
محمد عابد الجابري وجابر عصفور… وتأسيس حداثة عربية
ما هو الجامع المشترك بين محمد عابد الجابري وجابر عصفور؟ الأول مثقف مغربي تخصص في الفلسفة العربية الإسلامية والثاني مثقف مصري تخصص في التراث النقدي والبلاغي، فضلًا عن مساهماته في النقد الأدبي نظريًا وعمليًا. هذا السؤال عن أوجه التشابه بينهما قد يفقد وجاهته أو مشروعيته على الرغم من التباين الظاهر بين ميدان اشتغالهما إذا تم النظر فيه بعناية وتدقيق. ذلك أن القراءة الفاحصة المتأنية لكتابات كل من الجابري وعصفور ستكشف أن الرابط بينهما لا يقتصر فقط على الموقف من إشكالية التراث وتأثيره على الفكر العربي المعاصر، بل يتعدى ذلك ليشمل توافقًا فكريًا وتكاملًا في مشروعيهما. وكأن كل منهما قد اشتغل في مجاله الخاص – الجابري في الفلسفة والفكر، وعصفور في النقد الأدبي – لتحقيق هدف واحد، هو تأسيس حداثة عربية من خلال تجديد ونقد التراث من الداخل، قراءة التراث بعقل نقدي على ضوء معطيات ومكتسبات المناهج العلمية المعاصرة.
إذا اعتمدنا على التحقيب الزمني لخطاب الحداثة في الفكر العربي، كما قدمه عبد الإله بلقزيز في كتابه الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية: «من النهضة إلى الحداثة» (بيروت، الطبعة الثالثة، يناير 2020)، يمكننا تصنيف محمد عابد الجابري وجابر عصفور ضمن الجيل الثالث من الحداثيين، وهو الجيل الذي بدأ حضوره الفكري في التشكل في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. ورغم أن الإنتاج الفكري الأساسي لهذا الجيل ظهر ما بين منتصف الستينيات وبداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فإن أبرز رموزه وُلدوا بين منتصف العشرينيات وبداية الأربعينيات من القرن الماضي، من أمثال ناصيف نصّار، علي أومليل، عبدالله العروي، ياسين الحافظ، وهشام جعيّط. وفي هذا السياق، وُلِد محمد عابد الجابري عام 1935، بينما وُلِد جابر عصفور عام 1945.
يتميز هذا الجيل، وفقًا لبلقزيز، بارتباطه العميق بمصادر الفكر الغربي والتيارات الحداثية، على نحو يفوق الجيل الأول والثاني من المفكرين الحداثيين. كما أنه تفرغ للاشتغال في مجالات تخصصه، مما مكّنه من إنتاج خطاب حداثي تجاوز خطاب النهضة التقليدي عند الجيلين السابقين. فقد أعاد الجيل الثالث طرح إشكالية النهضة، لكن من منظور نقدي تركيبي، متسائلًا عن أسباب تعثر المشروع النهضوي العربي، وكيفية إعادة قراءة التراث، وسبل استيعاب الفكر الإنساني الحديث وكيف نُؤسّس حداثةً من داخل الثقافة العربية الإسلامية نفسها.
هذه الإشكالات بعينها شكّلت جوهر انشغال واهتمام كل من محمد عابد الجابري وجابر عصفور، كلٌّ في حقل اختصاصه ووفق أدواته المعرفية. فقد كانا يتقاسمان، مع غيرهما من ممثلي هذا الجيل، هاجسًا منهجيًا مشتركًا حول كيفية مقاربة التراث: كيف يمكن فصل الذات القارئة عن موضوع قراءتها، التراث. وفي نفس الوقت وصله بها أي ربطه بسياق ومجتمع الذات القارئة، بحاضرها؟ كيف يمكن للذات القارئة ممارسة قراءة موضوعية نقدية عقلانية لهذا التراث؟
وإذا كان الجابري يمثل مدرسة فكرية ذات سلطة ثقافية بارزة في الخطاب العربي المعاصر، فإنه، إلى جانب جابر عصفور، يشكلان تيارًا فكريًا ومنهجيًا متماسكًا، يتميز بوحدة الإشكالية، ووحدة المنهج، ووحدة المنظور.
I – وحدة القراءة أو وحدة الإشكالية
ينظر محمد عابد الجابري وجابر عصفور إلى التراث كبنية فكرية متكاملة، لا تقبل التجزئة، بل كوحدة سياقية شاملة تتسم بالتنوع والتعدد داخل حقولها المعرفية، لكنها في الوقت نفسه مترابطة بعلاقات عضوية تُبرر وحدة القراءة، رغم اختلاف التطبيقات. فالعقل العربي، من وجهة نظرهما، يتمثل في أنساق معرفية ترتبط أجزاؤها بعلاقات بنيوية، وتجيب عن إشكالية مركزية واحدة.
فمثلًا، يرى الجابري أن تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية، رغم ما يبدو عليه من التشتت، يجب أن يُقرأ كوحدة تعالج إشكالية واحدة هي التوفيق بين العقل والنقل، بين الفلسفة والدين. وينطبق الأمر نفسه على التراث النقدي والبلاغي عند جابر عصفور، حيث يرى أن قراءته لا يمكن فصلها عن القراءة العامة للتراث، بل إنها جزء من بنية واحدة تُقرأ ضمن سياقها التاريخي والاجتماعي والسياسي.
بهذا التصور، يُدرج جابر عصفور التراث النقدي والبلاغي في قلب إشكالية التراث، ويُقاربها بوصفها إشكالية النهضة. هذه القراءة للتراث النقدي تحقق تحولا مهما في تاريخ النقد الأدبي العربي. لم يعد النقد الأدبي العربي الحديث والمعاصر يتعامل مع النقد الأدبي القديم كاتجاهات أو قضايا أو ظواهر متفرقة متناثرة متجزأة أو جزئية تتعاقب أو تتوالى في الزمن دون رابط بينها أو وحدة وانسجام. وإنما صار النقد الأدبي القديم مادة حية تعبر عن مشكلات عصرها وفي نفس الوقت تتفاعل مع مشكلات الحاضر. لقد نظر إلى قضايا النقد الأدبي، قديمه وحديثه، باعتبارها مشكلات فكرية متشابكة تكوّن إشكالية واحدة. وهنا يتحول النقد الأدبي القديم من مادة جامدة ساكنة إلى مجال حيّ يعكس قضايا عصره ويتفاعل مع مشكلات الحاضر.
لكن القول بوحدة القراءة لا يعني تطابق وجهات النظر أو وحدة الموضوعات، لأن كل قراءة هي تأويل مشروط بسياقها التاريخي وبأسئلتها المعاصرة. لذلك، يدعو كل من الجابري وعصفور إلى قراءة التراث في سياقه التاريخي والاجتماعي، ما يُفضي إلى تأكيد نسبيته وإلى نزع طابع التقديس عنه، بوصفه مادة قابلة للنقد والمراجعة.
قراءة التراث في تاريخيته، أي في سياقه الاجتماعي والتاريخي، على ضوء الصراعات الإيديولوجية والسياسية والاجتماعية التي عرفها المجتمع العربي والإسلامي تؤكد نسبية قراءة هذا التراث. لكن هذه النسبية لا تتعارض بالنسبة للجابري وجابر عصفور على حد سواء مع مفهومهما للموضوعية التي ينشدان تحقيقها لقراءة التراث قراءة عقلانية نقدية «علمية».
الهدف من هذه القراءة التاريخية ليس نفي الموضوعية، بل إعادة تعريفها ضمن إطار العلوم الإنسانية، بوصفها موضوعية نسبية. فالموضوعية هنا لا تعني الحياد المطلق، كما أن النسبية لا تعني الذوبان الكامل للذات القارئة في موضوعها، بل تعني الوعي بالعلاقة الجدلية بين الذات والموضوع. يقول الجابري في هذا السياق: «إن الموضوع هنا هو شيء منا أو نحن شيء منه… وكل أملنا هو أن نتمكن من الصدور عن التزام واعٍ لا عن اندماج مشيء للفكر المعطل للعقل»(1).
ولتحقيق قراءة «معاصرة» للتراث، استند الجابري إلى مفهوم «القطيعة الإبستمولوجية» كما صاغه باشلار، ودعا إلى قطيعة معرفية مع بنية العقل العربي في عصر الانحطاط، ساعيًا إلى تصفية «الرواسب التراثية» التي تعيق مشروع العقلنة. لكنه لم يدعُ إلى قطيعة شاملة مع التراث، بل مع نمط معين من قراءته، أي «الفهم التراثي للتراث»، للانتقال من “كائنات تراثية” إلى «كائنات لها تراث».
والغرض من توظيف مفهوم القطيعة المعرفية عند الجابري هو تأسيس قراءة علمية نقدية للتراث تتجاوز القراءات السابقة والمعاصرة (القراءة السلفية الدينيةـ القراءة الليبرالية الاستشراقيةـ القراءة اليسارية الماركسية). فهذه القراءات في نظر الجابري «تُغَيِّبُ الحاضر وتفتقد الموضوعية والعقلانية، وتعاني من غياب الرؤية التاريخية»(2).
في المقابل، وجد جابر عصفور ضالته المنهجية في فكر لوسيان غولدمان، وتبنّى مفهوم «الوحدة الجزئية بين الذات والموضوع»(3)، مما يعني أن القارئ لا يمكن أن ينفصل كليًا عن موضوعه، لكن عليه أن يحقق توازنًا نسبيًا يحفظ للقراءة طابعها الموضوعي. وبناءً على هذا، دعا عصفور إلى تجاوز القراءات الذاتية والانطباعية، مثل تلك التي تبنّاها طه حسين والاتجاه الليبرالي، أو تلك التي تسعى إلى «إحياء الماضي بشكل يطمس البعد التاريخي ويُسقِط الماضي على الحاضر»(4).
بهذا المعنى، يلتقي الجابري وعصفور على أرضية منهجية وفكرية واحدة، قوامها نقد العقل والوعي العربي، ومحاولة تأسيس حداثة عقلانية عربية، تتعامل مع التراث بمنظور نقدي تركيبي، يعترف بإشكالياته دون أن يخضع له، ويستثمره دون أن يقدسه.
II – وحدة المنهج
لا نكون بعيدين عن الصواب إذا وصفنا المنهج الذي اعتمده محمد عابد الجابري في استقراء بنية الثقافة العربية الإسلامية، والمنهج الذي وظّفه جابر عصفور في قراءته للنقد الأدبي العربي، بأنه المنهج البنيوي التكويني الذي بلوره لوسيان غولدمان. فمقاربة هذين المثقفَين تستمد مضمونها وروحها من هذا المنهج، الذي ينتمي إلى التيار الإنساني الهيغلي في الفلسفة الماركسية، ويقوم على تكامل معارف متعددة تشمل الجدلية المادية، والتحليل البنيوي، ونظريات التحليل النفسي.
انطلاقًا من هذا الأساس المنهجي، تتشكّل قراءتا محمد عابد الجابري وجابر عصفور، وتظلان الإطار المرجعي الذي تتحركان ضمنه. ورغم ذلك، يتميز الجابري – كما سنرى لاحقًا – بقدر واسع من الحرية في توظيف أدواته المعرفية والإجرائية، مما يمنح قراءته مرونة منهجية تسمح له بإعادة تشكيل المفاهيم وتحليل البُنى الفكرية ضمن منظور نقدي مركب. ولعلّ هذه المرونة ذاتها هي التي دفعت عددًا من النقاد إلى وصف منهجه بالنقد الإبستمولوجي أو التاريخي.
هكذا تقوم قراءة الجابري وجابر عصفور على العناصر التالية.
1 – العنصر الأول: الفهم البنيوي للنص
يتجلى هذا العنصر، أو ما يُسميه لوسيان غولدمان بعملية فهم بنية النص، في التركيز على الكشف عن الوحدة الداخلية للنص والعلاقات الأساسية التي تربط بين عناصره. فلا يمكن إدراك بنية النص إلا من خلال دراسة هذه العلاقات التي تمنح كل عنصر دلالته ووظيفته داخل البنية الكلية. فوظيفة كل عنصر لا تستمد معناها من وجوده المستقل، بل من موقعه داخل شبكة من العلاقات التي تشكل النظام الكلي للنص.
ويقوم هذا الفهم البنيوي على محاولة اكتشاف النسق الثابت الكامن خلف التعدد الظاهري للنص، والبحث عن البنية «الخفية» التي تنظّم هذا التعدد وتضبط العلاقات بين أجزائه المتباينة. ولا يمكن إدراك الأجزاء إلا ضمن هذه المنظومة التي تكشف عن الدور التكويني لكل عنصر في بناء متكامل مترابط.
وقد عبّر جابر عصفور عن هذا التصور بقوله: «ينبغي النظر إلى العناصر التكوينية للنص بوصفها عناصر في بناء لا ينفصل فيه جزء عن كل، ولا يكتسب فيه الجزء دلالته إلا داخل علاقات أوسع تحكم بنية النص»(5).
هكذا، ينظر محمد عابد الجابري وجابر عصفور إلى التراث بوصفه بنية كلية، أو نصًا كليًا واحدًا يُعبّر عن إشكالية موحدة في فترة تاريخية معينة. ويسمي الجابري هذا الفهم بـ«المعالجة البنيوية»، حيث يتعامل مع فكر صاحب النص ككل غير مجزّأ، تحكمه ثوابت كبرى تعالج إشكالية واحدة.
يقول الجابري: «تاريخنا الثقافي إذن في حاجة إلى إعادة كتابة، لا بل إلى قراءة جديدة تنظر إلى الأجزاء من خلال الكل، وتعمل على إبراز الوحدة من خلال التعدد، وتعتمد في التصنيف على البنية الداخلية لا على المظاهر الخارجية وحدها»(6).
كما يكشف الجابري عن البنية العميقة التي تحكم العقل العربي، وهي بنية تعبّر – بطريقة لاشعورية – عن ثوابت الثقافة العربية، التي تنتظم داخل ثلاثة أنساق معرفية كبرى: البيان، والعرفان، والبرهان.
ولا يختلف جابر عصفور عن الجابري في اعتماده على فرضية هذا العنصر البنيوي. فهو يرى أن التراث النقدي والبلاغي جزء لا يتجزأ من التراث العربي ككل. يقول: «كل نص من نصوص التراث النقدي لا يمكن عزله عن غيره من النصوص، فالتراث النقدي وحدة سياقية واحدة داخل وحدة سياقية أوسع هي التراث كله»(7).
وفي نفس السياق، يعتبر أن كتابات ابن المعتز «نص متكامل، ولكن لا يمكن فهم دلالة هذا النص إلا في سياق أوسع لهذا النص المتكامل من ناحية والتي تصل هذا النص بسياق أوسع من نصوص أخرى في مجالات الإبداع والفكر والمنظور السياسي الاجتماعي في القرن الثالث من الهجرة»(8). كما يرى في كتابات طه حسين، خاصة كما يعرضها في «المرايا المتجاورة»، نص كلي واحد أو وحدة متكاملة متماسكة تعبر عن صيغة تكوينية تابثة تحكم الفكر النقدي لطه حسين رغم اختلاف وتعدد طبيعتها.
2 – العنصر الثاني: التفسير وربط البنية بسياقها
لا يقتصر المنهج البنيوي التكويني على فهم البنية الداخلية للنص وعلاقات أجزائه بالكل، بل يتجاوز ذلك إلى تفسير هذه البنية ضمن بنية أوسع وأشمل. فالنص، في هذا المنظور، ليس بنية منغلقة على ذاتها، بل بنية منفتحة ومرتبطة بالسياق الاجتماعي والتاريخي والإيديولوجي لعصرها. إنها تؤدي وظيفة إيديولوجية داخل المجتمع الذي نشأت فيه، وتعكس – عبر بنيتها – النسق المعرفي والبنية الذهنية اللاشعورية التي تعبّر من خلالها عما يسميه لوسيان غولدمان بـ «رؤية العالم».
تُعد «رؤية العالم» مفهومًا وظيفيًا وإجرائيًا طوره غولدمان في كتابه الإله الخفي (9)، وهي تمثل شكلًا من أشكال التعبير المتماسك عن تطلعات وطموحات جماعة اجتماعية أو طبقة معينة، يتم التعبير عنها من خلال ذات فردية متميزة، كالمفكر أو الأديب، تتجاوز ذاتها الفردية لتصل إلى ما يسميه غولدمان بـ«الوعي الممكن». فعندما يبلغ هذا الوعي الممكن درجة من التماسك الداخلي والتصور المتكامل للمشكلات والحلول، فإنه يتحوّل إلى «رؤية للعالم»، تعبّر عن الوعي الجماعي للجماعة المنتجة للنص والمتلقية له في آن.
يستثمر جابر عصفور هذا المفهوم ويوظفه بوضوح في قراءته للتراث النقدي والبلاغي، حيث يرى أن الأنساق المعرفية تمثل «رؤى للعالم»، أي «مجموعات مترابطة من أبنية المقولات التي تحكم الوعي الجماعي للمجموعات القارئة والمتلقية للنصوص، كما تحكم الوعي الجماعي للمجموعات المنتجة لها، وتوجّه قدراتهم القرائية والإنتاجية على السواء»(10).
بناءً على ذلك، فإن كتابات ابن المعتز البلاغية والنقدية، حسب جابر عصفور، تعبّر عن «رؤية للعالم» تتصل اتصالًا وثيقًا بالموقف الفكري العام لتيار القدماء، وتحديدًا التيار النقلي الذي يمثّله اللغويون من جهة، وأصحاب الحديث من أهل السنة والجماعة من جهة أخرى. وتتماهى هذه الرؤية مع الوعي الاجتماعي السائد لدى الفئة الحاكمة التي ينتمي إليها ابن المعتز طبقيًا، حيث تسعى إلى تبرير شرعية السلطة ودعم مواقفها السياسية والإيديولوجية.
وفي كتابه المرايا المتجاورة، يربط جابر عصفور بين الفكر النقدي لطه حسين وتيار فكري عام ساد في المجتمع المصري ما بين الحربين العالميتين، خصوصًا بعد ثورة 1919. فقد ارتبط هذا التيار بفكرة الحرية والفردانية، وهي فلسفة تعبّر عن وعي جيل بأكمله، كان طه حسين أحد أبرز ممثليه. وهذا الربط بين الفكر والنقد من جهة، والسياق الاجتماعي والتاريخي من جهة أخرى، يُفهم في ضوء اعتبار النقد محاولة لإيجاد حلول لإشكالات تواجه المجتمع والناقد في آن، باعتبار الأخير فردًا مميزًا ومتفاعلًا مع واقعه.
أما محمد عابد الجابري، فمع أنه لا يتبنى بشكل مباشر مفهوم «رؤية العالم» كما صاغه غولدمان، إلا أنه يستلهم المنهج البنيوي التكويني، خاصة في بعده التفسيري. فهو لا يطبق منهج غولدمان بحذافيره، بل يوظف آلياته لقراءة الفكر العربي الإسلامي في علاقته بسياقه التاريخي والاجتماعي. فالفكر، حسب الجابري، له وظيفة إيديولوجية، والكشف عن هذه الوظيفة هو ما يمنحه معاصرته الحقيقية؛ أي أنه فكر مرتبط بعصره وواقعه، ويعبر عن هموم وصراعات وتناقضات مجتمعه، كما يمكن أن يصبح معاصرًا لنا نحن أيضًا – نحن القرّاء – إذا ما أعدنا توظيفه في ضوء أسئلتنا وإشكالاتنا المعاصرة.
فما يسميه الجابري في كتابه نحن والتراث بـ«التحليل التاريخي» – أي ربط فكر صاحب النص بمجاله التاريخي – و«الطرح الإيديولوجي» – أي الكشف عن الوظيفة السياسية والاجتماعية التي أدّاها هذا الفكر – يوازيان ما يسميه غولدمان بـ«التفسير»، أي ربط بنية النص بسياقه الاجتماعي والتاريخي، والكشف عن وظيفتها في الصراع الإيديولوجي داخل المجتمع المنتج لها.
إنّ المضمون الإيديولوجي للفلسفة الإسلامية، حسب الجابري، لا ينفصل عن التناقضات الأساسية التي عرفها المجتمع الإسلامي. فالفارابي، على سبيل المثال، يُعبّر بطريقة واعية عن طموحات ومخاوف القوى الاجتماعية الصاعدة في عصره، وتحديدًا القوى الأرستقراطية التجارية، ممثلًا بذلك صوتًا فلسفيًا يعكس تطلعاتها.
3 – توظيف مفاهيم إجرائية متنوعة
إذا كان المنهج البنيوي التكويني هو الإطار المرجعي الأساسي الذي يتحرك في سياقه كل من محمد عابد الجابري وجابر عصفور، فإن الجهاز المعرفي لكلا المفكرين متنوع ومتعدد، ولا يستمد مفاهيمه حصريًا من هذه النظرية. فكلاهما يوظف مفاهيم مستمدة من مناهج فكرية متعددة، لا سيما الجابري، الذي استعار مفاهيم تنتمي إلى مدارس فكرية وفلسفية مختلفة ومتباينة، متأثرًا بمفكرين بارزين مثل كانط، باشلار، ألتوسير، فوكو، جورج لوكاتش، ولوسيان غولدمان، وغيرهم.
لم يعتمد الجابري على المنهج البنيوي التكويني بحذافيره، ولم يتقيد حصريًا بمنهج واحد، بل تعامل مع المفاهيم بحرية واسعة، مفصولًا عن سياقها المرجعي الأصلي، مستهدفًا طابعها الإجرائي الوظيفي. فقد استخدم مجموعة من المفاهيم كأدوات تحليلية عملية وبراغماتية، لا يهمه في توظيفها سوى فعاليتها الإجرائية وقابليتها للاستخدام، دون التقيّد بالدلالات التي منحتها لها أطرها المرجعية الأصلية أو السياقات التاريخية التي ظهرت فيها.
فعلى سبيل المثال، استلهم من الإبستمولوجيا مفهوم نقد المعرفة ووظفه في نقد العقل العربي، أي في تحليل أنماط التفكير السائدة. كما استعار من ميشيل فوكو مفهوم «الإبستيمي» أو النظام المعرفي، إضافة إلى مفاهيم أخرى مثل الأبنية اللاشعورية، الذات والموضوع، والفعل العقلي. وكما هو الحال مع جابر عصفور وغيره من المثقفين العرب الحداثيين، كان اهتمام الجابري منصبًا على توظيف المناهج الفكرية المعاصرة لإضفاء الطابع العقلاني والمصداقية العلمية على قراءته للتراث، بهدف تقديم تأويل حداثي جديد لهذا التراث، يساهم في تأصيل قيم الحداثة في الوعي الثقافي العربي.
ويبدو أن الملاحظة التي أوردها جابر عصفور حول مشروع طه حسين النهضوي تنطبق أيضًا على الجابري وعصفور نفسيهما؛ فكلاهما، كما يقول عصفور، «يتنقل بين المناهج والنظريات، وبين التصورات والإجراءات، كما يتنقل المسافر بين العربات والمحطات، في رحلة طويلة وشاقة، لا يعنيه من هذا التنقل سوى بلوغ محطة الوصول»(11). أما محطة الوصول بالنسبة للجابري وعصفور، فهي بناء حداثة عربية عقلانية نقدية تستند إلى سلطة العقل، بهدف تحقيق الاستقلال التاريخي للذات العربية.
III – وحدة المنظور
يشترك محمد عابد الجابري وجابر عصفور في وحدة الرؤية والمنظور الذي ينطلقان منه في قراءة التراث. فكلاهما يصدر عن خلفية إيديولوجية وفكرية واحدة، تهدف إلى تجديد التراث ونقده، وتأسيس حداثة عربية تنبع من داخل الثقافة العربية الإسلامية. كل منهما يدعو إلى إرساء فكر نقدي قائم على العقل والتفكير العقلاني، ونبذ التقليد، وتجاوز الجمود الفكري، وإخضاع التراث للمساءلة والمراجعة النقدية. طبعًا هناك اختلافًا بين الرجلين، خاصةً على صعيد الانتماء السياسي وطبيعة العلاقة مع السلطة. فقد كان محمد عابد الجابري مثقفًا ذا توجّه يساري تقدّمي، ارتبط بحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في المغرب، مع محافظته على قدرٍ من الاستقلالية النقدية تجاه السلطة، مما جعله يحتل موقع المثقف الملتزم المنخرط في الشأن العام من خارج مؤسسات الدولة. أما جابر عصفور، فقد تحرّك ضمن أفق ليبرالي ثقافي، واندمج في مؤسسات الدولة المصرية، بل تولّى مناصب رسمية رفيعة، أبرزها وزارة الثقافة، مما جعله أقرب إلى خطاب الدولة التحديثي وخياراتها في إدارة الشأن الثقافي. لكن رغم هذا التمايز في التموضع والسياق، فإن هذا الاختلاف لا يمس جوهر مشروعهما الفكري يمارسان معًا قراءة حداثية عقلانية للتراث، تنظر إلى الإنسان باعتباره ذاتًا فاعلة، تتميز باستخدام العقل والعقلانية، ليس بالمعنى الأخلاقي، بل بالمعنى الفلسفي الذي يجعل من العقل «أداة للتحليل والتفسير، ومرجعًا ومعيارًا للحكم على الأشياء، أي ما يُعرف بالنزعة العقلانية الإنسانية»(12).
يمارس الجابري وعصفور قراءة تأويلية انتقائية للتراث، لا تتجه نحو القطيعة معه ولا تقبله جملة وتفصيلًا، بل تنفتح عليه من الداخل. فالتجديد لا يمكن أن يتم إلا من داخل التراث، من خلال استدعائه واسترجاعه استرجاعًا معاصرًا. غير أن هذه القراءة لا تمنح المعاصرة لكل مكونات التراث، بل تميّز بين ما يستحق الاستدعاء وبين ما ينبغي تجاوزه.
فالجابري يعيد ترتيب مكونات التراث، مستثمرًا ما يسميه «أرقى مراحل التقدم» فيه، بينما يركّز عصفور على مواطن الخصوبة والتجديد، على الجوانب المضيئة والإيجابية، بهدف إحياء هذه العناصر وتثبيت قيم الأصالة والعقلانية والحداثة في الوعي العربي المعاصر، وبناء جسور بين الماضي والحاضر، بما يساعد على تجاوز التخلّف والانخراط في مسار التقدّم العالمي.
وفي مقابل هذه العناصر «الحداثية»، يدعو كل من الجابري وعصفور إلى استبعاد مواطن الزيف والجمود واللامعقول في التراث. فالجابري يرى أن النظام البرهاني، الذي يقوم على العقلانية والمعقولية، في منظور الجابري، هو أرقى أشكال المعرفة في التراث العربي الإسلامي ويمثله ابن رشد، الذي يُعتبر رمزًا للعقلانية الفلسفية الأرسطية. في المقابل، يمثل النظام العرفاني اللامعقول العقلي في الثقافة العربية الإسلامية، هو نظام دخيل استُمد من الثقافات الهرمسية والغنوصية والأفلاطونية المحدثة. ويمثل هذا التيار في رأيه، ابن سينا الذي يصفه بأنه غنوصي هرمسي روحاني يتعارض مع المنطق والعقل.
أما جابر عصفور، فيجد في تيار المحدثين في الشعر العربي، ممثلًا في بشار بن برد وأبي نواس وأبي تمام، وفي الاتجاه العقلي الاعتزالي، أبرز تعبير عن الأصالة العقلانية في التراث. فالجانب المزدهر في الحضارة العربية الإسلامية ظل قرين ازدهار العقل والعلم على السواء حسب منظوره. فالحرية هي التي تفتح أبواب الإبداع والابتكار والخلق والتجديد وشيوع الفكر العقلي النقدي في المجتمع هو السبيل لصنع تاريخنا الخاص بنا. كذلك محاولتا ابن طباطبا وقدامة بن جعفر لتحديد أصول الفن الشعري في التراث النقدي في القرن الرابع للهجرة هما محاولتان تقومان على أساس عقلاني فلسفي يتجاوز الأساس النقلي، بل إن هذين المحاولتين اكتسبتا عمقا وأصالة باتصالهما وإفادتهما من محاولة التوفيق بين أفكار اليونان وطبيعة الشعر العربي(13). أما حازم القرطاجني الذي عاش في القرن السابع للهجرة، فقد واكب جهده النقدي وعيه الحاد بأنه يعيش في مرحلة تخلف متعدد الأبعاد على مستويات الإبداع والنقد والفكر والسلطة السياسية في آن. وكان وعيه بانهيار الأندلس موطنه يواكب وعيه بانهيار الشعر. ولقد اختار العقل في عصر يعادي العقل، واختار الفلسفة في عصر يشك في الفلسفة واختار الارتباط بالماضي المتقدم في عصر لم يعد يعي إلا التخلف(14).
في ضوء ذلك، يتبنى كل من الجابري وعصفور قراءة تأويلية إيديولوجية للتراث، تقوم على التمييز بين العقل والنقل، بين المعقول واللامعقول، بين البرهان والعرفان، بين التجديد والتقليد. إنها قراءة انتقائية توظف التراث لخدمة سؤال الحداثة، لا لفهمه فهمًا موضوعيًا علميًا، والفارق بين المسارين كبير.
ما الخلاصة التي يمكن الخروج بها من هذه القراءة؟
إن مقاربة محمد عابد الجابري وجابر عصفور تمثّل أحد أبرز تجليات التيار الحداثي في الفكر العربي المعاصر. وقد مكّنت هذه المقاربة كلا المفكرين من تجاوز القراءة التجزيئية للتراث والانخراط في مشروع تحديث الفكر العربي من الداخل لا من خلال القطيعة، عبر مساءلة مفاهيمه وتفكيك سلطه الرمزية والمعرفية.
لقد راهن الجابري على «نقد العقل العربي» باعتباره مدخلًا لبناء عقل برهاني حداثي قادر على التفاعل مع منجزات العصر، بينما انشغل جابر عصفور بتأسيس وعي نقدي داخل الحقل الأدبي والثقافي، من خلال استلهام المفاهيم الحديثة وتوطينها في السياق العربي. غير أن هذا الرهان الحداثي، على الرغم من عمقه النظري وجرأته الفكرية، لم يُفضِ إلى التحول المنشود في البنية الثقافية العربية، ولم ينجح في إحداث القطيعة التاريخية التي تطلع إليها. وهنا يُطرح السؤال الجوهري: لماذا أخفق تيار الحداثة في العالم العربي رغم الجهود الفكرية الكبيرة؟ ما العوائق التي حالت دون تأسيس مشروع حداثي عربي متكامل؟ ولماذا لم تنجح الحداثة العربية في ترسيخ مشروعها التنويري داخل المجتمع العربي؟
من نافل القول إن الحداثة وُلدت في الغرب، وأن الحداثة العربية كانت وليدة الاحتكاك بالفكر الغربي. فهل كانت تأثيرات الغرب المتناقضة وازدواجية معاييره عاملًا حاسمًا في إجهاض مشروع النهضة العربية؟ وهل يمكن القول إن الإشكال المتعلق بالغرب، في الفكر العربي، وعلاقته الملتبسة والمتناقضة بالعالم العربي، كان سببًا في تعثر مشروع الحداثة العربي وانحساره؟
فالغرب، كما يظهر للعرب، يتجلى في صورتين متناقضتين: من جهة، يطرح نفسه بوصفه حاملًا لقيم الحداثة والعقلانية والحرية والديمقراطية، لكنه من جهة أخرى يوظف هذه القيم لخدمة مصالحه الاقتصادية والسياسية، ويمارس السيطرة والاستغلال، بل والغزو الاستعماري. وهو ما جعل قيم الحداثة، في نظر الكثيرين، مرتبطة بالإمبريالية والهيمنة والتبعية، لا كخيار ذاتي أصيل.
وقد ذهب محمد عابد الجابري نفسه إلى اعتبار الغرب وتوسعه الرأسمالي الاستعماري عنصرًا حاسمًا في فشل النهضة العربية الحديثة، بينما اعتبر أن العوامل الذاتية الداخلية – من اقتصادية واجتماعية وصراع بين الجديد والقديم – كانت ثانوية ولم تكن المحرك الأساسي في هذا الفشل. يقول الجابري: «لم يكن (الغرب) يقدم نفسه في صورة واحدة، بل لقد كان ولا يزال يحمل بالنسبة إلى مشروع النهضة العربية مظهرين متناقضين: مظهر يمثل العدوان والغزو الاستعماري والاحتكار والهيمنة… إلخ، ومظهر يمثل الحداثة والتقدم بكل قيمهما العصرية، المادية والمعنوية، كالتقنية والعلم والديمقراطية والحرية. ومن هنا، كان الغرب ولا يزال، بالنسبة إلى العرب، العدو الذي يجب الاحتراز منه ومواجهة مطامعه من جهة، والنموذج المغري بالاقتداء به والسير في ركابه من جهة أخرى»(15).
لكن أليس فشل الحداثة العربية يرجع كذلك إلى عوائق بنيوية داخلية، تجلت في سطوة التقليد ومقاومة التغيير من قبل قوى محافظة عطّلت دينامية التحديث في المجتمع العربي؟ أو بعبارة أخرى: هل غياب الشروط التاريخية والاجتماعية والسياسية الضرورية لاحتضان مشروع حداثي متكامل، واصطدام هذا المشروع بمقاومات أيديولوجية وثقافية متجذرة في الوعي الجمعي العربي، كان سببًا في عرقلة تشكّل وعي حداثي جماعي قادر على التجاوز؟
أم أن المثقفين العرب اشتغلوا في عزلة فردية، دون تنسيق أو تفكير جماعي، فغاب عن هذا التيار الحداثي مشروع موحد؟ وهل كانت أسئلة الحداثة عند الجابري وعصفور وغيرهم من رموز هذا التيار أسئلة نخبوية انشغلت بها قلة من المثقفين والأكاديميين، تُطرح داخل «جزر معزولة»، بعيدًا عن قضايا الإنسان العربي ومشكلاته المعيشية والسياسية، مما جعل من مشروع الحداثة مشروعًا نخبويًّا منقطعًا عن واقع الإنسان العربي؟
لا شك إن تفاعل هذه الأسئلة، وتداخل العوامل الداخلية والخارجية، يعقّد فهم أسباب فشل الحداثة العربية. وهذا ما يجعل المشروع الحداثي العربي اليوم في حاجة ماسّة إلى إعادة بناء شاملة، تأخذ بعين الاعتبار شروط التحول العميق، لا على مستوى الخطاب وحده، بل كذلك على مستوى البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية.
ويبقى السؤال المطروح في هذا السياق هو: كيف يمكن إعادة التفكير في المشروع الحداثي في العالم العربي؟ هل لا تزال هناك إمكانية لتجاوز الأعطاب والمعيقات، داخليًّا وخارجيًّا، وإعادة صياغة رؤية حداثية أصيلة، تتماشى مع خصوصياتنا وتستجيب لتحدياتنا؟
الهوامش:
1 – تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، (الطبعة العاشرة، بيروت، آذار/مارس 2009) ص14.
2 – نحن والتراث (قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي)، المركز الثقافي العربي، (الطبعة السادسة، 1993)، ص19ـ20.
3 – نظريات معاصرة مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، د ت، ص 101.
4 – قراءة التراث النقدي، مؤسسة عيبال للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1991- ص64.
5 – نفس المصدر، ص58
6 – تكوين العقل العربي، ص333.
7 – قراءة التراث النقدي، ص7
8 – نفس المصدر، ص 139
9- Le Dieu caché. Etude sur la vision tragique dans les pensées de Pascal et dans le Théâtre de Racine, Paris, N.R.F. Gallimard,1955,455p.
10 – قراءة التراث النقدي، ص 57
11 – المرايا المتجاورة دراسة في نقد طه حسين، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1983، ص17.
12 – المشروع الحداثي العربي… ما الذي أفشله؟ محمد خالد الشياب، جريدة الرأي الأردنية، 3-11-2006.
13 – مفهوم الشعر، دراسة في التراث النقدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الخامسة 1995، ص21.
14 – المصدر نفسه، ص157.
15 – إشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، بيروت، أيلول/سبتمبر 1990،ص26-27.
عدد التحميلات: 0