
من الغرب الإسلامي إلى الغرب المسيحي أول مغربي في باريس
شكلت أوروبا خلال القرن التاسع عشر وحتى مطلع القرن العشرين مركز تقاطع بين نموذجين متعارضين في الوعي العربي والإسلامي: يتمثل النموذج الأول في أن أوروبا كانت مثال النهضة والتقدم الحضاري، ويتمثل الثاني في أنها كانت أيضًا مثال الهيمنة والأطماع الاستعمارية. وقد تزاحم هذان النموذجان المتناقضان في عقلية النخبة في العالم العربي والإسلامي، بحيث كان على هذا الأخير أن يحاول المزاوجة بينهما مع التركيز على الجوانب الإيجابية التي يعكسها النموذج الأول والتنبيه على مثالب وسلبيات النموذج الثاني المقابل.
وقد كانت هذه المزاوجة والرغبة في الفصل بين النموذجين تجربة صعبة بسبب الجاذبية التي كان يتوفر عليها العالم الأوروبي، وواقع التخلف والانهيار الذي كان سائدًا على الجانب الآخر، الأمر الذي لم يكن يتيح هامشًا أوسع أمام الوعي العربي والإسلامي الحديث الراغب في القفز على عوامل التردي الحضاري والتفكك الاجتماعي، وفي تحصيل الممكنات الكفيلة بإنجاز تلك المهمة الحضارية الكبرى. فمنذ القرن السادس عشر للميلاد فتح العرب والمسلمون أعينهم على انبثاق الغرب كقوة عالمية صاعدة على أنقاض أمة إسلامية متآكلة ومنقسمة على نفسها، حيث أخذ الغرب في التمدد ابتداء من نهاية القرن الخامس عشر مع سقوط غرناطة واكتشاف أمريكا ـ وهما حدثان مترابطان حصلا معًا عام 1492 ـ وإعادة بناء نفسه وتوحيد صفوفه في مواجهة الإمبراطورية العثمانية1، واضعًا نصب عينيه تفتيت وحدة الأمة والانتقام لقرون طوال من سيطرة المسلمين.
وتعني سيطرة الغرب والاستحواذ على المبادرة على الصعيد العالمي توزيعًا جديدًا لمظاهر السلطة الرمزية، بحيث لم تعد هذه الأخيرة تتركز في الجانب الإسلامي بل انتقلت إلى الجانب الأوروبي المسيحي. ونعني هنا بالسلطة الرمزية القدرة على الجاذبية وامتلاك النموذجية التي تستدعي التقليد والاتباع، ولم تتحقق تلك السلطة إلا بعد امتلاك الغرب مختلف مظاهر القوة العسكرية والعلمية والتقنية والسياسية.
لقد لعبت الرحلات التي قام بها عرب ومسلمون إلى أوروبا، بداية من النصف الأول من القرن التاسع عشر، دورًا رئيسًا في إماطة اللثام عن تلك الجوانب في الحضارة الغربية، والوقوف على حقيقة التقدم الحاصل فيها. ومن المفارقات التي تستدعي لفت الأنظار أن الرحلة القادمة من العالم العربي والإسلامي في اتجاه الغرب كانت على النقيض من الرحلة المعاكسة، تلك التي قام بها رحالة أوروبيون إلى البلدان العربية والإسلامية، من أدباء وسياسيين وعسكريين وجواسيس. فبينما كانت رحلة الأوروبي نابعة من غرض استكشاف البنيات السياسية والدينية والاجتماعية للبلدان العربية والإسلامية بهدف توفير مادة «علمية» لذوي القرار السياسي والعسكري بقصد التمكين لخطة الغزو، أي اكتشاف مواطن الضعف في تلك البلدان لاستثمارها، كانت رحلة العربي المسلم نابعة من غرض مختلف وهو البحث عن مواطن القوة في أوروبا للاستفادة منها وتقليدها. لقد صاغ الرحالة الأوروبي «جغرافيا متخيلة» عن بلدان الشرق لخدمة أهداف الاستشراق2، فيما صاغ الرحالة العربي المسلم صورته عن بلدان الغرب لخدمة أهداف «الاستمداد»، أي الاستعانة بأوروبا من أجل تحقيق النهوض.
وبالنظر إلى قرب المغرب من أوروبا واحتكاكه المستمر معها منذ سقوط غرناطة على الأخص وبداية التحرشات الإسبانية المسيحية باستقراره ـ تنفيذًا لوصية الملكة إليزابيث الكاثوليكية التي كانت ترى في المغرب امتدادًا للعالم المسيحي لا نقطة بداية العالم الإسلامي، ما نتج عنه مواجهات مستمرة كانت كبراها حرب تطوان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر3 ـ فقد وجد نفسه منخرطًا بشكل مبكر في لجة الصراع الحضاري مع أوروبا المسيحية، ومطالبًا بإيجاد السبل الكفيلة بضمان ممكنات التحديث الاقتصادي والعسكري للوقوف في وجه التمدد الأوروبي.
وتشكل الرحلة إلى أوروبا ـ كمادة أدبية ـ وثيقة تاريخية، سياسية وفكرية، تسعف في قراءة موقف النخبة المخزنية المغربية4 في مرحلة القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من التقدم الأوروبي وأسئلة النهضة والرقي الحضاري. ونقصد بالرحلة هنا ذلك النوع المسمى الرحلة السفارية، أي تلك التي كان يقوم بها رجال من حاشية السلطان يتم تسفيرهم إلى الديار الأوروبية برفقة مبعوثيه الرسميين، لتسجيل مشاهداتهم وانطباعاتهم ورفعها إلى نظره. ويعني هذا أن هذا النوع من الرحلات يكون بمثابة تقارير رسمية في ملكية المخزن في الغالب الأعم، إذ كثيرًا ما يتم التعامل معها على أنها “تقارير سرية” لا يجوز لصاحبها التصرف فيها إلا بإذن شخصي من السلطان نفسه5.
وقد عكست الرحلات السفارية التي وجهها سلاطين المغرب خلال الفترات المشار إليها حاجة الدولة إلى الانتصار لخيار التحديث والإصلاح السياسي والإداري والاقتصادي على حساب خيار التقليد الذي لم يعد مجديًا، أمام تغير قواعد اللعبة السياسية الدولية وبروز نظام عالمي جديد تقف على قمته دول أوروبا بكل آلتها العسكرية والتقنية والعلمية، بما بات يهدد بشكل مباشر الهويات الوطنية بل استمرار الدولة ذاتها. ومنذ النصف الأول من القرن التاسع عشر إلى النصف الأول من القرن العشرين أوفد سلاطين المغرب ما يربو على عشر سفارات إلى أوروبا، أسفرت عن تأليف رحلات لا تزال شاهدة على إرهاصات التفكير الإصلاحي خلال مراحل التمدد الأوروبي في منطقة الغرب الإسلامي، منها رحلة ابن إدريس العمراوي إلى باريس عام 1860 المسماة «تحفة الملك العزيز إلى مملكة باريس»، ورحلة طاهر الفاسي إلى لندن في العام نفسه، ورحلة أحمد الكردودي إلى مدريد عام 1886 المسماة “التحفة السنية للحضرة الحسنية بالمملكة الإصبنيولية”6.
وتعد الرحلة التي قام بها الفقيه محمد الصفار إلى الديار الفرنسية، في عام 1845، من أوائل الرحلات السفارية المخزنية إلى أوروبا وأهمها، إذ جاءت في حقبة صعبة من تاريخ المغرب الحديث، تميزت بانهيار السلطة المركزية للدولة وتزايد التحرشات الأوروبية في الجوار والأزمات الاقتصادية المتوالية.
من هو محمد الصفار؟
ترجع أصول محمد بن عبدالله بن عبدالكريم الصفار إلى الأندلس، حيث كان أجداده من العوائل الأندلسية المسلمة التي نزحت إلى المغرب على إثر الطرد الذي تعرض له المسلمون في الأندلس على يد الإسبان الكاثوليك، خلال نهايات القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر. وقد استقر هؤلاء في مدينة تطوان القريبة من الحدود مع إسبانيا، حيث استوطن العديد من الأندلسيين النازحين إضافة إلى اليهود الذين تعرضوا هم أيضًا للطرد على يد التاج الإسباني.

ولد بتطوان، ولا يعرف تاريخ ميلاده بالتحديد، لكن ذهاب الكثيرين إلى أن عمره عندما قام بالرحلة كان بين الرابعة والثلاثين والخامسة والثلاثين، يكون تاريخ ميلاده بين 1809 و1810. تلقى مبادئ العلم في مسقط رأسه تطوان على مشايخها، ثم انتقل إلى فاس لطلب العلم، وصار يلقب بالفقيه نظرًا لتمدرسه على يد علماء جامع القرويين هناك مدة خمس سنوات، وحصوله على إجازات علمية في الفقه والحديث والأصول7. وبعد عودته إلى موطنه زاول وظيفة العدالة (الشهادة الشرعية) إلى جانب مهام التدريس بمساجد تطوان، حيث كان يدرس مواد الحديث والفقه الإسلامي. وكانت وظيفة العدالة في تلك الفترة من أرقى الوظائف التي لا يمارسها إلا الصفوة من المتعلمين والفقهاء المعروفين بالنزاهة والعلم والاستقامة، الأمر الذي مكنه من نسج علاقات مع علية النخبة المخزنية في المدينة وجعله محط أنظارها.
وقد كانت مدينة تطوان في ذلك الوقت ذات أهمية استراتيجية كبرى في السياسة الدولية للمخزن المغربي، نظرًا لقربها من إسبانيا وأوروبا من جهة، ومن جهة ثانية لكونها موطنًا للعديد من العائلات الأندلسية المهاجرة التي كان بينها تجار كبار وعلماء وفقهاء، وكان المخزن حريصًا على استقطاب نخبها وتحصينها في مواجهة الخطر المسيحي، لذلك كانت نخبتها جد قريبة من المخزن على الرغم من بعدها الجغرافي عن مركز السلطة في مدينة فاس العاصمة.
ما لبث محمد الصفار أن أصبح كاتبًا خاصًا لعامل السلطان على المدينة، عبدالقادر أشعاش، الذي تولى تلك المهمة خلفًا لوالده محمد أشعاش بعد وفاته. وكانت أسرة أشعاش من الأسر الثرية الكبرى بالمدينة، ذات أصول أندلسية هي أيضًا، وظلت طوال عقود تمد المخزن بالأطر والموظفين الرسميين8.
وعندما قرر السلطان المولى عبدالرحمن (1822 ـ 1859) توجيه عامله عبدالقادر أشعاش إلى فرنسا في مهمة سياسية تتعلق بالتفاوض مع فرنسا حول الحدود والأزمة التي أثيرت مع باريس بسبب المقاومة الجزائرية التي كان يقودها الأمير عبدالقادر انطلاقًا من التراب المغربي، طلب منه اختيار «عالم يقيم أمر الدين من صلاة وقراءة» ليرافق البعثة الديبلوماسية، فاختار الصفار لتلك المهمة9.
قضى الصفار خمسين يومًا في فرنسا، وبعد عودته إلى تطوان انهمك في كتابة نص الرحلة لرفعها إلى أنظار السلطان، وعاد إلى مهنته القديمة ومزاولة التدريس في المساجد. غير أن المولى عبدالرحمن ما لبث أن غضب من عامله عبدالقادر أشعاش، فانتقم منه بتجريده من أملاكه وإعفائه من المسؤولية، فلجأ الصفار إلى إحدى الزوايا بمدينة فاس هاربًا من بطش السلطان، لكن هذا الأخير سرعان من نادى عليه وولاة وزارة الشكايات، فكان أول من تولى تلك الوزارة، وظل فيها إلى أن وافته المنية عام 1881 ودفن بمدينة مراكش10.
السياق التاريخي للرحلة
عرف المغرب في النصف الأول من القرن التاسع عشر جملة من المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتحديات الخارجية جعلته يركز جهوده على إعادة بناء الدولة المركزية بهدف التمكن من القوة المادية والكفاءة الإدارية لمواجهتها. فعلى الصعيد الداخلي تميز عهد المولى عبد الرحمن ببروز الفتن بين المخزن والقبائل بسبب موجة الجفاف والأوبئة التي تضرر منها السكان، الأمر الذي انعكس على مقادير المكوس (الضرائب) والمساهمات التي كانت تدفعها القبائل لفائدة المخزن، وعلى حماسها في المشاركة في الحملات العسكرية للدولة في مواجهة الخارج11، إذ كانت العادة جارية على أساس مساهمة القبائل بالمقاتلين في صفوف الجيش السلطاني في غياب جيش نظامي مستقر.
أما على الصعيد الخارجي فقد كانت أوروبا قد شرعت في التحرش بالمغرب من مختلف الأطراف من أجل إضعافه والتمكين للمشروع الاستعماري لاحقًا، في إطار مخطط واسع تقوده الدول الأوروبية المتسابقة على تقاسم النفوذ في بلدان شمال إفريقيا والمشرق، وظهر نظام سياسي وعسكري جديد في المتوسط نتيجة تحولات عميقة في توازن القوة ما بين أوروبا والإمبراطورية العثمانية، نتج عنه طموح القارة الأوروبية في استغلال خيرات العالم العربي والإسلامي ومواده الأولية، كالحرير والقطن والقمح والجلود وغيرها12. ولمواجهة ظاهرة القرصنة في المتوسط لجأت بعض البلدان الأوروبية، كبريطانيا والنمسا وفرنسا، إلى قصف عدد من المدن المغربية الساحلية في شمال البلاد مثل طنجة والعرائش وتطوان وأصيلا، في ظل عجز البواخر العسكرية المغربية الثلاث عن رد التحدي13 .
وجاء احتلال فرنسا للجزائر عام 1830 ليدق آخر إسفين في نعش الاستقرار الداخلي للمغرب، حيث بدأت الأنشوطة تشتد من حول عنقه؛ إذ أصبحت البلاد من ذلك الوقت محاصرة من الشمال والشرق من دولتين أوروبيتين مسيحيتين، الأولى هي إسبانيا على مرمى حجر من ساحل طنجة، والثانية هي فرنسا في الجزائر المجاورة، وكان ذلك وضعًا غير مسبوق في تاريخ المغرب تفرد به بين بلدان المنطقة العربية.
وسرعان ما وجد المخزن المغربي نفسه منخرطًا في الصراع الفرنسي ـ الجزائري، ذلك أن سكان تلمسان في الجزائر القريبة من مدينة وجدة في أقصى الشرق هرعوا إلى المولى عبد الرحمن يطلبون منه الدخول تحت بيعته على أساس خوض الجهاد ضد الفرنسيين، الأمر الذي صار يعني إلزامية دفاع السلطان عنهم ومدهم بالسلاح والمقاتلين كجزء من الدفاع عن رعيته14. وفي الجزائر بايع سكان وهران الحاج عبدالقادر بن محيي الدين، المعروف بعبد القادر الجزائري، أميرًا عليهم. وبحثا عن شرعية سياسية ودينية بايع هذا الأخير السلطان المغربي وسمى نفسه خليفة للسلطان وصار يلقي الخطب باسمه15، فانتقل مركز المقاومة الجزائرية إلى عمق التراب المغربي، وبدأ السلطان يقدم الدعم المالي والعسكري للمقاومة الجزائرية.
ولم يعد احتلال الجزائر موضوعًا يهم قيادة الدولة المغربية فحسب، بل صار يعني العلماء المغاربة أيضًا. ذلك أن الأمير عبدالقادر وجه رسائل عدة إلى علماء جامع القرويين بفاس يطلب منه فتاوى بخصوص المقاومة وطرق التعامل مع الخونة من الجزائريين، جاء في إحداها: «وذلك أن العدو الكافر يحاول ملك المسلمين مع استرقاقهم بالسيف وتارة بحيل سياسته، ومن المسلمين من يداخلهم ويبايعهم ويجلب الخيل إليهم، ولا يخلو من دلالتهم على عورات المسلمين، ويطالعهم، ومن أحياء العرب المجاورين لهم من يفعل ذلك ويتمالأون على الجحود والإنكار، فإذا طلبوا بتعيينه جعجعوا، والحال أنهم يعلمون منهم الأعين والآثار، فما حكم الله في الفريقين في أنفسهم وأموالهم؟ فهل لهم من عقاب أم يتركون على حالهم؟»16.
ولم تمض سوى مدة قصيرة حتى أقامت فرنسا معسكرًا تابعًا لها في منطقة للامغنية التابعة للمغرب آنذاك من أجل التصدي لمقاومة الأمير عبدالقادر، فاضطر المغرب إلى فتح جبهة مع الاحتلال الفرنسي، نتجت عنها مواجهة عسكرية حاسمة في موقعة إيسلي الشهيرة قرب مدينة وجدة الحدودية عام 1844، هزم فيها المغرب هزيمة ساحقة. ونتيجة لذلك وقع المغرب وفرنسا اتفاق طنجة يوم 10 شتنبر 1844 فرض على المغرب شروطًا مذلة، من جملتها تحديد عدد الجنود المغاربة الموجودين على الحدود في وجدة، واعتبار الأمير عبدالقادر شخصًا خارج القانون، وإلزام الدولة المغربية بالقبض عليه وتسليمه إلى الفرنسيين، وفرض معاهدات تجارية مجحفة في حق المغرب17.
الوعي بالتخلف ونداءات الإصلاح
في هذا المناخ الخانق والمتوتر جاءت رحلة محمد الصفار إلى فرنسا، ولا أدل على ذلك أنها حصلت بعد أشهر قليلة على هزيمة إيسلي التي كانت بمثابة انتقال من عصر إلى آخر. والواقع أن الصفار توجه إلى فرنسا برفقة السفير عبدالقادر أشعاش وهو يحمل معه صدى نداءات الإصلاح التي علت في الداخل وتعالت بها أصوات العلماء والفقهاء الذين كانوا يرون أن المخرج الوحيد من حالة الأزمة والاختناق ومواجهة التحدي الأوروبي هو التعبئة الشعبية وإعلان الجهاد. وقد عبر عن ذلك علماء كثيرون منهم محمد بن عبد القادر الفاسي المعروف بالكردودي، الذي ألف رسالة مطولة سماها (كشف الغمة ببيان أن حرب النظام حق على هذه الأمة)، دعا فيها إلى إحياء فريضة الجهاد، وابن عزوز الذي ألف رسالة سماها (رسالة العبد الضعيف إلى السلطان الشريف) وجهها إلى السلطان المولى عبدالرحمن، يدعوه فيها إلى تنظيم الجيش المغربي18.
بيد أن كل تلك الدعوات والنداءات ما كانت سوى تعبيرًا عن الحماسة وانعكاسًا لحال الغضب التي انتابت نخبة العلماء والفقهاء، من دون إدراك تضعضع جهاز الدولة وافتقادها للقدرات العسكرية والحربية لخوض حروب على أكثر من جبهة، بعدما باتت سيادة الدولة نهبًا للطامعين الأوروبيين من الشمال والشرق، وساحة مفتوحة أمام الأساطيل الأوروبية في المتوسط. فقد كان الأمر يستدعي تشخيصًا شاملا للوضع الداخلي، والوقوف على كنه التقدم التقني والعسكري والمادي الذي جعل من الدول الأوروبية دولًا قوية قادرة على إخضاع المغرب، الذي كان حتى متم القرن الخامس عشر قوة عسكرية في المتوسط يحسب لها حسابها، وكان يتوفر على أسطول حربي من أقوى الأساطيل.
ويبدو لنا أن تكليف السلطان المولى عبدالرحمن لمحمد الصفار بمرافقة البعثة التي قادها عبدالقادر أشعاش، ثم تكليفه بكتابة وقائع رحلته ومشاهداته ـ بعيدًا عن النتائج السياسية المباشرة لمباحثات السفير أشعاش مع المسؤولين الفرنسيين حول القضايا الملحة المرتبطة باللحظة ـ كان الهدف منه أخذ مسافة موضوعية وعقلانية للنظر في أسباب وعوامل التقدم الأوروبي، ثم وضع مخطط وطني شامل لإنجاز المهمة بهدوء وعلى مدى زمني قد يطول، بعيدًا عن الحماسة الفورية التي كان يتصف بها بعض الفقهاء والعلماء الذين كانوا لا يميزون بين الجهاد والمغامرة.
بالرغم من أن محمد الصفار كان قد أصبح محسوبًا في طبقة الفقهاء، إلا أن قربه من دوائر القرار السياسي والإداري في مدينة تطوان، ومخالطته للنخبة المخزنية في المدينة وقبل ذلك في فاس عندما كان يتلقى العلم بها، جعلاه يتوفر على مقدرة التمييز بين «منطق السلطة» و«منطق الفقيه» في التعامل مع التحولات الاجتماعية والسياسية العميقة في البلاد. لقد كان يدرك الضرورة الملحة للتصدي للهجوم الأوروبي وأهمية تعبئة السكان في القبائل من أجل الجهاد ضد العدو المسيحي، وهذا حماس الفقيه، لكنه كان يدرك في ذات الوقت الإكراهات والصعوبات المالية والعسكرية وحقيقة الضعف المستشري في جسم المخزن وحالة التفكك بينه وبين القبائل، وسطوة الجانب الأوروبي المستعد لخوض أي مغامرة من أجل الظفر بالمكاسب التي جاء من أجلها، وهذا منطق رجل الدولة.
لذلك نجد محمد الصفار في رحلته الباريسية يتحلى بقدر من الموضوعية والحياد في نقل مشاهداته وانطباعاته خلال مدة إقامته في العاصمة الفرنسية، دون أن ينساق وراء تغليب آرائه الشخصية إلا في حالات معدودة، حيث نراه يعرب عن رأيه الخاص عندما يتعلق الأمر بقضايا تصادم هويته الدينية الإسلامية وتقاليده الثقافية، لكي يفصل بين ما يسجله بقلمه كواقع موضوعي، وما خلفه ذلك في نفسه من انطباع سلبي، فهو يقول في خاتمة الرحلة: «وإني أعتذر من التقصير، وأعترف بعدم التحرير، وأستغفر الله مما جنته يداي وأبصرت هناك عيناي من المناكر الشنيعة، وسمعته أذناي من الإشراك والكفريات الفظيعة، ومن مخالطة أهل الضلال. وأسأل الله سبحانه الانتظام في سلك أهل الكمال، وإن لم يكن لي ما لهم من صالح الأعمال»19.
الصفار وإشكالية النموذج
يمكننا اعتبار الرحلة السفارية بمثابة دراسة مقارنة Comparaison بين نموذجين مجتمعيين مختلفين غاية الاختلاف، نموذج استوفى إمكانياته التاريخية ونجاعته العملية، وآخر واعد يقدم نفسه بوصفه معيارًا يقاس عليه النموذج السابق الذي يوجد في حالة تجاوز. إن كل رحلة، من حيث الواقع، تتضمن هذه المقارنة الذهنية لدى مؤلفها وإن لم يكن ذلك بشكل مباشر وملموس، طالما أن الهدف الأساس من الرحلة ليس الاستجمام وإنما هو اكتشاف «الغائب» المضمر في النموذج المتجاوز.
وهنا يمكن القول بأن ما كان يسجله محمد الصفار في رحلته من تفاصيل صغيرة وملاحظات عن أمور دقيقة خلال زيارته يعكس في واقع الأمر حاجته إلى تحويلها إلى معلومات لفائدة الجهة الموجهة إليها الرحلة، التي هي السلطان أو الهيئة المخزنية المحيطة به. فما كان ملاحظات بالنسبة للصفار، الشاهد المباشر، يصبح معلومات عملية بالنسبة للمتلقي، أو دروسًا يتعين الإفادة منها؛ أو لنقل إن تلك الملاحظات هي بمثابة «مطالب» مضمرة تحتاج الأخذ بها على طريق النهوض والإصلاح. نحن ـ إذن ـ إزاء معادلة ثنائية قوامها الحضور والغياب، إذ الحاضر في فرنسا داخل متن الرحلة هو الغائب في الواقع العملي بالمغرب.
بيد أن الرحلة ليس فيها طرف واحد، أي الرحالة أو كاتب الرحلة، بل يوجد فيها طرف آخر هو هنا الجانب الفرنسي. فالصفار، والبعثة التي كان يرافقها، لم تكن حرة في اختيار الأماكن والمواقع التي قامت بزيارتها، بل كانت خاضعة لبرنامج محدد يشرف عليه مسؤولون رسميون فرنسيون، هم الذين كانوا يختارون الأماكن التي يزورها أفراد البعثة. ويصرح الصفار بذلك عندما يقول: «ومن طبعهم أنهم يعجبهم أن يُروا ما عندهم، ولا يتركون شيئًا جليلاً أو حقيرًا إلا أطلعونا عليه، فمن جملة ما فعلوا لنا في هذا النابيوس (المركب الحربي) مما هو في الظاهر فرحة، وفي الباطن تخويف وقرحة»20، وأيضًا عندما يتحدث عن حضور استعراض عسكري بأمر من الحاكم الفرنسي، حيث قال: «ومن بعد الغد أمر لنا السلطان بسرد العساكر، واستدعانا للفرجة فيها مبالغة في إكرامنا والاعتناء بنا ظاهرًا، لأنه لا يفعل ذلك إلا لمن هو عنده في حظوة، وزيادة في تبكيتنا والتنكيت علينا باطنًا»21 . ولعل هذا يستدعي منا طرح تساؤل وجيه: ما الغاية من وضع برنامج مسطر للبعثة المغربية؟.
لقد كان هدف الدولة الفرنسية هو إقناع الدولة المغربية بأهمية التحديث العسكري والتقني، وبأهمية الارتباط بفرنسا من أجل تحقيق تلك الأهداف من خلال توقيع اتفاقيات ومعاهدات ثنائية تجعل المغرب خاضعًا للحكومة الفرنسية في كل مقوماته، ومده بالخبراء والتقنيين الذين يشرفون على إنجاز تلك الطموحات، والحيلولة دون السقوط بأيدي أي دولة أوروبية أخرى من الدول التي كانت تتنافس على الهيمنة على بلدان جنوب المتوسط، ولهذا الغرض كان الإبهار و«التخويف والقرحة» من العناصر المهمة في برنامج الزيارة.
أولى محمد الصفار اهتمامًا واسعًا لكل ما هو من معالم الحضارة الأوروبية الحديثة، المادية مثل وسائل النقل الحديثة والتقنيات العسكرية الجديدة، والرمزية مثل المسرح والفنون ووسائل الترفيه الجديدة. وهو في كل ذلك يحاول أن يعرض نموذجا في مرآة آخر، مدركًا حجم النقص في النموذج المغربي.
استفاد الصفار من السنوات الطويلة التي قضاها في مدينة فاس طالبًا للعلم بجامع القرويين، أعرق الجامعات المغربية والمغاربية التي كان التدريس بها نموذجًا يضرب به المثل، وكانت تخرج العديد من العلماء والفقهاء الذين يقدمون المثال لأبناء المجتمع الآخرين، ويستعين بهم المخزن الحاكم كأطر و«خبراء» في تدبير شؤون المركز والأقاليم، ثم استفاد أيضًا من واقع تجربته العملية في التدريس بمساجد تطوان. غير أن رحلته إلى فرنسا غيرت تمامًا رؤيته لمفهوم العلم، إذ لم يعد العلم لديه مرتبطًا فقط بالجوانب النظرية وبدراسة الفقه والأصول والنحو والبلاغة، بل أصبح يعني دراسة العلوم التقنية الحديثة، وربط التنظير بالتجربة والممارسة.
ومن الأمور التي وقف عليها وهالته بشكل كبير واستولت عليه، تقنية تحلية ماء البحر. فقد قدم وصفًا دقيقًا لتلك التقنية كما تم اطلاعهم عليها، مرفوقة بالشروحات التي قدمت لهم من طرف خبير فرنسي، حيث قال: «فسألنا عن ذلك رئيسه، فأخبرنا بما مضمنه أنهم يقطرون الماء حتى ترتفع ملوحته لأعلى ويبقى الأسفل حلوًا، أو بالعكس، لم أتحقق ذلك منه وقتئذ لعدم فصاحة الترجمان. وذكر لنا في طي ذلك تشبيها، وهو أن ماء المطر يرتفع من البحر وتذهب ملوحته بحر الشمس فكذلك هذا، وحرارة النار تقوم مقام حرارة الشمس. هذا ما ذكر لنا ولم يبلغنا بحقيقة الكيفية، وجربْ ففي التجريب علم الحقائقِ»22.
إن هذا التعليق الأخير من المؤلف دال على أن «علم الحقائق» بالنسبة له هو العلم الذي يستثمر في المادة ويستغلها لتسخير الوقائع الطبيعية لفائدة المجتمع، وليس العلم النظري الذي يقتصر على الشحن والتلقين والاسترجاع، كما كان سائدًا في المناهج الدراسية بالمغرب. إن عبارة «علم الحقائق» هي عبارة تنتمي إلى المعجم الصوفي، ويبدو أن الصفار كانت لديه دراية كافية بواقع الزوايا الصوفية التي كانت منتشرة في مدينة تطوان وبخطابها النظري، خصوصًا الزاوية العجيبية التي تنسب إلى أحمد بن عجيبة، حيث كانت المدينة موطنًا للعديد من أتباع الطرق الصوفية النازحين من الأندلس23. وتوظيف هذه العبارة منه في معرض حديثه عن واحدة من التقنيات التي وقف عليها في زيارته، تعكس موقفه من «الحقائق» باعتبارها ما ينتج عن التجربة الحسية وليس ما يتولد عن التأملات الصوفية.
ونراه في مكان آخر يؤكد هذه الرؤية لحقيقة العلم، منتقدًا بطريقة ضمنية أسلوب التعليم في المغرب وطبقة العلماء والفقهاء، عندما يقول: «والعالم عندهم هو من له قدرة على استكشاف الأمور الدقيقة، واستنباط فوائد جديدة، وإقامة الحجج السالمة من الطعن على ما أبداه، ورد ما عارضه به من عداه، وليس اسم العالم عندهم مقصورًا على من يعرف أصول دين النصرانية وفروعها وهم القسيسون، بل ذلك ربما كان عندهم غير ملحوظ بالنسبة لغيره من العلوم العقلية الدقيقة»24.
استنباط الفوائد الجديدة: تلك هي الكلمات المفتاح عند الصفار لإنجاز النهضة الحضارية المطلوبة، أي مغادرة خيمة التقليد بما هو إعادة إنتاج مستمرة للقديم وخوض مغامرة التجريب لـ«استكشاف الأمور الدقيقة». فما سجله في رحلته عن واقع العلم في فرنسا كان فيه تعريض مباشر بواقع «العلم» في المغرب الذي ظل يدور حول استعادة المتون ودراسة الفروع، بيد أن موقفه ذاك واضح أنه لم يكن يسعى إلى الحط من قيمة طبقة العلماء والفقهاء، الذين هو واحد منهم، بل انتقاد قصر العلم على الطرق التقليدية من دون مغامرة الخوض في الصناعة الحديثة. هذا ما نلاحظه عندما يذكر القسيسين المسيحيين، فكأنه يريد أن يقول بأن مفهوم العلم لا يجب أن يقتصر على طبقة الفقهاء بل يجب أن يتسع ليشمل العلوم الحديثة، لأنه إذا كان العلم الأول مطلوبا من أجل الحضارة، فإن الثاني مطلوب من أجل العمران.
ونرى الصفار يطل على مظاهر «الحضور» في التمدن الفرنسي من موقع المتحسر على مظاهر «الغياب» في التخلف المغربي، فـ«استنباط الفوائد الجديدة» من دلالاته التشجيع على الصنائع والابتكار ومكافأة المبدعين، ورفض التقليد وإعادة إنتاج القديم من العلوم، وارتياد آفاق الاستدلال والبحث، حيث نراه يطري على أهل باريس بسبب هذه الخصلة، يقول: «وأهل باريز موصوفون بذكاء العقل وحدة الذهن ودقة النظر، ولا يقنعون من معرفة الأشياء بالتقليد، بل يبحثون عن أصل الشيء ويستدلون عليه ويقبلون فيه ويردون. ومن اعتنائهم بذلك أنهم كلهم يعرفون القراءة والكتابة، ويدونون في الكتب كل شيء، حتى الصنائع فلا بد أن يكون الصانع يعرف الكتابة والقراءة ليتقن صنعته، ويجب أن يبتدع في صنعته شيئًا لم يُسبق إليه، ولأنه إن فعل زادت مرتبته وعلت حظوته عند دولتهم، ويعطونه على ذلك ويمدحونه ويذكرونه بما استنبط ، ترغيبا منهم في الترقي في الأمور»25.
لقد وقف الصفار على الفجوة الواسعة بين المغرب وفرنسا من خلال رصد وتسجيل تقنيات الحروب الحديثة والمعدات العسكرية الجديدة، وهي الفجوة التي تفسر بالنسبة له الهزيمة التي ألحقتها فرنسا بالمملكة الشريفة في موقعة إيسلي والاتفاقية المذلة التي فرضت عليه عقبها. فهذه التقنيات العسكرية أصبحت تعفي الإنسان من بذل مجهودات بدنية وصارت توفر تنظيمًا أكبر لجهود الحرب: «إنه أرونا كيفية حربهم بالمدافع في هذا المركب، إذا عرض لهم فيه حرب، بينما كل واحد من خدمته ومن يباشر ذلك جالس أو قائم في موضعه الذي هو فيه وهم على غفلة، إذ صاح بهم كبيرهم فأقبلوا جميعًا، وكل واحد جاء قاصدًا لشغله، فصاحب البارود مثلاً جاء قاصدًا لقرطاس البارود، فأخذه وذهب به إلى مدفعه المعين الذي لا يذهب إلا إليه ولا يذهب لغيره، وكذلك صاحب المدق ومن يجبذ المدفع ويدفعه جاء قاصدًا لذلك»، ثم يستطرد: «ومدار ذلك كله على الضبط والحزم والاعتناء التام وعدم الغفلة في الأمور، وإلا فليست لهم قوة في أبدانهم ليست لغيرهم، بل ربما كانوا أضعف من غيرهم في ذلك، وإنما الذي لهم الاعتناء والترتيب الحسن ووضع الأشياء في محلها، ويبنون أمورهم كلها على أصح أساس، ويستعدون للأمور قبل وقوعها، ولا يعرف حقيقة ذلك إلا من شاهده»26.
معضلة النظام السياسي
سجل محمد الصفار في رحلته ملاحظاته ومشاهداته لكل المظاهر المادية للتمدن الغربي الحديث في فرنسا، وكان واضحًا من خلال سرد الوقائع تحسره على التأخر التاريخي الحاصل في بلاده، مقارنة مع التقدم الفرنسي؛ بل ربما كان تحسره مضاعفًا، كونه زار بلدًا أوروبيًا له طبيعة خاصة في علاقته بالمغرب، فهو يحتل الجزائر المجاورة بحيث أصبح مجرد وجوده المادي في الجوار مثار قلق رسمي وشعبي، وهو البلد الذي يتحرش بالسيادة المغربية والنظام الحاكم من خلال اقتطاع أراض مغربية بدعوى إعادة رسم الحدود بينه وبين السلطنة المغربية، ثم هو نفسه الذي ألحق هزيمة مذلة بالبلاد في معركة إيسلي وفرض شروطًا مجحفة بهدف خنق السلطان. كل هذه المعطيات لا بد أنها كانت حاضرة لدى الصفار وهو يصف مشاهداته في باريس.
بيد أن ما شدد عليه في رحلته أكثر من أي مظهر آخر من مظاهر التقدم الفرنسي هو النظام السياسي وأسلوب التدبير الحديث للدولة وتوزيع السلطات مركزيًا ومحليًا، إذ خصص صفحات طوالا لذلك المظهر السياسي الجديد بالنسبة له، وكان يرجع إليه بين الحين والآخر في ثنايا سرده لملاحظاته.
لقد وقف على الصحافة الفرنسية كمظهر من مظاهر الديمقراطية السياسية وعنصر توازن في الدولة بين الحاكم والرعية، إذ سجل أن «لأهل باريز كغيرهم من سائر الفرنسيس بل وسار الروم تشوف لما يتجدد من الأخبار ويحدث من الوقائع في سائر الأقطار، فاتخذوا لذلك الكازيط، وهي ورقات يكتب فيها كل ما وصل إليهم علمه من الحوادث والوقائع في بلدهم أو غيرها من البلدان النائية أو القريبة»27. ويعدد فوائد تلك «الكوازيط» وآثارها الإيجابية على سياسة التدبير: «ولها عندهم فوائد، منها الاطلاع على ما تجدد من الحوادث والأخبار، ومنها أن من ظهر له رأي في أمر من الأمور ولم يكن من أهله، فإنه يكتبه في الكازيطة ويشهر لسائر الناس حتى يطلع عليه ذوو رأيهم، فإن كان سدادا اتبعوه وإن كان صاحبه حقيرا، وهذا مما يستحسن كما قال الشاعر:
لا تحقرن الرأي وهو موافق
وجه الصواب إذا أتى من ناقص
فالدر وهو أجل شيء يقتنى
ما حط قيمته هوان الغائص»28.
ولاحظ الصفار في هذا الباب أن القوانين الفرنسية تحمي صاحب الرأي، بحيث «لا يمنع إنسان في فرنسا أن يظهر رأيه وأن يكتبه ويطبعه، بشرط أن لا يضر ما في القوانين، فإن أضر أزيل. وكان من جملة ما نقموا على ملكهم شارل العاشر الذي كان قبل هذا الملك الموجود الآن، وكان السبب في قيامهم عليه وخلعهم طاعته أنه أظهر النهي عن أن يظهر أحد رأيه أو يكتبه ويطبعه في الكازيطات، إلا إذا اطلع عليه أحد من أهل الدولة، فلا يظهر منها إلا ما أراد إظهاره»29.
وهكذا رأى الصفار أن الصحافة قوام الديمقراطية وسلاح في وجه الظلم الناتج عن استبداد الدولة والحكم الفردي: «وإن جار السلطان فضلاً عن كبير من كبرائهم، أو خرج عن القانون في أمر ما، يكتبونه في الكازيطة ويقولون إنه ظالم وليس على الحق، ولا يقدر أن يقابل من قال ذلك أو فعله بسوء»30. ولنا أن نلاحظ عبارته «من قال ذلك أو فعله»، لكي ندرك كيف كان الصفار يفهم بأن إبداء الرأي السياسي هو بمثابة عمل، وربما كان ذلك ناجما عن خلفيته الدينية التي تعتبر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مجرد أمر نظري بل ممارسة عملية، إذ الحديث النبوي الشهير المعروف في هذا الإطار يتحدث عن التغيير الفعلي: «من رأى منكم منكرا فليغيره».
لقد كان موقفه من الصحافة تعبيرًا عن صدمة حقيقية بالنسبة لرجل قادم من بلد متخلف لا يوجد فيه قانون مكتوب يُتحاكم إليه ولا حرية إبداء الرأي، ليس فقط في مواجهة الدولة المركزية، بل أيضًا في مواجهة مشايخ الزوايا وزعماء القبائل الذين كانوا يعتبرون أن أي فرد يعيش في دائرة نفوذهم الترابي هو بمثابة مريد تابع لا مواطن مكتمل المواطنة. لذلك نجده يعبر عن صدمته الكبرى مما تنشره الصحف الفرنسية من انتقادات للسلطة ومن أخبار الفضائح السياسية، إلى حد أنه قال بكثير من المبالغة تعكس حالة المفاجأة والذهول: «حتى إن أحدهم قد يصبر على الأكل والشرب ولا يصبر على النظر في الكازيطة»31.
لكن الصدمة الكبرى هي تلك التي حصلت للصفار خلال زيارة «القمرتين»، والمقصود بهما مجلس الشيوخ ومجلس النواب في البرلمان الفرنسي. واستعمل الصفار كلمة «القمرة» للإشارة إلى كل من غرفتي البرلمان، بما تعنيه الكلمة من طاقم القيادة، كأنه يريد القول بأن فرنسا تقاد بشكل جماعي لا بشكل فردي كما هو الحال في المملكة المغربية. غير أن مفهومه للبرلمان الفرنسي والحكومة ظل أسير المفهوم التقليدي للشورى، بما هي مهمة طائفة خاصة تسمى في الفقه السياسي الإسلامي التقليدي بأهل الحل والعقد توجد بجانب الخليفة أو السلطان، ففي أفقه المعرفي لم يكن بإمكانه أن يفهم النظام الديمقراطي إلا باعتباره شورى موسعة، إذ رأى أن هدف النظام السياسي الفرنسي هو مساعدة السلطان على التدبير، حيث قال: «وبيان ذلك أنهم رأوا أن السلطان وحده لا يستقل بأمور الرعية كلها، فأراحوه من تكلف المشقة في ذلك، واتخذوا عدة أناس سموهم وزراء، وكلفوا كل واحد بأمر خاص وجعلوا نظره قاصرا عليه»32.
عوائق التمدن المغربي
هل كان الصفار وهو يسجل وقائع رحلته ويدون «الحاضر» الفرنسي الذي يقابل «المغيب» المغربي يتكلم بلسانه أم بلسان الجماعة؟ هل تغلب فيه الفقيه على الموظف المخزني أم العكس؟.
من البين أن محمد الصفار كان يستبطن رغبة البحث عن تمدن مغربي مرغوب فيه، ويسعى إلى تقديم صورة حقيقية عما رآه في فرنسا لتقديمها إلى السلطان المولى عبدالرحمن والنخبة المخزنية التي لا يمكن لأي إصلاح سياسي أو اقتصادي في البلاد أن يتم من دون دعمها، ولكن المؤكد أن ملاحظاته لم تؤخذ بعين الاعتبار وأن الرحلة التي دونها قد وضعت على الرف بسبب وجود طبقة من النافذين المحيطين بالمخزن لا تريد أي إصلاح، ويفسر عبدالله العروي ذلك الإهمال الذي لقيته رحلة الصفار والرحلات التي تمت بعده بعدم وجود اهتمام بها لدى الدولة وغياب أي إرادة في «نقلها والإشارة إليها ومناقشتها»33.
إننا نعتبر أن رحلة الصفار كانت تمثل برنامج الحد الأدنى للإصلاح السياسي في مغرب النصف الأول من القرن التاسع عشر، إصلاح يوفق ما بين مظاهر التمدن الأوروبي من خلال النموذج الفرنسي، ومعطيات القيم الدينية والثقافية الإسلامية للمغرب، وفي قلبها قيمة الشورى بوصفها آلية متحركة قابلة للتطوير والتجديد والتوسيع. بيد أن ما كان يفتقد إليه الصفار، الذي كان يتوفر على الحماسة الوطنية والثقافة الدينية الرصينة التي جعلته لا ينبهر بالجوانب القيمية في الحضارة الفرنسية انبهاره بالمنتجات المادية، هو الوعي السياسي بالمرحلة.
صحيح أن طبقة التجار المغاربة الكبار كانوا قد اطلعوا على الواقع الأوروبي قبل تاريخ رحلة الصفار، ولكن هؤلاء لم يكونوا قادرين على تشكيل بورجوازية وطنية يمكنها المساهمة في الإصلاح الاقتصادي والسياسي، وكان الكثير منهم قد حصل على حماية واحدة أو أكثر من البلدان الأوروبية التي لديها مصالح في المغرب، بهدف خلق طبقة اجتماعية تتحلق حولها وتخدم مصالحها، وكان هؤلاء شوكة في أقدام الدولة بحيث يمكنهم إعاقة الإصلاح والتجديد، ومواجهتها إذا تعارضت مصالحهم مع مصالحها34.
ومن عوائق الإصلاح التي حالت دون التعامل الإيجابي مع برنامج الرحلة، أو الرحلة البرنامج، غياب الدولة الوطنية الحديثة بالمغرب، وعدم وجود نظام مركزي فعلي لأن السلطة السياسية كانت موزعة ما بين السلطان في المركز وزعماء القبائل وشيوخ الزوايا، وهو ما سيقود إلى حالة الفوضى أو السيبة التي فتحت الباب أمام الحماية الفرنسية عام 1912. فقد ظل المخزن التقليدي الموروث هو من يشرف على قيادة الأمور في البلاد بالرغم من إشرافه على نهايته وانتهاء إمكانياته الوظيفية. ولم يكن المخزن في حقيقة الأمر سوى شبكة من الموظفين الكبار الذين يرتبطون في ما بينهم عبر تحالفات عائلية ويدينون بالولاء لتلك التحالفات أكثر مما يدينون إلى المخزن نفسه35.
الهوامش:
1-1 Fernand Braudel : Les ambitions de l’Histoire. Editions de Fallois, 1997. P 470.
2 – Edward Said : Orientalism. London, Penguin Books 2003. P 49.
3 -María Rosa de Madariaga : Historia de Marruecos. Madrid, Los libros de la Catarata, 2017. P 99.
4 ـ يشير مصطلح المخزن في المغرب إلى مكونين أساسيين في بنية الدولة التقليدية، هما الجيش وجهاز الموظفين والأعوان، بمن فيهم العلماء المحيطون بالسلطان. ينظر:
– Abdallah Laroui : Les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain (1830-1912). Casablanca, Centre culturel Arabe, 2001. Pp 81- 87.
5 ـ عبدالله العروي. مصدر مذكور. ص 215.
6 ـ العروي. مرجع مذكور. ص 215.
7 ـ العباس بن إبراهيم السملالي: الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام. مراجعة: عبدالوهاب ابن منصور.
المطبعة الملكية، الرباط. الطبعة الثانية، 1997. الجزء السابع. ص ص 34-35.
8 ـ صدفة اللقاء مع الجديد: رحلة الصفار إلى فرنسا (1845ـ 1846). دراسة وتحقيق: سوزان ميلار. تعريب ومشاركة في التحقيق: خالد بن الصغير. جامعة محمد الخامس، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. الطبعة الأولى 1995. ص ص 52- 53.
9 ـ المرجع نفسه. ص ص 54-55.
10 ـ المرجع نفسه. ص ص 60-61.
11 ـ ثريا برادة: الجيش المغربي وتطوره في القرن التاسع عشر. جامعة محمد الخامس، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. الطبعة الأولى 1997. ص ص 143-144.
12 – Michel Abitbol : Histoire du Maroc. Paris, Editions Perrin, 2009. P 341.
13 ـ المرجع نفسه. ص 344.
14 ـ إبراهيم حركات: المغرب عبر التاريخ. الدار البيضاء، دار الرشاد الحديثة. الطبعة الثالثة 2002. الجزء الثالث: من نشأة الدولة العلوية إلى إقرار الحماية. ص 191.
15 ـ المرجع نفسه. ص 192.
16 ـ الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى. أبو العباس أحمد بن خالد الناصري. تحقيق وتعليق: جعفر الناصري ـ محمد الناصري. دارالكتاب، الدار البيضاء، 1956. القسم الثالث: الدولة العلوية. الجزء التاسع. ص 45.
17 ـ إبراهيم حركات. مرجع مذكور. ص ص 204- 206.
18 ـ محمد المنوني: مظاهر يقظة المغرب الحديث. الرباط، مطبعة الأمنية. الطبعة الأولى 1973. الجزء الأول. ص ص 13 – 15.
19 ـ صدفة اللقاء مع الجديد. مذكور سابقًا. ص 227.
20 ـ نص الرحلة. ص ص 135 ـ 136.
21 ـ نص الرحلة. ص 194.
22 ـ نص الرحلة. ص 135.
23 ـ عبدالمجيد الصغير: إشكالية إصلاح الفكر الصوفي في القرنين 18/19م. أحمد بن عجيبة ومحمد الحراق. المغرب، دار الآفاق الجديدة. الطبعة الثانية 1994. الجزء الأول. ص ص 77 ـ 79.
24 ـ نص الرحلة. ص 217.
25 ـ نص الرحلة. ص ص 166 ـ 167.
26 ـ نص الرحلة. ص 136.
27 ـ نص الرحلة. ص 161.
28 ـ نص الرحلة. ص 162.
29 ـ نص الرحلة. ص 163.
30 ـ نفسه.
31 ـ نفسه.
32 ـ نص الرحلة. ص 216.
33 ـ عبدالله العروي. مرجع مذكور. ص 215.
34 ـ مصطفى بوشعراء: الاستيطان والحماية بالمغرب (1863 ـ 1894). المطبعة الملكية بالرباط، 1984. ص ص 60 ـ 63.
35 ـ مصطفى الشابي: النخبة المحزنية في مغرب القرن التاسع عشر. منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. الطبعة الأولى 1995. ص 119.
عدد التحميلات: 0