
الاغتراب والإبداع قراءة فلسفية وإنسانية وحياتية
عندما نتأمل حالة الاغتراب الإبداعي التي تظهر لدى الكثير من المبدعين العرب، سواء كانت بوعي منهم أو تأثرًا بغيرهم؛ فإننا نجد كتابات متخيلة، وتنجلي عن ذوات إنسانية تنظر من شاهق للعالم أو تصرخ في الشتات، تدّعي التخلص من بشريتها، ساعية إلى الهروب من العالم الدنيوي، بل من الجسد الحاوي للذات نفسها، فهو في قمة الغربة قابل للاندماج والذوبان، في خضم المشهد.
ويعود أدب الاغتراب إلى ما طرحته الفلسفة الوجودية، خاصة كتابات “سارتر” أسئلة كثيرة تتصل بوجود الإنسان الحسي والمعنوي في الحياة، فالإنسان المعاصر إذا انتهى من مشاغله اليومية، استبد به القلق، بأسئلة محورية عن مبتدئه ونهايته، فكل شيء حوله هو العدم، ووجوده ذاته سيفضي به إلى الموت في النهاية، كما أن استبدال أسئلة الميتافيزيقا، بالانكباب على النفس البشرية وتحليلها لن يؤدي في النهاية إلا إلى مزيد من التخبط، لأن النفس البشرية لن تجيب عن أسئلة الماهية. ونرصد – في هذا التوجه – عجز العقل الفلسفي عن تقديم تفسيرات للوجود الإنساني، ولم يفلح التقدم التقني الهائل في تقديم السعادة الكلية للإنسان، لأن المادية صارت طاغية على النفوس، وتحول الإنسان إلى شبيه بالمادة أو الإنسان الأدائي المنغمس في متطلبات الحياة، فازداد الملل وتعاظم الضجر، ويوازي هذا فقدان الروحانية والعقائد الدينية السماوية التي تجيب عن أسئلة الوجود والغيب، فتخبرنا عما كنا قبل ولادتنا، وعما سنصير إليه عقب موتنا، بل وعن سبب وجودنا في الحياة نفسها، لأن الفلسفة الحديثة اعتمدت المادية أساسًا لها، وأقصت الروحانية، فتوحش الإنسان المعاصر، وتعلّق بالمال واللذائذ وكلها نكبات للروح.
لقد كان الاغتراب – فكرًا ورؤية وأحاسيس – شائعًا في الكتابة الشعرية خلال عقود السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات في القرن العشرين، ربما بتأثر واضح من انتشار الفلسفة الوجودية في الإبداع الغربي متجلية في مذهبي السيريالية واللامعقول، مع توافق – دون شك – مع ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية وفكرية في بلادنا؛ تختلف جذريا عما مرت به المجتمعات الغربية المعاصرة من حروب وتدمير وفقدان اليقين، ولكن نزعة الاغتراب التي نلاحظها كانت ضمن التأثر بالأدب الغربي الحديث بشكل عام، بجانب السقوط السياسي والاجتماعي والفكري الذي أصاب المجتمعات العربية، وزيادة تهميش الإنسان، وتسليعه، وفقدان معاني الانتماء للوطن.
وقد ساهمت الإبداعات العربية في انتشار نزعة الاغتراب، مما أدى إلى تعمق غربة الشاعر/الإنسان وانعزاله، فبات متأملاً للواقع، غير مشتبك معه أو متعارك، وإنما هو منكب على نفسه، ينأى بها عن آلام واقع طارد أو هكذا تخيّله.
والمشكلة أن الفلسفة الوجودية بنَت معرفتها على فهم الوجود من خلال الحواس، وفهمها للعالم من حولها، وأن المعرفة ذاتها نابعة من تلمسنا للواقع القائم أمامنا، مما جعل المعرفة في النهاية نسبية، وضاع اليقين، واشتدت الحيرة، وساد تصور فكري أن المبدع في حالة صراع مع المجتمع، فإن قبله المجتمع بفكره فهو ينزل من عليائه، وإن نبذه – وهذا حتما حادث – فالشاعر يمعن في الاغتراب، وهذا تبسيط مخل للظاهرة، فالمبدع ليس في صراع من أجل الصراع مع مجتمعه، وإنما هو عين مختلفة ترصد المجتمع، وتطمح لكماله وسعادته، وترصد في ذلك أوجه القصور، بل وتعبر عن المجتمع في لحظات الانتصار وأزمنة النهضة وأوقات الصعود الحضاري، بمفهوم الحضارة الشامل لرقي الإنسان ماديا وروحيا.
وهو الأمر الحادث مع الذات الشاعرة العربية المعاصرة، التي تعاني من هزائم وتراجع وانحطاط مجتمعاتها، بجانب شيوع الاستبداد، وحضور تساؤلات عديدة عن الهوية، وطبيعتها، وإلى أين نسير، وكيف ستكون العواقب. وظهر الاغتراب في هذا الجيل، والأجيال السابقة واللاحقة عليه، التي تشاهد العجز اليومي، والفرقة والتشتت، فآثرت العزلة، واتخذت من قصائدها ملاجئ زائفة تلوذ بها.
ويمكن أن نرصد مظاهر الاغتراب إبداعيا في ثلاثة أبعاد: اغتراب الإنسان عن العالم والكون، وهو اغتراب ميتافيزيقي أو اغتراب أساسي ملازم لوعيه بوجوده وتناهيه، ثم الاغتراب عن الجماعة التي ينتمي إليها بما لها من ماض، وقيم وتقاليد، وأخيرًا الاغتراب عن الذات وهو أخطر هذه الأشكال الثلاثة وأهمها.
إن الاغتراب في الشعر العربي المعاصر يعبر عن أزمة ذات وجهين: الأول يتصل بفقدان الهوية والانتماء، والثاني: العلاقة المتأزمة مع المجتمع، وكلاهما يؤديان إلى عزلة وضياع وتخبط لأبناء الوطن عامة، وللشعراء – بوصفهم معبرين عن أحاسيس المجموع – خاصة، ولا تزال الأزمة مستمرة، لأن الإنسان العربي يعاني من مسببات عديدة لاغترابه، ولا يجد في الأفق حلا لها.
ولابد من الأخذ في الحسبان أن موقف الشاعر من مجتمعه والعالم من حوله يأتي على أربعة أوجه: الثورة على المجتمع، العزلة الكلية، الاغتراب عنه، التأقلم مع المجتمع، ولو أعدنا صياغة هذه الأوجه في رؤية فلسفية، لعرفنا أن مهمة المبدع ليست إحداث تغييرات جذرية في المجتمع، وإنما نشر وعي جديد، وتصحيح لوعي قائم، وأن يربط نفسه بهموم المجتمع، ويطمح – مع آخرين – في تغيير هذا المجتمع للنهضة والتقدم، فالشاعر ليس مقاتلاً، وإنما ناشرًا للوعي الجمالي والفكري، لكي لا يتخيل أحد أنه بقصيدة ستندفع الجماهير للتغيير.
ولنبدأ نقاشانا للأوجه الأربعة بالحالة الأخيرة وهي التأقلم مع المجتمع، فهي حالة تجعل المبدع تابعًا لأحوال المجتمع، وتخص ضعاف المواهب، الذين لا يتكسبون بالإبداع، ويتخذونه وسيلة للوجاهة الاجتماعية والأدبية، مثلما نرى عند شعراء المديح للخلفاء والأمراء قديمًا، ومنافقي السلطة والحكومات حديثًا، وهؤلاء لا يعوّل عليهم في تغيير الوعي لدى الناس، لأنه غير مستعد أن يصادم ما لدى الناس من قناعات، بجانب أنه فاقد لفكر الثورة والتغيير.
أما الوجه الأول وهو الثورة على المجتمع، فقلة من المبدعين الذين يملكون هذا الفكر، وغالبًا ما يكونون ذوي توجهات إصلاحية، وأفكار فلسفية، ترتبط بمذاهب تقدمية أو راديكالية أو تشبعوا بأفكار إصلاحية ترنو جميعها إلى التغيير الثوري (بمعنى تغيير الواقع بطرق ثورية سريعة في نتائجها)، ويقابل هذا الوجه الثوري: العزلة الكلية عن المجتمع في كهف أو بيت أو غرفة أو قلعة، وهو وجه شديد السلبية، يفر إليه المبدعون المعانون من أزمات نفسية دائمة أو مؤقتة، ولعل أبي العلاء المعري مثال واضح على ذلك، ولكنه يستغل عزلته في إنتاج شعري رفيع المستوى أو ينكب على ذاته ليقرأها، ويزودها بالجديد من الأفكار والفلسفات والرؤى. ويأتي في نهاية الأوجه: الاغتراب، والذي يكون الموقف الأخف من المبدع، لأنه يعيش مع الناس بروح غير الروح، وفكر غير الفكر، وأحاسيس مختلفة.
* * *
إن الاتجاه الاغترابي في الشعر يحتاج إلى إعادة نظر من قبل الشعراء، لأنه بكائية مستمرة، تشكو وتئن وتتألم وتصرخ، وتغيّب ذاتها وتفنيها دون أن تصل بقرائها إلى نتيجة، بل ازدادت غربة القراء أنفسهم، ومن هنا ظهرت اتجاهات أخرى في الإبداع تشتبك مع الواقع بكل ما فيه، وتتخلى عن هروبها المصطنع والمتخيل، موقنة أن مرّ الواقع وجروح الاشتباكات له آثار إيجابية متمثلة حفز المتلقين، والتواصل معهم، على أمل تغيير حتمي لاحت بوادره لكل ذي عين، وهذا ما نرومه أن يكون المبدع سببا (من أسباب) تغيير الوعي والفكر والجمال.
عدد التحميلات: 0