العدد الحاليالعدد رقم 43ثقافات

القواقع والأصداف في الموروث الشعبي القطري

تمثل القواقع والأصداف جزءًا مهمًا من التراث الشعبي البحري القطري الذي لايزال مجهولًا، ولم يتم تسليط الضوء عليه بالشكل الكافي في دراسة مستقلة، واندثر جزء كبير منه، وبقي جزء آخر متناثرًا في الذاكرة الشعبية؛ فالقواقع والأصداف والمحارات لها صدى في الموروث الشعبي القطري بخاصة، والخليجي عامة، كالألعاب الشعبية، وأسماء المناطق والعيون، وفي التراث العمراني، وكذلك في التجارة؛ كتجارة المحار، بالإضافة لأهميتها لدراسة التاريخ القديم؛ كالمعتقدات والطقوس القديمة، ويدخل في ذلك ذاكرة المرض أيضًا؛ إذ إن بعضها استُخدم قديمًا للاستشفاء من الأمراض، والبعض الأخر استخدم في التمائم والتعاويذ، والتفاؤل والتشاؤم.

يذكر علماء الأحياء أن المقصود بالأصداف والقواقع البحرية، هي الهيكل الخارجي لعدد من الكائنات الحية، التي تنتمي لشعبة الرخويات، وتنتشر في العديد من البيئات، فمنها أصداف البحر التي تعيش في المياه المالحة، ومنها أصداف اليابسة التي تعيش في المزارع، بالإضافة إلى أصداف المياه العذبة، والنوعين الأخيرين من الأنواع النادرة جدًا في قطر؛ بسبب ندرة المياه العذبة، وارتفاع درجة الحرارة. أما الأصداف البحرية، فإنها تقسّم إلى ثلاث مجموعات هي: الأصداف، والقواقع، والأصداف النابية (على شكل ناب الفيل)؛ بالإضافة إلى محار اللؤلؤ، الذي يعيش في أعماق البحار. وقد عُرفت هذه الكائنات الحية باسم الرخويات؛ لأنها لا تحتوي على دعامة داخلية، باستثناء وجود صدفة أو قوقعة أو محارة في غالبية أنواعها. وليست كل أنواع الأصداف صديقة للبيئة والإنسان، فمنها ما هو مسمم ومميت، مثل أصداف الخشام ذات الأطراف الشوكية، التي تؤدي إلى تسمم الإنسان بمجرد لمس أطرافها، ويُسمى “الخاروف”.

تشير نتائج الاكتشافات الآثارية لعلماء بعثات التنقيب إلى أنه تم العثور في جزيرة بن غنام القطرية على الكثير من الأصداف البحرية من حلزون البحر الشوكي من نوع “ميوركس Murex”، والتي تحتوي على الصبغ الأحمر الأرجواني، كما وجدوا حوالي ثلاثة ملايين صدفة تحتوي على مواد للصبغ الأحمر الأرجواني يعود تارخها إلى الألف الثاني قبل الميلاد، وكانت الخطوة الأولى لاستخراج الصبغ هي إحداث كسر بسيط ممنهج في الصدفة لاستخراج الغدة الحاملة للصبغ، وذلك بعناية فائقة لتجنب تلوثها في أي جزء آخر من الصدفة. وفي البداية يغلب اللون الأخضر على إفراز هذه الغدة، ثم تحت تأثير أشعة الشمس يجف ويتحول إلى اللون الأحمر الأرجواني، ومن ثم أسهمت قطر في تجارة الأصباغ الأرجوانية في التاريخ القديم1. وقد وصف ياقوت الحموي (574-626هـ/ 1178-1229م) قطر بأنها قرية تشتهر بأقمشة حمراء ذات خطوط تصنع منها قمصان تُسمى البرود القطرية، مذكورة في الكثير من أشعار العرب، وتصدّر إلى مختلف الأسواق2. ويؤكد ذلك على أن القواقع والأصداف كان لها دورٌ في الموروث الشعبي القطري منذ عصور ما قبل التاريخ.

وتدل نتائج الدراسات الاستكشافية والدراسات المسحية والبيئية في المياه القطرية على أن هناك خمسة أنواع من المحار، ذي الصدفتين المطبقتين، والمنتج للآلئ، منها ثلاثة أنواع رئيسة، هي العيسرين صغير الحجم، الصديفي كبير الحجم، الزنية؛ ذي الشكل المستطيل، واللون الأسود، والفصمة متوسط الحجم، والخالوف ذي الشكل المختلف عن باقي أنواع المحار، ولهذا سُمي خالوفًا3. أما الرماي فهو من أنواع قواقع البحر الصغيرة الحجم، سوداء اللون، المزودة بالأشواك الغليظة، التي تضرب بها الغواص إذا مد يده إليها، فتسبب له آلامًا مبرحة لا تسكن إلا إذا حك يده المصابة. إلا أن تصنيف السكان المحليين لهذه القواقع والأصداف يختلف عن التصنيف العلمي، إذ يخطئون في تصنيف بعض أنواعها، فمثلًا يصنفون النو والخبان على أنه من القواقع والأصداف، بينما الخبان أو الخنبوب نوع من السرطانات البحرية الصغيرة، لكنها تعيش في قواقع الرخويات، وتنتمي لمجموعة القشريات. أما النو، فهي تلك الكائنات البحرية التي تلتصق على القوارب أو الحجارة أو الأخشاب، وهي شبيه بالأصداف إلا أنها تنتمي للقشريات.

ولا تزال هناك ندرة في الدراسات المتخصصة حول القواقع والأصداف في قطر، سواء التي تتناولها في العصور التاريخية القديمة، أو تتناولها في تاريخها الحديث والمعاصر، وإن غالبية المعلومات حول أهمية الأصداف في قطر، في الماضي والحاضر، متناثرة بين الكتب والدراسات غير المتخصصة، ولهذا لاتزال بحاجة لدراسة معمقة توضح مظاهر وجودها في الموروث الشعبي القطري من الشعر والألعاب والتراث المادي وغير المادي والأسماء وغيرها، ولعل سبب ذلك هو عدم الوعي بأهمية هذا النوع من الدراسات، على الرغم من أهميتها لارتباطها بعدد من الصناعات المهمة؛ التي ربما كانت رائجة في قطر قديمًا، وكذلك لارتباطها بعادات وتقاليد معينة، فالأصداف جزءًا مهمًا من الموروث الشعبي، من حيث الاستعمال، ومن حيث المسميات ودلالاتها، فمثلاً المريق الأرجواني الأحمر، يُعرف محليًا في قطر باسم “مشط فينوس الكاذب”، لأنه يحمل خمسة أسنان طرفية عريضة أسفل حافة الكتف، وهو من القواقع الأرجوانية الحمراء أو قواقع الصخر، ويعيش في قاع المياه الضحلة، وحول مناطق مستوى المد المنخفض، أو على الأرضيات الصخرية والمرجانية، وتستطيع أشواكها اختراق الأقدام العارية، وهو من الأصداف الشائعة والجذابة والمحببة لجامعي الأصداف، ويستخدم في حرفة صناعة الأصداف.

ويتبين من خلال المراجع التي اطلعت عليها4  أن الأصداف والقواقع والمحارات إلى الآن لم تصدر قائمة نهائية بأسمائها في قطر، وإنما هناك قوائم متناثرة في عدد من الدراسات، وهو ما يؤكد على أهمية صدور دراسة تتناول أنواعها، وتعرّف بدورها في التراث الشعبي القطري. ولعلنا من خلال هذا المقال نُطلق دعوة لجمع وتحليل التراث المتعلق بالقواقع والأصداف في قطر، وخاصة المعلومات الشفهية غير الموثقة، والمتعلقة بالأسماء العامية للكائنات البحرية، ومطابقتها بالأسماء العلمية العربية والأجنبية، إذ يبدو أن هناك تراثًا ثقافيًا ضخمًا حول الأصداف لم يوثق حتى الآن، أو وثق بصورة غير مكتملة.

وتدل القرائن التاريخية على أن القواقع والأصداف ترتبط بتاريخ الإنسان في منطقة الخليج العربي عامة، وقطر بخاصة، إذ كان الصيد والغوص على اللؤلؤ عماد اقتصادها، وترتبط القواقع والأصداف بقصص وحكايات الأجداد والآباء، ورحلاتهم الطويلة في عرض البحار، حيث استخدموها كأدوات في الكثير من متطلباتهم الحياتية، واستفادوا منها في الديكور، وتزيين المباني، وتطعيم المشغولات اليدوية الخشبية، وأثاث الخشب، وصناعة الخزف والنقوش، كما شكلت الأصداف منبعًا للرزق والجمال والغذاء، فالمحار بأنواعه المتعددة هو أحد أهم مصادر الغذاء والتجارة، وكذلك الحلي والزينة النسائية، واستخدموا المحار كمحابر أو آنية لطلاء الأدوات الدقيقة، كالبعو الذي كان يستخدم في تلوين البراقع؛ فيعطيها اللون الأزرق بواسطة الحك، أو كأسلحة صغيرة كنجمة البحر. كما أن بعض أنواع المحار تُطبخ، أو تدخل في إعداد أطباق غذائية شهية كالحويت، مثل كبسة المحار، وصالونة المحار، وناشف المحار. واستخدمت الأصداف قديمًا في الكثير من مجالات الحياة، فمنها ما كان يستخدم في ألعاب البنات الشعبية، مثل أصداف بوعلوص الأملس، بينما استخدم صدف الزبوت الكبير في ألعاب الأولاد، واستخدم صدف الصفد كمكحلة للعين، ويُسمى “مردود الكحل”. كما استخدم في التراث العمراني؛ إذ جرت العادة أن يتم فرش مصلى العيد، وصحن أو فناء المسجد، وليوان البيت بالصبان، وهي أصداف بحرية صغيرة ذات شكل مخروطي، يتم جمعها من شاطئ البحر، فتعمل هذه الطبقة على تجنب الملامسة المباشرة للأرض، التي ترتفع حرارتها نهارًا في الصيف، كما تمنع تجمع مياه الأمطار في الشتاء5.

وترتبط بعض أنواع الأصداف، كالكويري Cowries (الكوز) والخالوف، بقصص الألم والخيال، تلك القصص التي نُسجت من طبيعة الحياة القديمة بالقرب من ساحل البحر؛ فالبحارة، كانوا يخرجون للبحر بأقدام عارية، وهذه القواقع من الأصداف ذات الصدفتين، مثلثة الشكل وطويلة، ويكون الجزء المدبب منها مدفون في قاع البحر، ولا يظهر فوق السطح إلا الجزء العريض من الجزء الأمامي منها، والذي يتميز بحواف حادة، وكأنها رأس فأس، ولهذا تُعتبر من أخطر الأصداف، وتسبب جروحًا عميقة لمن يطأها من الصيادين والغواصين. ولهذا نلحظ أن اسم هذا النوع من الأصداف مشهور على طوال ساحل الخليج العربي؛ وخاصة في الإمارات العربية المتحدة والكويت. وقد تخصص البعض في إخراجها من القدم، حيث تُستخرج بالموس أو السكين أو إبرة كبيرة أو سلاية (شوكة النخلة) قوية. أما الحفرة الناتجة عنها فيتم كيها، إما بالعطبة، وهي قطعة قماش تُشعل وتُوضع على الجرح، أو بأحد شماريخ عذق النخلة بعد أن يُزال عنه الرطب ويجف.

ويزعم القدماء أن القواقع المعرفة الكويري (الكوز)؛ إذا انحسر عنها الماء أغلقت قوقعتها، وحينئذ تُصدر صوتًا يسمعونه، وفي الماضي كان الشاطئ هادئًا فلا يُسمع إلا صوت البحر، وأصوات الكائنات التي تسكنه. وهذه الظاهرة رسخت في عقول الناس حينئذ، ونتج عنها المثل الشعبي “ثبرت المايه وصاحت الكيرة”، ويوظف هذا المثل في أكثر من موقف، منها عندما يبدأ ارتفاع صوت جماعة من الناس6.

 

الهوامش

1 – إبراهيم فؤاد أحمد وآخرون: قطر وتراثها البحري، (الدوحة: المؤسسة العامة للحي الثقافي كتارا، 2014)، ص 30، 39.

2 – ياقوت الحموي: معجم البلدان، 5ج، (بيروت: دار صادر، 1977)، ج4، ص 373.

3 – إبراهيم فؤاد أحمد: قطر والبحر، (الدوحة: إدارة المتاحف والآثار، 1997)، ص 157، 158.

4 – J. A. Al-Khayat & M. A. Al-Ansi: “Ecological Features of Oyster Beds Distribution in Qatari Waters, Arabian Gulf”, Asian Journal of Scientific Research, (June 2008), pp. 1- 18 .

5 – سلمان أحمد المحاري: حفظ المباني التاريخية، (الشارقة: المركز الإقليمي لحفظ التراث الثقافي في الوطن العربي، 2017)، ص 146.

6 – عبدالرحمن عبد الله المناعي: الأصداف والقواقع والأحجار الكريمة في الحلي القطرية، (الدوحة: دار كتارا للنشر، 2020)، ص 22.

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

د. علي عفيفي علي غازي

أكاديمي وصحفي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى