوص الجامدة إلى نزهةٍ في ضوء القمر…”(4)

بدأتُ بهذا القول للحديث عَنْ دور معلّم اللّغة العربيّة في التّربية الإبداعيّة، فعلى عاتقه تقع مسؤوليّة نبذ الطّرائق القديمة مِنْ تلقينٍ واستهلاكٍ وتعصّبٍ، وتبنّي وسائل حديثةٍ مِنْ تحفيزٍ، واكتشافٍ، وتحسّسٍ عالٍ لقيم الذّوق والجمال، وإطلاقٍ لعنان الخيال، ولحرّيّة التّعبير عَنِ الرّأي، والاستقلال، وبالتّالي دعم روح الابتكار لدى المُتَعَلِّمينَ وتعويدهم على إيجاد الحلول للمشكلات، والانطلاق مِنَ المعلومات والمكتسبات إلى أبعد مِنها، مرورًا بالتّحليل، وصولًا إلى الإبداع وحصد المواهب ورعاية التّميّز.

وهنا نسأل: ما هي الآليّة الّتي على معلّم اللّغة العربيّة اتّباعها لحصاد مواسم الإبداع؟

على معلّم اللّغة العربيّة تعزيز مهارات الإبداع لدى المتعلّمين.

وأوّل هذه المهارات: مهارة الطّلاقة. وهي طلاقةٌ لفظيّةٌ ومعنويّةٌ، وطلاقةٌ بالأشكالِ وبالتّعبيرِ.

فعلى عاتق معلّم اللّغة العربيّة تشكيل ورعاية مخزونٍ لغويٍّ مِنَ الألفاظ، والمفردات، والتّراكيب، والمعاني لدى المُتعلّمين. والسّبيل إلى ذلك أنشطةٌ تدريبّةٌ متنوّعةٌ تجعل المتعلّم قادرًا على: تركيب كلماتٍ مِن مجموعةٍ مِنَ الحروف، أو اشتقاق مصادر من أفعالٍ، أو تشكيل حقلٍ معجميٍّ لمفردةٍ مُعيّنةٍ، أو إعطاء مترادفاتٍ لفظيّةٍ لكلمةٍ مُعيّنةٍ، أو طلاقة التّعبير عَنِ الأفكار بطريقةٍ سليمةٍ ومنطقيّةٍ.

والمهارة الثّانية في طريق الإبداع: مهارة المرونة. وهي تتمثّل بقدرةِ المُتعلِّم على خلق أفكارٍ  متنوّعةٍ، وإيجاد حلولٍ متعددةٍ لمسألةٍ معيّنةٍ. ويتمّ ذلك مِنْ خلال القدرة على تفسير قولٍ، أو استبدال  لفظٍ بآخر بقدرةٍ لغويّةٍ كافيّةٍ.

والمهارةُ الثّالثة هي مهارة الإفاضة. وهنا نتحدّث عن مرحلةٍ متقدّمةٍ في الإبداع، حيث يصبح المتعلّم قادرًا على توسيع الأفكار والغوص في التّفاصيل والجزئيّات، مستخدمًا الرّوابط المنطقيّة المناسبة لأداءٍ لغويٍّ سليمٍ.

والمهارة الرّابعة والأخيرة وهي مهارة الأصالة. وهنا تبرز الفرديّة الّتي تميّز العمل الإبداعيّ.

فالفكرة هنا مُبْتَكَرَةٌ، جديدةٌ، مِنْ خلقِ الخيال الخصب للمتعلّم. وتتمثّل هذه المهارة بإيجاد حلولٍ بديلةٍ في قصّةٍ مُعيّنةٍ، أو في مناقشة قضيّةٍ عامّةٍ بمنظورٍ خاصٍّ…

وممّا لا شكّ فيه أنّ التدرّب المستمرّ يجعل المهارة أمرًا مكتسبًا وبالتّالي يصبح المتعلّم قادرًا على إنتاج أفكارٍ ابتكاريّةٍ إبداعيّةٍ، قادرًا على خلق ما هو قيّمٍ وجيّد، وصاحب بصمةٍ ذاتيّةٍ. وهذا مبتغى كلّ معلّمٍ ملهمٍ.

في الختام، الإبداع بات مِنَ الضّروريّاتِ في التّربيّةِ الحديثة وهوَ ما يميّزُ مدرسة العصر.

ونحن العرب لن نكون منَ المتقدّمين إلّا إذا كنّا مِنَ المبدعينَ، فلنسعَ لذلك جاهدينَ.

 

الهوامش:

(1) مِن أصحاب هذه النّظريّة:  J.P Guilford

(2) مِن أصحاب هذه النّظريّة العالم الفرنسيّ: Binet

(3)مِنْ أصحاب هذه النّظريّة : J.Piget and R.Girard

(4) “قصّتي مع الشِّعر” . نزار قبّاني

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 5

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى