العدد الحاليالعدد رقم 44ثقافات

البروكرستسيون الجدد

للأساطير الواردة في الميثولوجيا الإغريقية القديمة ديمومة مقاومة للزمن.

ورد في إحدى تلك الأساطير أن بروكرستس Procrustes كان حدادًا مصابًا بجنون العظمة، فكان يرى في نفسه النموذج الأعلى للكمال الإنساني من الناحيتين العقلية والجسدية. من هذا المنطلق، كان يرغم كل من يقابله على أن ينام على سريره الحديدي، فإن كان لضيفه التعس هذا ساقان طويلتان تتجاوزان حجم السرير قام بروكرستس بقص ما زاد من ساقيه بالفأس، أما إن كانت له ساقان قصيرتان فإن بروكرستس لن يتوانى أبدًا عن شدهما بأدواته الخاصة حتى تتمزق مفاصل هذا المسكين، إلى أن يصل بطول ساقيه إلى مقاسٍ يتناسب وطول السرير تمامًا. أليس سريره، بالنهاية، هو المسطرة الأمثل للكمال؟

تحضرني دائمًا أسطورة بروكرستس وأنا استمع إلى تلك النوعية من البرامج الإذاعية الروحانية، الطوباوية، المعززة بالكشوفات الماوراء طبيعية، التي تنتهي فيها فضيلة مقدميها دائمًا إلى اتفاق نتائج أبحاثهم “العلمية” – ويا للصدف المباركة – مع قناعاتهم الروحية المؤدلجة حتى النخاع. كل ذلك، مع تذكيرنا دائما – وبتكرار المذنٍب القلِق – بأساليبهم “المنهجية” نحو الوصول إلى تلك النتائج.

بروكرستس كان يرغم كل من يقابله على أن ينام على سريره الحديدي.

أفهم تمامًا أنهم يعرضون بضاعتهم هذه في سوق فكرية لا معايير نقدية فيها ولا فكر متطلِب. لا بأس، ولكن ليتهم فقط يوفّرون علينا احتماءهم بدرع “العلم” و “المنهج العلمي”. ولماذا الاحتماء بدرعٍ أصلًا إذا كانت منطقة نشاطهم – بطبيعتها – لا تتهددها سهام النقد الفكري ولا قوسه، لأن أي محاولة من أي رامٍ لمجرد الشروع في شد وتر هذه القوس المنطقية ستعني فتح بوابات جهنم عليه على مصاريعها، تحت دعاوى ثلاثية التكفير والتحريم واللعن الحزينة، حتى وإن كان الرامي ينتمي لمعسكرهم العقائدي نفسه.

لينتقِ هؤلاء أية تسمية للراية التي يسوّقون لنا بضاعتهم تحتها – وهي على أية حال بضاعة رائجة في بيئتنا الفكرية الفقيرة الخالية من أية سلع منافسة – شريطة ألا يسمّوا رايتهم بتسمية “العلم”. العلم لا يكون علمًا إذا كان “موجهًا”، لأن التوجيه يتنافى بالضرورة مع اشتراطات التجرّد البحثي. العالم الحقيقي ينطلق من فرضيات hypotheses يتبعها ولا تتبعه، بحيث لا يدري إلى أين سوف تقوده فرضياته البحثية تلك. هكذا، تكون النتائج المترتبة على فرضياته البحثية “وجهات” نهائية، لا “منطلقات” مبدئية. رائد الباحث، في النهاية، هو الحقيقة، ولذلك هو يتبع الطريق الذي سيقوده إليها، أيًا ما كان ذلك الطريق. أي روحٍ استكشافيةٍ مزريةٍ تلك التي تأتينا بالوجهة (النتيجة) قبل الخريطة (المنهج)؟

لكل شخص مطلق الحق أن يدعي توصله إلى الحقيقة، هذا هو بالنهاية ما يسمى بحرية التعبير، ومع ذلك فلا يحق لأيٍ كان ولا ينبغي ان يقبل منه أن يدلل على حقيقته تلك بدعاوى “العلم” و”المنهج العلمي” إلا إذا كان قد توصل إليها بطريق “الاستكشاف” المنهجي، لا “الكشف” الروحي. هذا هو فقط ما يُقصد بالمنهج العلمي الدقيق، القابل للضبط والتثبت والاستدلال والمراجعة والتصحيح في جميع الحقول المعرفية، العلمية منها والإنسانية.

وبعد، فمن يظن أن الموروث السردي الإغريقي لآلهة جبال الأولمب هو محض خرافات، سيفعل حسنًا بأن يستمع للمنطق “العلمي” المقلق لأحفاد بروكرستس هؤلاء، وليصِخ السمع: سيقطع نياط قلبه صراخ الفكر العلمي وهو يطلب النجدة من تعذيب هؤلاء له، وسيثقب طبلتي أذنيه صرير النوابض الصدئة لسريرهم الفكري المهترئ.

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

د. مشاعل عبدالعزيز الهاجري

أكاديمية من دولة الكويت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى