العدد الحاليالعدد رقم 44ثقافات

السرديات العربية والهيمنة الاستعمارية

من الأهمية بمكان، عدم الانجرار وراء المعيارية الغربية في النظر إلى السرديات العربية وتقييمها في مجال النقد الأدبي خاصة، وقضايا الثقافة والهوية والفكر عامة، فالواقع يشير إلى وجود علوم أخرى عانت من هذه النظرة الاستعمارية المهيمنة الإقصائية، مثل التاريخ والجغرافيا والفلسفة، وكلها اتخذت مما وصل إليه الغرب معايير ونماذج، راحت تقيس بها، دون مراعاة الخصوصية الحضارية، والشرط التاريخي، وظروف البيئة والإنسان. مما يدفعنا لربط الظاهرة برؤية أكبر وأشمل، لتكون معالجتنا أكثر رحابة، وبخلفية أعماق، مما ضيع مرجعيات علمية وأدبية هائلة كانت مهمة في فهم رحلة الإبداع العربي، والإنسان العربي، والأبعاد الحضارية والفكرية بالغة الأهمية المرتبطة به.

كذلك، فإن هذه النظرة يصاحبها ما يعارضها، فكثير من الأشكال الأدبية العربية فرضت نفسها عالميا، وترجمت بنفس الشكل والخصوصية، وإن لم تعبر تعبيرًا كاملًا عن الحضارة العربية الإسلامية، مثل ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، وهذه أشكال فرضت نفسها، وحازت بقبول في الذائقة الإنسانية، وإن قدّمت ألف ليلة وليلة صورة غير دقيقة عن المجتمع العربي الإسلامي، صورة: القيان، والمغنين وليالي الطرب، واللهو، والرجال المهووسين بتعدد الزوجات والجواري.

تلك النظرة التي لا زالت مستقرة في الذهن الغربي، ويتم تقديم سرديات مكتوبة أو مرئية في ضوء تلك الرؤية النمطية المستقرة.

ولو طرحنا تلك القضية من منظور آخر، وهو منظور سرديات المناطق الحيوية Bioregional Narrative (أي جغرافية المسرودات)، سنجد أن الرؤية النقدية لمرحلة بعد الاستعمار، باتت تعترف بوجود منظومات للقيم والأخلاق مختلفة بين الجماعات البشرية (1)، وهذا تطور كبير في البعد الفكري، الذي كان يرهن القيم والأخلاق بمنظور الدول الاستعمارية الغربية ومصفوفات قيمها.

وتلعب سرديات المناطق الحيوية دورًا بنائيًا في تكوين رؤية إيكولوجية عن خصوصيات تلك المناطق، وعلاقاتها المتداخلة مع بعضها البعض ومع المناطق الأخرى المتاخمة لها أو البعيدة عنها، ولكن المشكلة تكمن في تضييق أفق التفكير، خاصة لو تم اختيار سرديات تسلط الضوء على العرَضية والغرابة فيما هو مألوف ومحلي، وتكون الكارثة أن يكون القائم على الاختيار خاضع لعوامل قوة (2).

وبالتالي تصبح الدراسات الثقافية للسرديات المحلية أو في الثقافات الأخرى غير صادقة في نقل الصورة الواجبة، فتقدم تصورات غرائبية وثانوية عن هذه المناطق، خصوصًا لو ارتبط الأمر بالنساء وعالمهن المثير للخيال الشبقي.

أما سردية كليلة ودمنة، فهي وإن كانت مترجمة عن اللغة العربية، ولكنها تعبر عن الحكمة الهندية، وحياة الهند القديمة، لذا، تعمد عبدالله بن المقفع أن يضع مقدمات عديدة خطابها عربي الثقافة، إسلامي التوجه، فمثلًا يحوي كتاب كليلة ودمنة أربع مقدمات، الأولى والثانية تتحدثان عن ظروف تأليف الكتاب، وأهدافه، وفلسفته، بجانب سبل ترجمته من اللغة الهندية القديمة إلى الفارسية ثم من الفارسية إلى العربية، ونكتشف في كل مقدمة إضافة دلالية ومعرفية تساهم في إنارة متن الكتاب. فالمتن ينقلنا مباشرة إلى زمن موغل في القدم في التاريخ الهندي، وكذلك المقدمة الرابعة عن حياة برزويه، أما المقدمة الثالثة فهي كما يشير ابن المقفع كتبها بنفسها ولم يترجمها مثل غيرها، وفيها خطابه الموجه للقارئ العربي، بروح الإسلام، فالحكمة ضالة المسلم، أنى وجدها فهو أحق بها.(3)

وتلك الأشكال الشهيرة، غير كافية في التعبير عن الأدب العربي، مثلما هي غير كافية في نقل صورة الشرق الحقيقية إلى الغرب، ولكن المثال هنا ينفي فكرة المعيارية من أساسها، لأن هذه الأشكال قدمت عالمًا، وأحداثًا، وبنية شكلانية، ومضامين، جعلتها متميزة بخصوصيتها واسمها، فلا يمكن أن نقول إن هذه السرديات روايات أو قصص، لأنها تأبى أن تندرج تحت هذه الرؤية، وتقوم دليلًا على أن الإبداع البشري العظيم، لا يرتكن للمعيارية أيا كانت.

ويعضد هذا، وجود أشكال أدبية قديمة جاءتنا وانتهت إلينا بنفس الاسم والتصنيف والمسمى، وتكاد تكون خصيصة في الأدب العربي، مثل المقامات، فقد جاء ابتكارها كنموذج سردي بديع وموقف طريف، يحمل في طياته جوانب من التعليم والتهذيب، وأيضًا تشويق المتلقي، عبر الحدث، وعند مقارنتها لدى البعض فإنه ينفي عنها صفة القص لأنها ليست: ذات عقدة وحبكة، فلم يكن بديع الزمان الهمذاني واعيًا لذلك، وأراد من إنشائها التعليم وتقديم الطرائف فقط، ولم يتجهوا من خلالها إلى تحليل النفس، ولا بيان أفكارها، وقد انتقلت إلى الأدب الفارسي، ثم إلى الآداب الأوروبية بعد ترجمة نماذج منها إلى اللغات الأوروبية، ولكن كان تأثيرها محدودًا، بالمقارنة بألف ليلة وليلة، لأن الأخيرة كان الموضوع القصصي فيها واضحًا(4).

لو نظرنا إلى رأي شوقي ضيف السابق عن المقامة، لوجدنا الخلفية الغربية في تقييمه لها، والخلفية هي: الحدث، الشخصية، الموضوع القصصي، والأحداث، وكذلك التأثير في الآداب الأوروبية أو بالأدق مدى الاحتفاء بها أوروبيًا. والحقيقة أن هذا المنظور يضع مقاييس الغرب ومدى قبوله للشكل معيارًا له، ولكن القضية كما نجد في الدراسات السردية الحديثة عن المقامات بوصفها فنًا سرديًا معبرًا عن مناحي اجتماعية، وحاجات جمالية، وأبعاد ثقافية، أي قراءتها بوصفها نسقا ثقافيا، ويفسح المجال للتأويل بشكل واسع(5)، لنخرج بدلالات جديدة، تتجاوز كون المقامات قصة مبسطة طريفة الحدث والموقف، وهادفة إلى الألاعيب اللغوية والمحسنات البديعية.

ونفس الأمر، سنجده في السير الشعبية العربية، التي هي نموذج معبر عن تشابه المنتج السردي العربي مع المنتج السردي الإنساني، فلكل أمة مسروداتها الشعبية، التي تعبر فيها عن أبطالها وجهادهم وبطولاتهم ومآسيهم، والسير الشعبية العربية قدمت وصفا للوعي الجمعي العربي بشكل مبدع، وحملت الإبداع شعرا ونثرا وسردا في طياتها، ونالت جماهيرية شعبية واسعة، قبل تدوينها وبعده.

 

الهوامش:

1) نقض مركزية المركز (الفلسفة من أجل عالم متعدد الثقافات بعد استعماري ونسوي، تحرير: أوما ناريان وساندرا هاردنغ، ترجمة: د. يمنى طريف الخولي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 2012م، ج1، فصل بعنوان: كيف نفكر تفكيرًا عالميًا: توسيع حدود الخيال، لورين كود، ص134

2) السابق، ص135، 136.

3) انظر: كليلة ودمنة، ترجمة عبد الله بن المقفع، المطبعة الفخرية، القاهرة.

4) انظر: المقامة، د. شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثالثة، د ت، ص9، 10، 11.

5) السرد العربي القديم: الأنساق الثقافية وإشكالية التأويل، د. ضياء الكعبي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 2005 م، ص521.

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

د. مصطفى عطية جمعة

أكاديمي، وناقد أدبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى