
دمٌ زُعـــافٌ (غضبٌ أحال دمها سُمًّا زُعافًا)
ترجمة: د. عبد الفتاح محمد عادل
تؤرقني ذكرى لم تمر في حياتي، أراني فيها أركض؛ تسبقني فريدا، يتطاير على ظهرها شعرها الطويل. كانت ليلة يتوهج فيها ضوء غريب؛ ضوء لا ينبعث من النجوم. تلتف فريدا وتشير إليّ بيدها وتقول: “اركضي أسرعي يا سافانا.”
تضرب قدمي على أرض قاسية صلبة، ويملأ الخوف قلبي. ألمح خلفي حريقًا هائلاً؛ وأرى حمرة لهبه البرتقالية، وبين طيات جذواته دركات سحيقة يهم أن يخرج منها وحش يلاحقنا. ألحق بفريدا وأتشبث برداء نومها المنتفخ بالهواء، فتنظر خلفها والرعب يملأ ملامح وجهها.
هنا تنقطع الذكرى، ولا يكتمل المشهد.
تحيا تلك الذكرى في مخيلتي كأنها مشهد حي؛ ولكن أنى لهذا أن يحدث ولم نفر أنا وهي من حريق قط.
مضت عشر سنوات على وفاة عمتي فريدا في حادث سير؛ كانت بمثابة أمي التي لم تلدني. لكن ذكرى كهذه لا يمكن أن تكون قد وقعت لي ولها.
* * *
يصيح بي سولي من خلف طاولة المحاسبة: “آمل ألا تظلي طوال اليوم تعيقين الحركة عند مدخل المتجر!”
لم ألق لكلامه بالاً، فاليوم من الأيام التي تتلبسني الشياطين، ويضيق خلقي. هذا حالي كما تصفه ميني عندما ينتابني هذا الشعور: “سافانا، ها قد تلبستك الشياطين، تعالي واجلسي بجانبي، إهدائي يا بنيتي”
نظرت للطريق الفارغ من مدخل المتجر الصغير، تسطع شمس الظهيرة في كبد السماء؛ وعلى امتداد البصر، تتجمع السحب فوق رأس جبل الشيطان. لم آت هنا إلا لشراء الحلوى، أريد سكريات تقويني على المذاكرة؛ تبقى لي ثلاث مقررات، وأنعم بعدها بثلاثة أشهر في إجازة الصيف.
تقدمت خطوة ثم تراجعت. تراءت الذكرى أمامي كأني أعيشها. أمسكت حلوى الجلي التي اشتريتها، لم أستطع تناولها والشياطين تتلبسني. عدت إلى سولي وهو متكئ على الطاولة، وقد بدأ المشيب يدب في عارضيه. هز رأسه وهو ينظر إلي ويقول: “ستتناولين كل هذه السكريات؟ ستقتلك يومًا ما.”
عجبًا كأنه ليس البائع الذي يتكسب من إدماني لها.
أعطيته كيس حلوى الجيلي وأنا أقول: “هل بإمكاني أن أعيدها وأسترد نقودي؟”
“لقد فتحت الكيس.”
“لا تعبأ بمثل هذا التفاصيل، يا سولي.”
“وتناولتِ بعضها.”
“هل أفهم من كلامك أنك ترفض؟”
رفع الصحيفة التي يقرأها أمام وجهه، فلم أعد أراه وهو يقول: “عودي إلى بيتك، يا سافانا.”
على الصفحة الرئيسية للصحيفة صورة امرأة باسمة المحيا، ينبأ عنها الخبر الصادم أنها تلقت سبع طعنات.
خرجت من المتجر، ومررت بسيارة تقف عند أرض الملعب المهجور، بها شابان يدخنان من نوافذ السيارة المفتوحة. لمحت بريق عينيهما ما إن رآني. قال أحدهما بصوت زلق رخيم: “أهلاً يا حلوة.”
لم ألتفت، ومضيت في حال سبيلي، فلدي خبرة كافية بمثل هذه المواقف.
سمعته يغني: “امرأة شهية،” فالتفت إليهما وليتني ما فعلت.
رأيته يتفحص جسدي، تخترق عيناه قميصي الداخلي خلف رداء التُل الرمادي الخفيف، حتى رجلي العاريتين وحذائي.
قال بصوت يشبه القبلة: “ممممم!” كأني وجبة شهية أمامه.
لم أشتط غضبًا، لكن الشياطين التي تسكنني وجدت مرتعها.
توجهت نحو السيارة؛ لمحت قطعة حديدية بجوار إطارها.
قال الشاب العشريني الذي يشبه وجهه الحشرات التي تظهر في الرسوم المتحركة: “أنا معجب بك يا حلوة.”
“اللعنة عليك وعلى إعجابك.”
فالتفت لصاحبه وهو يشير بإبهامه إلى ويقول: “أسمعتها؟”
ركز الشاب ذو الشفاه الغليظة واللحية الصغيرة نظره على جسدي وقال: “تبًا لك! يا صغيرة.”
فقال ذو وجه الحشرة بصوت أجش: “لم أقل سوى مدح لك، لكني أحب الفتيات بذيئات اللسان، يزددن جمالاً مع تغير مزاجهن.”
استدار في جلسته، فلمحت السلاح المعلق على خصره حتى قبل أن ينحسر طرف قميصه، وتظهر يد السلاح السوداء.
قال: “ألا تخافين،” ثم هز رأسه وأكمل: “في منطقة كهذه لا تدرين ما يمكن أن يحدث لك!”
وما حدث بعدها كان أسرع من المتوقع. ألقيت بحبات الحلوى على الأرض، وأمسكت القطعة الحديدية، وأخذت أضرب مقدمة السيارة. لم تحدث ضربتي الأولى إلا انبعاجًا بسيطًا مما زاد حنقي، فتراجعت وهويت عليها بكل قوتي.
تناثر الزجاج في أرجاء المكان، وأنا أضرب هنا وهناك. خبأ ذو وجه الحشرة وجهه خلف ذراعيه في ذهول، وأنا ماضية في نوبتي. خرج الشاب الآخر مسرعًا من الباب الجانبي، لكنه لم يجرؤ على الاقتراب مني. كان يرتعد خوفًا. كدت أن أضحك من حاله.
خرج الناس من بيوتهم يتهامسون: (انظروا للجنية، ستمزقه إربًا).
توقفت عندما أمسك بي سولي، ونزع قطعة الحديد من يدي، وهو يقول بصوته الرقيق: “إهدائي يا سافانا.” ارتعد جسدي، ولم أدر ما أقول. اقتربت خالاتي مني يزلن قطع الزجاج المهشم التي علقت بقميصي. تقرح باطن يدي، رغم أني لم أشعر بتلك الكدمات إلا ساعتها.
صاحت امرأة: “الشرطة في الطريق.”
ما إن سمعها ذو وجه الحشرة حتى استدار بالسيارة، فمن ينتظر في مكان ستأتي له الشرطة. انطلق بالسيارة ورفيقه يقفز داخلها.
صاح بي ملوحًا بأصبعه: “ستدفعين ثمن فعلتك، موعدنا على طريق بيرنز وإياك ألا تأتي ومعك مال التعويض.”
فرد عليه سولي: “سأقابلك هناك غدًا.”
انطلقت السيارة تملأ المكان برائحة وصراخ احتكاك إطاراتها.
صحبني سولي في عودتي للمنزل؛ لم يصمت لحظة، وهو يتحدث عن متجره، ويسألني عن اختبار الغد، وما إذا كنت سأستمر في تدريب الرقص العام القادم.
ضاقت نفسي بكل شيء حتى إنه عندما سألني: “هل حددت كيم موعد زفافها؟” لم تتقلص معدتي قلقًا من حديثه عن هذه الكارثة الوشيكة: زواج والدتي من كوينتون.
هدأت الشياطين بعد أن نالت قسطها اليوم.
عاودني الخوف تلك الليلة بعد أن صابرت نفسي على فورة غضب أمي القلقة، وصمتها المخيف بعدها. لم تجد ملاذًا إلا في أحضان كوينتون الذي لم يجرؤ على النظر إلي.
ربت على كتفيها النحيفة، ثم لمحني بطرف عينه وهو يؤكد أنه سيقابل سولي في البيت المجاور ليعطيه التعويض.
استلقيت في سريري أفكر عما يدور بخلد كيم: (ابنتي يتملكها وحش؛ ابنتي ملعونة).
إنها حكاية توارثناها جيل بعد جيل؛ حكاية اللعنة التي ارتبطت بامرأة لاقت من القسوة ما أشعل غضبًا مدمرًا بداخلها. إنها جدتي هيلا التي نتوارث نحن إناث العائلة نوبات غضبها.
تقلبت على جنبي الآخر أبحث عن بقعة باردة على وسادتي. بصيص ضوء المساء كشف الحمرة البرتقالية لكدمات معصمي.
وقعت هيلا في رق الاستعباد عند أسرة لا تعرف الرحمة. اشتعل غضبها حتى ثار يومًا كالبركان.
صبت عليهم لعنتها: (الموت سيطالكم قبل أن تنعموا بحياتكم).
لعنتهم لكل سوط انهال عليها، ولكل صفعة تلقتها منهم، ولكل كلمة نابية سمعتها منهم: (لن تفلتوا من غضبتي).
لعنت سيدها الذي اغتصبها، مثلما لعنت زوجته التي غضت الطرف عن فعلته: (سيرديكم غضبي صرعى).
لعنت أسلافهم، وأبنائهم، وأبناء أبنائهم في كل نسلهم: (سيظل غضبي يصرعكم أنتم، وأبنائكم، وأبناء أبنائكم حتى يخمد).
ظلت تقاسي حتى واتتها فرصة الهرب وسط حريق دمر كل شيء أتى عليه.
لم يدر بخلدها حينها أن من أحشائها سيولد له مولود.
أتخيلها تجرى على أرض قاسية صلبة، لا يضيء سماء ليلها إلا لهب الحريق. ظلت تجرى حتى كاد قلبها أن ينفطر.
إنها تلك الذكرى التي تحيا بين أضلعي.
الهوامش:
* تعريف بالكاتبة: ماري واتسون كاتبة شابة من جنوب أفريقيا؛ حصلت في 2006م على جائزة (كين) للكُتاب الأفارقة، وأُدرج اسمها عام 2014 في قائمة كتاب أفريقيا الواعدين. ترجمت مجموعتها القصصية (طحالب) للعربية في 2006م وصدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
* تعريف بالرواية: “دم زعاف” هي رواية يافعين تصور حياة سافانا ذات السبعة عشر عامًا التي ورثت لعنة عن جدتها التي قاست العبودية في صغرها وأحالت غضبها إلى لعنة تتوارثها حفيدة لها في كل جيل على هيئة نوبات غضب وموت يلاحقهن في صباهن. تقرر سافانا ألا تستسلم لقدرها وتسعى للهروب من اللعنة ومصيرها. تمزج الكاتبة في الرواية التشويق والسحرية بالموروث الثقافي الأفريقي المعبر عن غضب أجيال عانت القهر والعبودية خاصة النساء. صدرت الرواية عام 2022م عن دار بلومزبيري للنشر.
عدد التحميلات: 0