قراءة في رواية «سيدات زحل» للروائية العراقية لطفية الدليميالباب: مقالات الكتاب
لنا الفاضل العراق |
الدخول لعالم الرواية أيًا كانت هو أمر يعود لذائقة القارئ، لكن تحليل رواية ما وهي تعطيك الشعور إنها تحكي حياة تعيشها أنت ابن هذا الزمان وابن هذا البلد هو أمر تفرضه الرواية العميقة التأثير، غزيرة المعاني في سرديتها المتميزة التي تحكي واقعًا عراقيًا بغداديًا عانى، ويعاني حروبًا واضطهادًا خلقت في لاوعيه المنكسر تداعيات جمة وجعلت منه، واقعًا مشوه لتاريخ زاهي وذكريات جميلة مسخت بفعل جنون القسوة، وانقلاب الأدوار من نشأة عظيمة لأرض غنية أصبحت الآن لا تعرف هويتها ولمن تنتمي . هذا بحق ما تمنحه لنا رواية (سيدات زحل) للكاتبة العراقية الكبيرة (لطفية الدليمي) من شعور عند قراءتنا لها، حيث تمتزج الأزمنة بين التاريخ الثري والواقع الذي حطمته الحروب والمستقبل الذي يكون حلمًا بعيدًا يزور الحياة كل حين.
تروي "سيدات زحل" قصة خمس نساء عراقيات، وصحفية فرنسية يعشن واقع الحرب في العراق وتداعياتها عام 2003 وما نتج عنها من إرهاب وعنف وضياع، وتأثيرها على النساء وما ينتظرهن في الخارج من وحوش آدمية مما حول حياتهن، التي كانت سلفًا حياة معذبه بكل ما سبق، لتتحول الحياة إلى الجحيم بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، "بغداد تحولت لمدينة تنفي أبناءها إلى الموت أو الاغتراب: ما هي بغداد؟ غول؟ قدر؟ ثقب جدار أسود سينتهي بالتهام نفسه؟ ص182، كما تتساءل راوية القصة، ومن هنا اقترنت تسمية السيدات بالكوكب زحل الكوكب الذي يوصف بكونه كوكب نحس وسعد يرتبط وصفهن به في العنوان، كونهن هن ضحايا الحروب، ولكن دومًا نجدهن في الواقع هن من تعتمد عليهن الحياة في إعادة كل شيء، بعد كل ما تمنحه الحروب من خراب ويأس وموت تقع النساء تحت طائلة القدر المنحوس، لكنهن يصمدن بقوة غير مفهومة، لا نعرف هل هي قوة الأمل، أم قوة الحب، أم قوة البلد الذي نشأن به وهو يضع بصمته عليهن بكل شيء ويعلمهن النهوض دومًا كالعنقاء تتجدد من رمادها وتنبثق لتعود للحياة .
لذا نجد إن أسم البطلة (حياة البابلي) اسمًا تم اختياره بعمق وقصدية لتتحرك من خلاله إرادة الساردة في بعث شحنات الأمل مع كل توصيفات الموت واليأس ويتجسد من خلاله الوعي بكل الطبقات التي تكوّن أيَّ حياة.
إنّ حياة البابليّ ذات التاسعة والثلاثين سنة، هي امرأة جميلة حالمة، تنتمي طبقيًّا إلى الطبقة الوسطى، سليلة أسرة عريقة الجذور تسكن بغداد أو أن بغداد تسكن بها كما تظهرها الرواية.
هي البطلة في سردية تحكي آلام الروح لها ولعدد من الشخصيات التي تلبست ارواحهم أو أفكارهم هذه السيدة كلهم يحدثوننا عن حكايا تدين بالنتيجة الحرب والسلطة والطبقة الحاكمة التي كانت تسيطر على المجتمع بصورة جلبت الكثير من الفواجع والانحسار للأمل بمستقبل مشرق، رواية تسرد فواجع زمنها العصيب لذا نجد حياة البابليّ المشتتة الهوية ما بين حياة البابليّ وآسيا كنعان "وهو اسمها المزوّر في جواز سفر حياة، هي بصورة رمزية تمثل حبها الأوحد، تمثل بغداد التي ضاعت بين شد وجذب كأنها الحلم السرمدي للجميع، لتكون هي -بغداد- لكل من راوده الحلم وله وحده ولا تكون حقًا لغيره.
المدينة التي عاشت عبر الحروب والحصار، وما أعقبهم من الاقصاء والطائفية، التي أسست للجحيم المستعر على أرضها. وهي حياة نفسها الأمينة على نقل رؤى عمها الذي يذوب عشقًا في بغداد العم (قيدار) الذي خطفت زوجته على يد أحد جلاوزة النظام قبل عام 2003، فاختفى هو الآخر بعد اعتقاله بتهمة النشاط السياسي المحظور، رؤاه الرقيقة رغم حزنها تحكي فسيفساء الوجود البغدادي الحالم الذي ينتمي لحضارة وفن وجمال لا ينتهي، يعاند كل مظاهر الدمار والسلبية والخوف الجاثم في النفوس. لتأخذنا الحـكايـا واحدة بعد أخر من خلال سرد سيداتها والدخول في حياتهن لتصف الانكسار الذي حل في مدينة مبتلاة بالشؤم التي كأنها وقعت تحت تأثير كوكب زحل في فترة شؤمه الطويلة كما يشرح (العم قيدار) ذلك في إحدى صفحات الرواية.
"سيدات زحل" رواية ساحرة لروائية متمكنة من أدواتها وقدرتها الشعرية الرقيقة ورؤيتها الثاقبة لتضعنا بمواجهة قدرية الموت وقيامة الوجود الإنساني بالضد من الموت بالحب والشغف بالحياة، ولعنة الشؤم يقابلها الاستحقاق الطبيعي للحياة مهما تعاونت الأقدار ضدنا بالاغتراب والضياع، رواية تكشف لنا خصوصية الانتماء مع جمالية التحليق في عوالم أخرى تمنح الحلم أبعادًا ثرية ورؤية صائبة في تشخيص الأخطاء وترسم الدرب الذي كان لا بد أن يكون بديلاً عن كل هذا الدمار والخسارة والفقدان وهو درب الحب وحب الجمال.
نبذة عن السيدة لطفية الدليمي:
كاتبة وصحفية عراقية. حاصلة على الليسانس في الأدب العربي، عملت في مجال التدريس على مدى سنوات ثم محررة للقصة في مجلة الطليعة الأدبية ثم مديرة تحرير مجلة الثقافة الأجنبية.
تغريد
اكتب تعليقك