الأدب والنقدالعدد الحاليالعدد رقم 43

الاتجاه الإنساني في الشعر العربي قصيدة «زلزال مسينيا» للشاعر حافظ إبراهيم نموذجًا

الاتجاه الإنساني في الشعر: هو تناول القضايا الإنسانية التي تجمع بين أفراد المجتمعات البشرية دون النظر إلى العرق أو الدين أو المكان، ويصور حياة الناس ويلقي الضوء على مشاكلهم دون اعتبار لمكان عيشهم أو انتمائهم أو معتقدهم، ويظهر التضامن مع المشكلات التي يتعرض لها البشر من منطلق أن الإنسانية هي المظلة التي يعيش في كنفها الناس جميعًا.

وقد وجد هذا الاتجاه منذ القدم في الشعر العربي. فتحدث الشعراء عن موضوعات تمس المجتمع وتصور هموم الناس ووصفوا معاناتهم؛ فتحدثوا عن دور المراة وعن الفقر، وتحدثوا عن الفتن والثورات والحروب وغيرها من المظاهر.

أما في العصر الحديث فقد تطور هذا النوع من الشعر وأصبح مطلبًا أساسيًا؛ فالشاعر لا يستطيع أن يعيش منفصلاً عن قضايا عصره وما ينشأ فيه من حركات فكرية أو اجتماعية وما ينتابه من صراعات ونكبات، فقد انتشر هذا النوع من الشعر والأدب في بدايات القرن الماضي، وأصبح مطلوبًا من الشاعر أن يكون قريبًا من المشكلات التي يواجهها الناس في حياتهم.

وقد كان الشاعر حافظ إبراهيم من أبرز شعراء الإنسانية؛ فقد انشغل بالقضايا العامة الحية في عصره فتحدث عن مشكلة الفقر ورعاية الأيتام ومساندة ذوي الاحتياجات الخاصة1، وذكر حادثة دنشواي2 المعروفة ولم تكن نظرة الشاعر في ذكر هذه الحادثة تحديدا بدافع الإقليمية أو التعصب القومي بمعنى لم تكن انتصارًا للشعب الذي ينتمي إليه فحسب بل كانت انتصارًا لموقف إنساني ولقضية عدالة اجتماعية، وليس أدل على ذلك من  أنه كان شاعرًا ضد الحروب وسفك الدماء، فقد وقف حافظ إبراهيم ضد الدول عامة في شن الحروب وسفك الدماء ودعا إلى إعمار الأرض وحقن الدماء وبذلك يكون حافظ قد وسع نطاق شعره ليشمل الإنسانية بكاملها يقول3:

وقائع حرب أجج العلم نارها

                         فكاد بها عهد الحضارة يختم

وستنناول في هذه الدراسة مظهرًا من مظاهر إنسانية الشاعر حافظ إبراهيم الذي استطاع أن يرسم اتجاهًا خاصًا به ميزه عن غيره من شعراء عصره؛ فقد امتاز بالتنوع والانفتاح والتجديد الملتزم فكان علمًا من أعلام الشعر العربي، وطغى الجانب الإنساني على شعره فكانت قصيدته في وصف زلزال مدينة مسينيا4 الوسيلة التي عبر فيها عن  تضامنه مع الشعب الإيطالي ومشاركته لهم في مأساتهم التي وقعت عام 1908 فقد شهدت مدينةِ (مسينيا) زلزالاً شديدًا حوَّلَ المدينة الجميلة إلى أنقاضٍ خِلال فترةٍ قصيرةٍ جِدًّا، وقد تَسَبَّبَ الزلزالُ بضربات تسونامي مُتتاليةٍ قضتْ على ما تَبقَّى من المدينة. وقد كانَ الزلزال في الصباحِ الباكر والناس نائمون، وهذا أدَّى إلى خسائر كبيرةٍ في الأرواحِ والمباني.

فقال الشاعر هذِهِ القصيدة يصفُ فيها الزلزال وما نتجَ عنهُ من خرابٍ ودمارٍ، مُتضامنًا مع أهلها ومُعبِّرًا عن مشاعره الإنسانيَّة تجاههم.

بدأت القصيدة بمخاطبة الفرقدين باعتبارهما شاهدين على ما يحدث في الكون لعلوهما وثباتهما في مكانهما منذ آلاف السنين، وقد برز التوجه الإنساني واضحًا من بداية القصيدة فهاذان النجمان يوحدان البشرية إذ إنهما نجمان خالدان يراقبان الكون وما يحدث فيه فكأنهما رمز إنساني لكافة البشر، وها هو الشاعر في مصر يسألهما عما حدث في إيطاليا.

نبِّـئانـي  إِن  كُنتُـما  تَعـلَـمـانِ

                           ما دَهى الكَونَ أَيُّها الفَرقَدانِ

غَضِـبَ اللَهُ أَم تَمَـرَّدَتِ الأَرضُ

                        فَأَنحَـت  عَلى  بَني  الإِنـسـانِ

لَيسَ هَذا سُبحانَ رَبّي وَلا ذاكَ

                        وَلَكِـنْ  طَبـيـعَـةُ  الأَكــــــوانِ

ومن سمو التوجه الإنساني لدى الشاعر أنه يرفض فكرة حدوث الزلزال بسبب غضب من الله، أو أن الله أوقع عقابه على أهل هذه البلدة؛ فالزلازل في نظر الشاعر ظاهرة مرتبطة بطبيعة الكون ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بطبيعة الشعوب عاصية أو طائعة وهي ليست عقابًا وما علينا إلا أن نغلب الإنسانية، ونساند الشعوب المنكوبة دون اللجوء إلى تفسير الأسباب وربطها بمعصية الشعوب أو بغضب الله عليهم.

وقد أبدع الشاعر في توصيف الحدث ونقله إلى القراء كما لو أنهم يشاهدونه أمام أعينهم، أو حتى كأنهم يعيشون الحدث ذاته فكان بذلك بمثابه وسيلة إعلام متطورة تنقل الحدث بالصوت والصورة، وهنا نستطيع أن نقول إن هذه القصيدة جسدت الحدث وقامت بالدور الذي تقوم به الوسائط المتعددة في وقتنا الحاضر المتقدم تكنولوجيا، ولكن الشاعر حافظ إبراهيم استطاع رغم عدم توفر أيٍّ من هذه الوسائط الحديثة أن ينقل الأحداث بكل دقة، إنه الجانب الإنساني الذي جعله يستشعر الدقة المتناهية في الحدث فيصور أدق التفاصيل كأنه يراها ويعيشها، فها هو يرتب لنا الأحداث منذ بدايتها بلحظة ثم تصاعدت بشدة  وقضي الأمر ومحيت المدينة من على وجه الأرض.

  خُسِفَت ثُمَّ أُغرِقَـت ثُمَّ بادَت

                        قُضِيَ  الأَمـرُ  كُلُّهُ  في  ثَواني

  وَأَتى أَمرُها فَأَضحَت كَأَن لَم

                        تَكُ  بِالأَمــسِ زينَـةَ الـبُـلـدانِ

وكما قلنا سابقًا فقد جاء الشاعر على أدق التفاصيل وقد أولى مشاعر الناس وأحاسيسهم لحظة الحدث باعتباره جاء مبكرًا والناس نائمون فلم تمهل الكارثة الناس حتى يودعوا بعضهم، أو حتى تمهل الجيران والأصحاب حتى يقضوا من بعض حق الصداقة وحقوق الجيرة من التعبير عن صدق المحبة أو المسامحة وإيفاء الحقوق.

لله درك أيها الشاعر! فقد تسامت إنسانيتك حتى تخيلت نفسك واحدًا منهم تعيش مشاعرهم وتحزن لحزنهم وتتأثر لمأساتهم.

       لَيتَها أُمهِلَـت فَتَقضي حُقوقاً

                        مــِن وَداعِ اللِّـداتِ وَالجـيرانِ

ليس هذا فحسب فقد أبدع الشاعر بالوصف وكأنه يعد تقريرًا صحفيًا مصورًا عن هذه الكارثة فيعطيك الصورة الحقيقية يصاحبها الصوت إضافة إلى الموسيقى التصويرية الخلفية التي تعبر عن فداحة الحدث؛ فقد أبدع الشاعر في نقل الصورة وكأنه أعد تقريرًا على أعلى درجات الإتقان من الإخراج والتصوير والمونتاج وكله من خلال الكلمة الصادقة في العاطفة والإنسانية المتسامية.

فقد أولى فئة الأطفال أهمية بالغة لكونهم أكثر الفئات التي تحتاج إلى العون والمساندة وأشار إلى عاطفتي الأبوة والأمومة؛ فالطفل يستنجد بوالديه ويغلب عليه الخوف والرعب ولكن الوالدين يشاهدانه يموت وينتهي دون أن يستطيعا تقديم العون له، ولك أن تتصور الشعور المأساوي للأب أو للأم عندما لا يستطيعان إنقاذ أطفالهما، إنه مشهد مؤثر جدًا يتكرر في كل كارثة سواء كانت طبيعية أو مفتعلة وتحتاج إلى التضامن والتكاتف لتقليل المعاناة والتخفيف من وطأتها.

ورُبَّ طِفلٍ قَد ساخَ في باطِنِ الأَر

                   ضِ  يُنـادي  أُمّي  أَبي  أَدرِكانــي

وينتقل الشاعر في تقريره الصحفي إلى مشهد آخر يتحدث فيه عن فئة أخرى من ضحايا الكوارث ألا وهي النساء فها هي هذه الفتاة تشتعل فيها النيران دون أن تستطيع أن تنقذ نفسها فضلاً على أن تجد من ينقذها، ونعود بآلة التصوير إلى مشهد آخر يصور أحد الآباء الذي فقد أسرته بناته وأبناءه، ولكنه لا يستسلم فها هو يستميت في الدفاع عنهم ولكن دون جدوى فتأكل منه النار بلا رحمة فتحرقه بعد أن تقضي على كل عائلته.

    وَفَتاةٍ هَيفاءَ تُشوى عَلى الجَم

                   رِ تُعاني مِن حَــــــــــرِّهِ ما تُعاني

   وَأَبٍ ذاهِلٍ إِلى النـارِ يَمشي

                   مُستَميتاً تَمــــتَدُّ مِنـــــــهُ اليَدانِ

   باحِثــًا عَن بَناتِــهِ وَبَنـــــــيهِ

                   مُسرِعَ  الخَطوِ  مُستَـطيرَ  الجَنانِ

   تَأكُـلُ النـارُ مِنــهُ لا هُـوَ نـاجٍ

                   مِن  لَظاها  وَلا اللَظـى  عَنهُ واني

ويختم الشاعر قصيدته بصورة جديدة للاتجاه الأنساني وهي مواساة مدينة مسينيا وتقديم العزاء للشعب الإيطالي والدعاء لهم بأن ينعموا بالسلام والطمأنينة، وتقديم أمنياته لهذه المدينة بإعادة الإعمار والعودة إلى سابق عهدها، ولا يكتفي الشاعر بما قدمه هو وإنما يدعو كل الشرفاء من الناس أن يتبعوه ويقدموا المساندة والدعم المعنوي والمادي، ولا يرى ذلك نوعًا من الإحسان إنما هو حق تمليه عليهم المشاعر الإنسانية والالتزام بالقيم العليا.

وَسَلامٌ عَلَيكِ يَومَ تَعودينَ

                         كَما  كُنـتِ  جَـنـَّةَ  الـطُـلـيانِ

وَسَلامٌ مِن كُلِّ حَيٍّ عَلى الأَرضِ

                        عَلى  كُلِّ  هــالِكٍ  فيكِ  فاني

وَسَلامٌ عَلى اِمرِئٍ جادَ بِالدَم

                        عِ  وَثَنّى  بِالأَصــفـَرِ  الـرَنـّانِ

ذاكَ حَقُّ الإِنسانِ عِندَ بَني الإِن

                           سانِ  لَم أَدعُكُم  إِلى إِحــسانِ

إذن نستطيع أن نقول أن الشعر يطلع برسالة عظيمة وهذه الرسالة تمثل القيم الإنسانية العليا، والإعلاء من شأنها ونشر المبادئ القائمة على الحق والعدل والمحبة والتسامح والتعاون وغيرها من القيم، دون أن يكون هناك اعتبار لقومية أو إقليمية أو معتقد فالإنسان الحقيقي لا يمكن أن يكون منفردًا ولا يستطيع العيش وحده، إنما هو كائن اجتماعي، فكيف إذا كان شاعرًا؟! وهذا يجعل من تمام رسالته تقديم المساندة والتضامن للآخرين، إذ إن الإنسان يحيا من خلال علاقاته مع أبناء جنسه، ولا بد أن يكون مؤثرًا قويًا فيهم فتكون سعادته في إسعادهم والتضامن معهم لأن هذا هو المعنى الحقيقي لرسالة الإنسانية.

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى