العدد الحاليالعدد رقم 44ثقافات

النظرية اللسانية ما بعد الحداثية

في ظل التحولات المعرفية التي شهدها الحقل الإنساني منذ أواخر القرن العشرين، لم تعد اللسانيات محض علم وصفي للعلامة اللغوية في حيادها البنيوي، بل تحولت إلى حقل نظري يتقاطع مع فلسفة اللغة، وسوسيولوجيا المعرفة، ونقد الخطاب، والنظرية السياسية. تجاوزت اللغة في هذا المنعطف حدود كونها أداة تواصل أو تمثيل لتُصبح مجالًا للسلطة، وآلية لإنتاج الواقع لا مجرد انعكاس له. لقد أصبح التفكير في اللغة استدعاءً لكل ما هو مستبعد منها: الصمت، الهامش والغموض والالتباس والإيديولوجيا. وهنا، بالضبط، تتبلور ملامح اللسانيات النظرية في لحظتها ما بعد الحداثية، التي تنهار فيها الميتافيزيقا الدلالية، ويحل محلها تفكير متشظٍّ لا يثق في ثبات المعنى، ولا في وجود مركز معرفي يمكن التعويل عليه.

فاللغة، في التصور ما بعد البنيوي، ليست أداة حيادية بل نظامًا مشبعًا بالإيديولوجيا ومخترقًا بالبُنى السلطوية التي تشكل الأطر الممكنة للفهم. وفق هذه الرؤية، تنسف اللسانيات ما بعد الحداثية المقولات الكلاسيكية مثل «العلامة»، «النظام»، «المرجعية»، «المعنى» بوصفها أنساقًا ناجزة، لصالح مقولات أكثر مرونة وانفتاحًا، منها «الاختلاف»، «التأجيل»، «اللعب الدلالي»، «انفلات الدال»، «تموضع الخطاب»، و«أثر التلفظ». لا يُنظر إلى اللغة بوصفها بنية مغلقة أو ثابتة كما في اللسانيات البنيوية، بل بوصفها نصًا مفتوحًا على لا نهائية التأويل، على ما يسميه دريدا «الكتابة غير المتناهية.»

نشأ العنصر التأسيسي للنقد اللساني ما بعد الحداثي من مفهوم دريدا (الاختلاف) وهو مفهوم يتحدى الهرميات الميتافيزيقية التقليدية عبر زعزعة تفضيل الحضور على حساب الغياب، والكلام على الكتابة، والأصل على الأثر. كشفت دراسة دريدا للمركزية اللغوية ان اللغة هي نظام مركب من عناصر تفاضلية، يبقى فيه المعنى مؤجلاً إلى ما لانهاية ولا يمكن مطلقًا الوصول إليه بالكامل. هذه اللا يقينية تزعزع استقرار أي مشار إليه ممكن، وتجعل من كل فعل لغوي مؤقتًا وغير مكتمل بالأساس. وفي هذا الإطار، يتحول النص إلى فضاء لا نهائي لإعادة التأويل تستبدل فيه سلطة التأليف باستقلالية القارئ. ولهذا التحول آثارًا كبيرة: إن تأجل المعنى إدراكيًا، يصبح مفهوم الحقيقة بوصفه صنفًا كليًا مستقرًا موضع شك. ان تفكيك دريدا للمركزية اللغوية يقوض الفرضيات الميتافيزيقية التي بقيت مهيمنة على الفكر الغربي لفترة طويلة، ويفتح المجال أمام امكانيات جديدة لفهم اللغة بوصفها موقعًا للتعددية واللا استقرار.

ولذلك فإن كل اشتغال لساني ضمن هذا الأفق لا يمكن أن يستثني موقع الخطاب، لأن كل خطاب هو حقل قوى (field of forces)، لا تجلي محايد لمعطيات لغوية. هذه المركزية التي يحتلها «الخطاب» في اللسانيات ما بعد الحداثية تعود إلى تقاطعها مع تحليلات فوكو، الذي جعل من اللغة أداة ضبط وتمييز وإقصاء. فـ«ما يمكن قوله» لا تحدده قواعد النحو أو الكفاءة التداولية فقط، بل تحدده بنى السلطة التي توزع حق الكلام، وتضبط شروطه وحدوده. هكذا تغدو اللغة ليست حيّزًا للتعبير بل للمنع، لا فقط أداة تفصح، بل آلية تخفي وتُقصي. وقد زاد تحليل فوكو الجينالوجي من تعقيد النظرية اللسانية ما بعد الحداثية عبر وضع الخطاب في شبكات السلطة والمعرفة. لقد عد فوكو الخطاب جهاز تحكم يحدد لكلام والفكر المسموح به ويرسم حدود المعرفة في أطر تاريخية وثقافية معينة. يرتبط خلق المعنى، حسب هذه الرؤية، ببنى السلطة التي تنظم ما يمكن التعبير عنه وما يجب ان يبقى مسكوتًا عنه.

في ضوء ذلك، يتوجب علينا إعادة التفكير في مفاهيم مثل «المتكلم»، «الهوية الخطابية»، و«النظام اللساني». لم يعد المتكلم في هذا السياق هو المصدر الأحادي للمعنى، بل هو موقع مُنتَج ضمن تشكيلات خطابية وسياقات اجتماعية، تُقيده وتُحاوره وتُخلخل سلطته على ما يُفصح عنه. من هنا نفهم لماذا يكون «موت المؤلف» عند رولان بارت إعلانًا صريحًا بانهيار سلطة الذات في إنتاج الدلالة، وتحويلها إلى فاعل منحلّ في شبكة لا نهائية من الملفوظات التي لا يمكن ردّها إلى مركز واحد.

هذه الرؤية تُترجم، لسانيًا، في التشكيك بجدوى المقاربات التي تفترض نسقًا لغويًا مكتفيًا بذاته، كالمقاربة التوليدية أو البنيوية الوظيفية، وتفتح الباب أمام مقاربات تداولية-تفكيكية تُعلي من شأن «اللعب»، و«تعدد المواقع التلفظية»، و«الهويات اللسانية المتناثرة». الهوية هنا ليست إلا نتاجًا من الملفوظات الجزئية، لا وحدة متماسكة سابقة على الخطاب. إن كل ما يُقال مشروط بما لم يُقل، بما تم منعه أو كتمه أو تأجيله. ولذا فإن المعنى ليس ما يُقال، بل ما يتكشّف على تخوم اللغة، في فراغاتها، وفي انزلاقاتها.

وإذا كانت اللسانيات الكلاسيكية قد سعت لتحديد «كيف تعمل اللغة؟»، فإن اللسانيات ما بعد الحداثية تنقلب على هذا السؤال، وتطرحه في صيغته المعكوسة: لماذا تعمل اللغة كما تعمل؟ من يُشرّع أنظمة التداول؟ من يمنح بعض الصيغ اللغوية شرعية القبول، ويُقصي أخرى؟ إنها لا تبحث عن القواعد، بل عن الشروط السياسية والإيديولوجية التي تبرر هذه القواعد وتُعيد إنتاجها كل مرة بوصفها «طبيعية» أو «علمية». هنا تصبح «الواقعية اللسانية» نفسها وهمًا مؤسسًا، لاكتساب السيطرة على ما يبدو «شفافًا»، في حين أنه الأكثر إخفاءً للعلاقات السلطوية التي تُنتجه.

ويقدم مفهوم كريستيفا للفضاء السيميائي بعدًا نفسيًا تحليليًا للنظرية اللسانية ما بعد الحداثية. يمثل الفضاء مجالاً قبل-لغوي تعطل فيه النوازع والايقاعات اللاواعية البنى اللغوية، وتغرس فيها الإفراط والغموض والأصوات المتعددة. يتحدى هذا التداخل السيميائي خطية الخطاب وتماسكه، الأمر الذي يخلق فرصًا للتعبيرات المقاومة. تظهر نظرية كريستيفا التوتر بين السيميائي والرمزي، ما يعني أن المعنى دائمًا ما يكون مسكونًا بآثار ما يسعى إلى اسكاته. اللغة، حسب هذه الرؤية، تشتغل باعتبارها موقعًا ازدواجيًا: الية للتحكم وتحتوي فضاءات مقاومة وابداع. تؤكد هذه الازدواجية القدرة المقاومة للغة، إذ تستطيع الأصوات المقموعة تعطيل النظام الرمزي وتؤكد على معان بديلة.

هكذا تتقدم اللسانيات ما بعد الحداثية كموقف معرفي يقوّض مركزية المعنى ويؤسس لفلسفة لغوية تتعامل مع العلامة لا كأداة إشارية بل كحدث ثقافي-سياسي، يتقاطع فيه الصوت والنص، الذات والسلطة، اللغة والهوية، في جدل دائم لا يكتمل. إن دلالة العلامة لا تُستخلص من قاموس مرجعي، بل تُنتج في سياق الهيمنة، والصراع، والتاريخ، والهامش. وهذا ما يجعل من الدرس اللساني المعاصر ليس دراسة للعلامة بل تفكيكًا لعلاقات الإنتاج الثقافي داخل اللغة.

اللغة هنا لا تصف العالم، بل تصنعه، تعيد تشكيله بواسطة شبكة متداخلة من الخيارات والإقصاءات والانحيازات التي تُحيلنا دومًا إلى سؤال: من يتكلم؟ باسم من؟ ولأي غرض؟ هذه الأسئلة تتجاوز اللسانيات في معناها الكلاسيكي لتصبح أسئلة في فلسفة المعنى، وفي أخلاقيات التلفظ، وفي شروط القول والسكوت. ومن هنا، فإن اللسانيات ما بعد الحداثية لا تشتغل على اللغة فحسب، بل على أثرها، وعلى ما تتركه من تشققات في الذات والعالم.

وشهدت النظرية اللسانية في القرن الحادي والعشرين تحولات كبيرة، ابتعدت بموجبها عن الصرامة البنيوية نحو مقاربات ديناميكية متعددة التخصصات. فقد برز الاتجاه الإدراكي بوصفه أحد التيارات الوازنة، ويؤكد على تجذّر المعنى في التجربة الجسدية، ويعتمد مفاهيم مثل الخطاطات الذهنية والاستعارة المفهومية في تفسير البنية اللغوية. في المقابل، أعاد البرنامج الأدنوي للتوليديين بزعامة تشومسكي صياغة النحو التوليدي ضمن رؤية بيولوجية تفسر اللغة بوصفها قدرة فطرية، يسعى العقل البشري إلى ترميزها بأبسط القواعد الممكنة.

في موازاة ذلك، فرضت التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي حضورها عبر اللسانيات الحاسوبية ومعالجة اللغة الطبيعية، التي أعادت نماذج التعلم العميق صياغة العلاقة بين اللغة والآلة. وبموازاة ذلك، تسعى اللسانيات النفسية والعصبية إلى فهم آليات اشتغال اللغة في الدماغ البشري، بالاستناد إلى المعطيات التجريبية والتصوير العصبي. وتكشف هذه الاتجاهات مجتمعة عن سمة مركزية في اللسانيات المعاصرة، تتمثل في انفتاحها المنهجي وتعدد مرجعياتها المعرفية، مما يجعلها تقاطعًا فعّالًا بين علوم الإدراك والفلسفة والنظرية الاجتماعية وعلوم الحاسوب.

بهذا يتبين أن اللسانيات في سياقها ما بعد الحداثي لم تعد تقتصر على دراسة البنى اللغوية المجردة أو القواعد الشكلية للغة، بل تحولت إلى حقل معرفي نقدي يتداخل فيه الفلسفي والسياسي والاجتماعي والنفسي. لقد تجاوزت فكرة اللغة كوسيط محايد، لتصبح فضاءً للسلطة والمقاومة، ولتأسيس المعنى وهدمه في آن واحد. من خلال مفاهيم مثل «الاختلاف» عند دريدا، و«الخطاب» عند فوكو، و«الفضاء السيميائي» عند كريستيفا، اتضح أن اللغة ليست نظامًا مغلقًا، بل ساحة صراع تتجلى فيها علاقات القوة وتتشكل فيها الهويات.

كما أن التحولات المعاصرة في اللسانيات، من المنظور الإدراكي إلى التوليدية المعدلة، ومن اللسانيات الحاسوبية إلى العصبية، تؤكد على ديناميكية هذا الحقل وتعدده المنهجي. لم يعد السؤال المركزي يدور حول «كيف تعمل اللغة؟»، بل حول «كيف تُنتج اللغة الواقع؟»، و«ما الدور الذي تلعبه في تشكيل الذوات والمجتمعات؟».

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 1

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى