العدد الحاليالعدد رقم 43ثقافات

سيكولوجية العقل: (3) قراءة في العقل الباطن

للعقل تجلياته المختلفة، فهو في نشاط وعمل دؤوب لا يتوقف، وقد ذكرنا في المقالين السابقين، أن نشوء الأفكار يتم من خلال استدخال (Internalization) الممارسات الاجتماعية- الثقافية، وأن أهم أدوات الاستدخال، هي اللغة، بمنطوقها ورمزيتها، فهي الأداة الثقافية الناقلة للممارسات الاجتماعية الثقافية المكونة للبنية العقلية. ذلك أن العقل لا يقوم بتوليد الأفكار من تلقاء نفسه، بل يقوم بمعالجة ما تم إدخاله فيه، وبالطبع يقوم بتوليد أفكار جديدة وابداعات خلاقة. فعمل العقل ونشاطه الواعي تم رصده علميًا، بل وتحديد المناطق الدماغية المسؤولة عن الكثير من الأنشطة الذهنية، ذلك من خلال الفتوحات والاكتشافات العلمية التي أسهم فيها علم النفس المعرفي، والعلم العصبي، وعلم الحاسوب.

لكن للعقل أنشطة أخرى خفية، كامنة فيما يسمى اللاشعور (Unconsciousness)، ذلك المكوٌن العقلي بنشاطه الذي لا يمكن للعقل الواعي معرفته. وحسب فرويد (1915) Freud يشتمل اللاشعور على الأفكار، والأماني والرغبات، غير المقبولة اجتماعيًا، والذكريات الموجعة، والعواطف المؤلمة، والمشكلات والمواقف المفتوحة، غير المحلولة، وغير المحسومة، التي مر بها الإنسان خلال سنوات العمر الأولى، وسببت له جروحًا عاطفية، وآلامًا نفسية، كي يتخطاها ويستعيد تكيفه، فان العقل يقوم بقمعها، واخفائها في اللاشعور، دون إرادة أو تدخل من الفرد. ولهذه السلوكيات المكبوتة تأثيرها على حياة الإنسان الواقعية، دون شعور منه، حيث تظهر على شكل صور وانماط من الأمراض والمشكلات، والأزمات النفسية، غير محددة الأسباب، والدوافع.

وينبثق من اللاشعور، جزء آخر يسمى ما قبل الشعور (Subconscious mind) أو العقل الباطن، وهذا الجزء من التركيبة الذهنية، يعتبر أقرب إلى الشعور والوعي. فإذا بذل الإنسان مزيدًا من الجهد في التذكر، فانه يستطيع استدعاء ما هو كامن في العقل الباطن.

وبلمحة تاريخية، فان اللاشعور والعقل الباطن كانا يعاملان على أنهما مكون عقلي واحد، ومع تكثيف الدراسات والبحوث، حول هذا الموضوع، ظهر تباينهما. وفي مقاربة علمية للتمييز بين اللاشعور والعقل الباطن، فإن الأخير يعمل كخلفية غير مدركة، تحوي كمًا هائلاً من المعلومات التي لا يمكن الوصول إليها إلا ببذل جهد كبير من الفرد، من خلال التذكر المتعمق، والتأمل الداخلي أو ما يسمى الاستبطان (Introspection). وحتى لو لم يحاول الإنسان الوصول إلى العقل الباطن، فإن هذا المكون العقلي يؤثر على الكثير من أوجه السلوك، والسمات الشخصية، والخصائص العقلية والعاطفية الانفعالية، باحتوائه لكم هائل من المعلومات عنها. إن ردود فعل الشخص تجاه أحداث الحياة، والآخرين، تنطلق عادةً من العقل الباطن، فالمعلومات الخفية هناك هي التي تفسر كون البعض خجولاً، أو كسولاً، أو شرهًا في تناول الطعام، أو يعاني من الإدمان. كما أنها تحدد كون الإنسان واثقاً من نفسه، ناجحاً، يشعر بالبهجة والسعادة، وتحركه الآمال نحو مستقبل أفضل.

إذًا فالعقل الباطن يحمل في طياته معلومات طائلة عن الفرد بجانبيها، الإيجابي المفعم بالحياة، وكذلك السلبي اليائس والمتردد. وهنا يكمن الفرق الرئيس بين اللاشعور، والعقل الباطن، ذلك أن اللاشعور يحوي فقط الأفكار والعواطف المكبوتة ذات التأثير السلبي على الإنسان، والتي تسبب له الكثير من المعاناة، وقد تظهر من خلال فلتات اللسان، أو الأحلام، أو عن طريق التنويم المغناطيسي (Hypnosis).

وقد لا تكون المعلومات المختزنة في العقل الباطن ظاهرة على السطح، ولكنها في متناول اليد، ويمكن أن يصبح المرء على دراية بهذه المعلومات، إذا وجه انتباهه إليها، كما هو الحال في عملية استرجاع المعلومات من الذاكرة. مثلاً، إذا كنت في محادثة مكثفة مع شخص ما، ومر شخص آخر من أمامك بشكل عرضي، فلن تلاحظ ذلك الشخص، ولكن عندما يُطلب منك التذكر، فقد تتمكن من تذكر شكل الشخص وحجمه، ولون لباسه، ومساره في نطاق رؤيتك. من جانب آخر، اللاشعور، وخلاف العقل الباطن، يخزن الأفكار الغريزية الأولية التي لا يستطيع الفرد الوصول إليها عمدًا، لكن قد يعطي سلوكه العلني إشارات للقوى اللاواعية التي تحركه، وهذا لا يتم إراديًا. إن تلك الأفكار والصور الذهنية المصاحبة للقوى اللاواعية، لا تزال موجودة في الدماغ، وقد ثبت ذلك من خلال التنويم المغناطيسي الذي يمكن أن يعيد الذكريات العميقة. وتشير الدراسات حول كيفية عمل الدماغ، إلى أن التجارب التي يمر بها البشر، تشكل وبنسبة كبيرة، طريقة تفكيرهم وتصرفاتهم، وخاصة التجارب التي مروا بها في مرحلة الطفولة المبكرة. إن الذكريات والتجارب التي لا تعد ولا تحصى، والتي تم جمعها طوال مرحلة الطفولة، تساهم في تشكيل شخصية الفرد الحالية. ذلك أن الإطار الفكري الذي ينظر الإنسان من خلاله إلى الكون، مؤلف جزؤه الأكبر من المفاهيم والمألوفات، والمفترضات، بسياقها الثقافي، والتي يوحي بها المجتمع إليه منذ الصغر، ويعززها في أعماق عقله الباطن، والإنسان إذن متأثر بها من حيث لا يشعر.

إذن، فإن للعقل الإنساني ثلاث تجليات؛ أولها وأظهرها العقل الواعي (Conscious Mind)، بأدواته المختلفة، من إدراك، وتذكر وتفكير، وغير ذلك من العمليات العقلية العليا. وفي كل لحظة يكون فيها الفرد مستيقظًا، تستقبل حواسه الخمس تدفقًا مستمرًا من المعلومات، بحيث يتم تخزين هذه التجارب كذكريات، يسترجع الفرد بعضها، ويحللها، ويتأخذ القرارات بناءً عليها. إن كل الأفكار التي تمر عبر العقل، وكل الأحاسيس والإدراكات من العالم الخارجي، وكل الذكريات التي يستحضرها الفرد إلى الوعي، جميعها تعتبر جزء من تجربة الفرد الواعية. حيث يشمل العقل الواعي كل ما يدركه الإنسان في أي لحظة، إنه يشمل كل ما يفكر فيه الآن، سواء كان في المقدمة أو في الجزء الخلفي من عقله، إذا كنا واعيًا به، فهو في عقله الواعي. لكن الإنسان لا يحتاج إلى تذكر معظم هذه المعلومات بنشاط، بل ربما ينسى جزءًا كبيرًا من أنشطته اليومية. والواقع أن جل هذه المعلومات لم ينسى، ولكنه كامن هناك، إما في اللاشعور أو العقل الباطن. والعقل الباطن، ذلك المكوٌن القابع فيما بين العقل الواعي واللاشعور، يمثل المظهر الثاني من تجليات العقل الإنساني، بكل ما يحوي من مخزون وذكريات، إيجابية كانت أم سلبية. ثم العقل غير الواعي، أو اللاشعور بمخزونه المكبوت من ذكريات مؤلمة تحمل في طياتها أفعال وأفكار غير ملائمة أو مضادة للمألوف الاجتماعي الثقافي.

هذه التجليات ليست طبقات أو مراحل، بل هي مظاهر للعمل والنشاط العقلي، ومناط الحديث هنا، العقل الباطن، لقربه من العقل الواعي، وتحكمه في الكثير من أوجه النشاط الإنساني، إنه المكان الذي تنشأ فيه الأحلام، بل هو مستودع كبير جدًا لجميع التجارب، والانطباعات التي تتركها هذه التجارب في العقل، وهو مكان للميول التي يتم ايقاظها، أو تعزيزها من خلال هذه الانطباعات. إن العقل الباطن هو الجزء المتحكم في جميع السلوكيات الإرادية وغير الإرادية، إن الحركة، والقيام والجلوس والتنفس، والمحافظة على درجة حرارة الجسم الطبيعية، ومعدل نبضات القلب، أفعال يقوم بها الإنسان ولا يتعين عليه التفكير بكيفية القيام بها، ذلك أنها تحدث فقط لأن المعلومات اللازمة للقيام بها مخزنة في العقل الباطن، ذلك أنه يحوي ما يسمى بالنبضة التوازنية الداخلية (Homeostatic impulse).

والأمر الواعد هنا، أنه يمكن، كما ذكرنا، الوصول إلى المعلومات في العقل الباطن، بشيء من التذكر المتعمق، والتأمل الباطن، وعليه يمكن وإلى حد ما، التحكم في العقل الباطن وإعادة برمجته، ودمجه في النشاطات اليومية للفرد. إن عقلك الباطن هو من يتسبب في شعورك بعدم الارتياح العاطفي والجسدي، كلما حاولت القيام بأي شيء جديد أو مختلف، أو تغيير أي من أنماط سلوكك الراسخة. إن الشعور بالخوف وعدم الارتياح هما علامتان نفسيتان على أن عقلك الباطن قد تم تنشيطه، لكنه كان يعمل على ترسيخ أنماط السلوك هذه، أي الخوف وعدم الارتياح، في الخلفية قبل وقت طويل من ملاحظتك لمثل هذه المشاعر. ولتوضيح الصورة، يمكنك أن تتخيل أن عقلك الباطن يسحبك إلى منطقة الراحة (Comfort zone) الخاصة بك، في كل مرة تحاول فيها تجربة شيء جديد، لدرجة أن التفكير في القيام بشيء مختلف عمّا اعتدت عليه، سيجعلك تشعر بالتوتر وعدم الارتياح. إن الميل إلى الالتزام بهذه الأنماط هو أحد الأسباب التي تجعل التخلص من العادات أمرٌ صعب للغاية، ولكن عندما يتعلم الفرد كيف ينمي مثل هذه الأنماط عن قصد، يمكنه تسخير قوة العادة، وغرس مناطق راحة جديدة، والتي سوف يتكيف معها عقله الباطن. إن تكيف العقل الباطن مع العادات والتجارب الجديدة، يعتبر إشارة إلى إعادة برمجته، وهنا تكمن الاستفادة من تسخير القوى الخارقة للعقل الباطن، ودمجها في الحياة اليومية.

 

أهم المراجع:

-النملة، عبدالرحمن بن سليمان (2020م). نوستالجبيا. مجلة فكر الثقافية، العدد (30). المملكة العربية السعودية، الموقع الالكتروني:

 https://fikrmag.com/article_details.php?article_id=1125

– الوردي، علي (2022م). خوارق اللاشعور، أو أسرار الشخصية الناجحة. الطبعة الثامنة، دار الوراق، بغداد، لندن.

– Best, J. B. (1999). Cognitive psychology. Belmont: Wadsworth Publishing Co

– Bion W. (1984). The Elements of Psychoanalysis. UK: Karnac Books.

– Craik (Eds.), The Oxford Handbook of Memory. New York: Oxford University Press, Inc.

– Freud, S. (1915). The unconscious. Standard edition. (14): pp. 166–215

Freud, S. (1984a). The unconscious. In: A. Richards (Ed.), The Pelican Freud library.  Vol. 11. On metapsychology: The theory of psychoanalysis (pp.159–222). Harmondsworth: Penguin. (Original work published 1915)

– Phillips, J. (2013). Freud and the cognitive unconscious. Philosophy, Psychiatry, & Psychology (20, no. 3): pp. 247–9

– Power, M. J. (1997). Conscious and unconscious representations of meaning. In M. J. Power & C. R. Brewin (Eds.), The transformation of meaning in psychological therapies. Chichester: Wiley.

– Power, M. J. (2000). Freud and the unconscious. Retrieved from:

 https://www.bps.org.uk/psychologist/freud-and-unconscious

– Tauber, A. I. (2013). The Rational Unconscious: The Freudian MindReconsidered. Philosophy, Psychiatry & Psychology, 20 (3): 255- 259.

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

أ. د. عبد الرحمن بن سليمان النملة

عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى