
من القسطنطينية إلى استانبول .. قصة المدينة التي اشتهاها العالم
هكذا عنون مؤرخ البلاطات والأسر الحاكمة البريطاني فيليب مانسيل، كتابه الصادر ضمن سلسلة “عالم المعرفة” في جزأين سنة 2015، والذي ترجمه مصطفى محمد قاسم. الكتاب كما جاء على لسان المؤلف “قصة للمدينة التي ظلت فترة طويلة أعظم مدينة عائلية على الإطلاق”(1). والتي حلت ذكرى فتحها الـ 571 يوم 29 مايو 2024، وهو ما يعتبر مناسبة لإعادة فتح ملف القسطنطينية أو استانبول، التي كانت عاصمة لأعظم إمبراطورية إسلامية عثمانية لأكثر من أربعة قرون ونصف (1453م- 1924م)، وواحدة “من أقوى إمبراطوريات العالم الحديث المبكر والحديث، وأطولها عمرًا وأكثرها حضورًا على مشهد الأحداث العالمية”(2). في هذا الكتاب – الذي يعد من أفضل ما كتب حول القسطنطينية وسلالتها الحاكمة كما جاء على لسان المترجم- يقدم مانسيل صورة بانورامية للمدينة، بالوقوف على سلالتها الحاكمة، وعائلاتها الكبرى، وقومياتها، والسفارات والقناصل، والحمامات…إلخ، مما يضفي عليها الطابع “الكوزموبوليتاني” وهو المفهوم والرهان الذي كان يحرك المؤلف، وعمل على تأكيده طوال صفحات الكتاب بجزأيه.
القسطنطينية.. المدينة المشتهاة
لقد كان فتح القسطنطينية، من أعظم الأحداث التاريخية ليس في تاريخ المسلمين فحسب ولكن في تاريخ العالم، بما كانت له من أصداء الفرح والحبور بالعالم الإسلامي، والحزن والحداد في العالم المسيحي آنذاك، ذلك أنه شكل ضربة للإمبراطـورية البيزنطـية والكـنيسة الرومـانية الارثوذكسية. لهذا سيكون لهذا الحدث الفارق، تأثير كبير في معادلات الصراع الإسلامي- المسيحي، وفي الخريطة الجيوسياسية آنذاك. ففتح القسطنطينية فسح المجال أمام العثمانيين للتغلغل والتوسع في شرق أوروبا، كما جدد حيوية المسلمين وثقتهم في أنفسهم في مواجهة الغزو الإيبيري في غرب المتوسط.
أسست القسطنطينية على يد الإمبراطور الروماني قسطنطين، الذي منه استمدت لقبها. ومنذئذ أصبحت عاصمة الإمبراطورية الرومانية، ثم عاصمة بيزنطة ثم عاصمة الإمبراطورية اللاتينية، وهي الدولة الصليبية الإقطاعية التي أقامها قادة الحملة الصليبية الرابعة على الأراضي التي انتزعوها من بيزنطة. للقسطنطينية العديد من الأسماء نذكر منها: اسطنبول، وإسلامبول، وكوثتا kushta، وكونس بول cons /ple، وغوسدانتنوبوليس، وتساريغراد، ورومية الكبرى، وروما الجديدة، وأورشاليم الجديدة، ومدينة الحج، ومدينة القديس، ودار الخلافة، وعرش السلطنة، ومقر الدولة، وباب السعادة، وعين العالم، ومأوى الكون، والبوليس(3).
مما لا شك فيه، أن المؤلف – وهو المتخصص في تاريخ السلالات الحاكمة بالعالم- تحرى كثيرًا قبل أن يصف القسطنطينية بأنها “المدينة التي اشتهاها العالم”. ذلك أنها المدينة التي استأثرت باهتمام وإعجاب وحب الحكام والسياسيين والفنانين والشعراء والأدباء…إلخ، فكل من زارها وقع في عشقها. إذ يقول فيها نابليون بونابرت “القسطنطينية! القسطنطينية… إنها امبراطورية العالم!”(4). وفي رسالة جورج ترابز ونتيوس إلى محمد الفاتح عام 1466م، نقرأ “القسطنطينية كرسي الإمبراطورية الرومانية… ما يجعلك الإمبراطور الشرعي للرومان… ومن يكن امبراطور الرومان، يكن أيضًا امبراطور الأرض قاطبة”(5). كما يعتبر المؤلف أن القسطنطينية، كانت المدينة الأكبر والأكثر ثراء في أوروبا كلها. لذلك سعت كل القوى الأوروبية للسيطرة عليها، لأنها قلب العالم المسيحي وقبلته.
فتح القسطنطينية.. حلم يتحقق للمسلمين
إن علاقة المسلمين بالقسطنطينية والتطلع لفتحها لم يبدأ مع العثمانيين، ولكنه حلم طالما جال في خاطر المسلمين العرب منذ الخلافة الأموية والعباسية، إذ تعددت محاولات الفتح وتبادل الطرفان البيزنطي والعباسي النصر والهزيمة. ومع صعود السلاجقة على الساحة، تغيرت لعبة الحرب، وتمكنوا عام 1071م من هزيمة البيزنطيين في ملاذ كرد، وأسر الإمبراطور رومانوس الرابع، لكن مع ذلك، ظلت القسطنطينية عصية على الفتح والخضوع.
خلال القرن الثاني عشر ميلادي، ظهر الأتراك العثمانيون في إمارة صغيرة مستقلة في شمال غرب الأناضول، وهم قبيلة من الرحل هاجروا إلى الأناضول تحت الضغط المغولي. ينتمي العثمانيون إلى سلالة الأغوز المنتمية إلى عصبة كاغي kagi ، وهي جماعة من المحاربين المسلمين المشهورين بالغازي أو حراس الثغور الذين يحاربون الكفار. واستغرق بناء الدولة العثمانية مدة طويلة فاقت القرن ونصف.
واصل العثمانيون الجهاد ضد البيزنطيين وانتزعوا العديد من المناطق في آسيا الصغرى كبورصة وأدرنة… ولم يتبق سوى القسطنطينية، هنا سيبدأ الاستعداد والتخطيط لاختراق هذه المدينة العظيمة. لم يكن فتح القسطنطينية سهلاً أبدًا، حيث مُني العثمانيون بالفشل في عدة محاولات، بفعل التحصين المحكم للمدينة ودفاع البيزنطيين المستميت. هنا سيبدع محمد الفاتح فكرة عبقرية، استطاع من خلالها إنزال السفن العثمانية في مياه القرن الذهبي، وذلك عبر حمل السفن على ألواح خشبية تم دهنها بالشحم ودهن الأغنام، وجرها بواسطة الثيران والأبقار برًا من البوسفور إلى القرن الذهبي، نظرًا لوجود سلسلة في القرن الذهبي وتمركز الأسطول البيزنطي خلفها. هكذا نجح السلطان محمد الفاتح في إنزال أسطوله في نهاية القرن الذهبي من خلال انزلاق السفن على الألواح الخشبية المدهونة، ما شكل صدمة ومفاجأة للبيزنطيين وأفشل خطتهم الدفاعية. كما ساهمت المدفعية العثمانية بدور فعال في دك أسوار المدينة. وفي ظهيرة يوم 29 مايو عام 1453م، دخل محمد الفاتح القسطنطينية راكبًا على حصان أبيض. ويذكر أحد البنادقة المراقبين للأحداث أن “الدم تدفق في الشوارع مثل مياه المطر بعد عاصفة مفاجئة، وطفت الجثث فوق هذه الأنهار متجهة ناحية البحر مثل بطيخ فوق مياه قناة”(6).
يرى المؤلف أن اقتران سلالة آل عثمان بالقسطنطينية، أفرز أقوى وأكبر امبراطورية تركية إسلامية وربما في تاريخ العالم، امبراطورية شملت ثلاث قارات وامتدت على مجالات شاسعة. كما أن تفاعل هذه العائلة التي لها رؤية مميزة للحكم مع مدينة كانت الأعظم في زمنها، جعلها العاصمة الوحيدة في العالم التي كانت عاصمة سياسية وعسكرية وبحرية ودينية واقتصادية وثقافية وفنية gastronomic، وأنتج امبراطورية عظيمة وقصة عشق بين سلالة أحبت هذه المدينة وعاصمة صنعت هذه العائلة.
عندما نلقي نظرة على الكتاب، نلفي أن المؤلف في جميع محطات ومحاور الكتاب، يحاول اتباث الطبيعة الكوزموبوليتانية osmopolitanism للقسطنطينية، كمدينة تعددية في كل شيء وتتعايش فيها المتناقضات والأضداد والاختلافات جنبًا إلى جنب: الأديان المختلفة، والقوميات المتعادية خارج أسوار المدينة، واللغات والثقافات المتمايزة. لكن المؤلف يؤكد فقدان هذه المزية، بفعل حركة “التتريك” التي قادها القوميون الأتراك، وبخاصة عندما تم نقل العاصمة إلى أنقرة يأسا من تراث استانبول العنيد، ونفي السلطان عبد المجيد في قطار الشرق السريع عام 1924.
الهوامش:
(1) فليب مانسيل، القسطنطينية (الجزء 1)، ترجمة: مصطفى محمد قاسم، عالم المعرفة، العدد 427 أغسطس، 2015، ص 13
(2) نفسه، ص 8
(3) ميشيل برونو، من آسيا الصغرى إلى تركيا، ترجمة: معاوية سعيدوني، عالم المعرفة، العدد 474، يوليو 2019، ص 31
(4) فيليب مانسيل، القسطنطينية (الجزء 1)، مرجع سابق، ص 20
(5) نفسه، ص 21
(6) نفسه، ص 44
عدد التحميلات: 0