العدد الحاليالعدد رقم 43ثقافات

فن الكلام وكسب قلوب الأنام

ما من قائد أو مسؤول، ولا معلم أو طبيب، ولا تاجر أو مهني، ولا سياسي أو زعيم ناجح، إلا وفن الكلام وسحر الحديث هو رأس مال نجاحه؛ وللنبي محمد ﷺ حصة الأسد في فن الكلام وفي سحر التأثير (فُضِّلْتُ على الأنبياءِ بسِتٍّ: أُعطيتُ جوامعَ الكلِمِ، ونُصِرْتُ بالرُّعبِ، وأُحِلَّتْ لي الغنائمُ، وجُعِلت لي الأرضُ طَهورًا ومسجدًا، وأُرسِلْتُ إلى الخَلقِ كافَّةً، وخُتِم بي النَّبيُّونَ) – صحيح ابن حبان. وهناك مدارس خاصة في الغرب لتعليم الطلبة فن الكلام ليكونوا قادة المستقبل للبلاد.

وقوة الكلمة وسحرها تكمن في فن كسب قلوب الناس، وكيفية اجتذاب واستقطاب المقابل بالحديث الشيق، وتوظيف مفردات كلام ذوات تأثير مغناطيسي في فن التعامل والكلام والتحكم بمشاعر الآخرين وإنقيادهم لما تريد.

عبر سنوات تعاملي الشخصي الطويل في مجال الحياة عامةً، وفي حقل الطب خاصةً، وتدريبي المهني على فنون الإدارة في معهد القادة والإداريين في إنجلترا، ومما استقيته من حصيلة دراساتي ومشاهداتي الميدانية ومواكبة الأحداث عبر زمن طويل، ادخرت مخزونًا رصينًا ونادرًا من خبرات متراكمة في فنون الكلام المؤثر وسحر الحديث الجذّاب، ابتداءً من سلبيات تلكؤ سابقًا، وتعلمي منها لاحقًا، وتدريبي المستمر على تصحيحها في مجال الحياة الواسع، واستثمارها بنجاح في مجالات الحياة عمومًا، وفي حقلي الطبي المهني خصوصًا.

وفن الكلام موضوع نفيس بل هو القلب النابض لكسب القلوب وكيفية التعامل مع الناس. وهذا موضوع خطير، قلّما يُدرّس نظريًا أو عمليًا في المدارس والمعاهد والجامعات، وإن كان التواصل Communication and Inter-Connection أمسى موضع إشادة حديثة بالغة الأهمية في النجاح المهني وفي التعيين الوظيفي، بل وفي شتى مناحي التعامل المهني في الحياة، خصوصًا في تعامل الأطباء مع المرضى! وصارت تخصص له دورات (كورسات) تدريب مهني كثيرة في شتى بقاع المعمورة.

وللكلمة مسؤولية Accountability تقتضي المسائلة والمحاسبة لقوله تعالى: (وقفوهم إنهم مسئولون) الصافات:24 أي قفوهم حتى يُسألوا عن أعمالهم وأقوالهم التي صدرت عنهم في الدار الدنيا. بل إن الإنسان أسير كلمته لقوله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق: 18]، أي ما يتكلم من كلام ويلفظه إلا لديه ملك يرقب قوله ويكتبه، والرقيب الحافظ المتتبع لأمور الإنسان يكتب ما يقوله من خير وشر، فكاتب الخير هو مَلَكُ اليمين، وكاتب الشر مَلَكُ الشمال. والكتابة شاملة للقول والفعل أيضًا، لقوله تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الإنفطار:10-12]. وقال العلماء: يكتب على الإنسان كل شيء حتى أنين المرض، فإذا كان آخر النهار محا عنه ما كان مباحًا (نحو انطلق، اقعد، وكل ما لا يتعلق به أجر أو وزر)، فلا يكتب إلا ما يؤجر به أو يؤزر عليه. والحقيقة أنه ليس هناك أحد أصدق من الله قولاً وخبرًا كما قالها رب العزة: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) [النساء:122]

وفي حديثه ﷺ لمعاذ بن جبل، قالَ ﷺ: (رأسُ الأمرِ الإسلامُ، وعمودُهُ الصَّلاةُ، وذروةُ سَنامِهِ الجِهادُ، ثمَّ قالَ: ألا أخبرُكَ بملاكِ ذلِكَ كلِّهِ؟ قُلتُ: بلَى يا رسولَ اللَّهِ، قال: فأخذَ بلِسانِهِ، قالَ: كُفَّ عليكَ هذا، فقُلتُ: يا نبيَّ اللَّهِ، وإنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكَلَّمُ بِهِ؟ فقال: ثَكِلَتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهَل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وجوهِهِم أو على مَناخرِهِم إلَّا حَصائدُ ألسنتِهِم).  صحيح الترمذي

(إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن رِضْوانِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بها دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَهْوِي بها في جَهَنَّمَ). صحيح البخاري

إن أثَرَ الكلمةِ وما يترتَّب عليها مِن أجرٍ أو وزرٍ قضية في غاية الخطورة، فقد يتكلم العبد بالكلمة ممَّا يرضاه الله ويحبه، لا يلتفت لها قلبه وباله؛ لقلّة شَأنِها عنده، فيرفعه الله بها درجاتٍ في الجنَّة، وإنَّه ليتكلَّم بالكلمة الواحدة ممَّا يكرهه اللهُ ولا يرضاه، لا يلتفت باله وقلبه لعظمها، ولا يتفكَّر في عاقبتها، لكنَّها عند الله عظيمة في قبحها، فيهوي بها ويسقط بسببها في دركات جهنم.

وأضف لذلك قوله ﷺ: (كفى بالمرء كذبًا أن يحدّث بكل ما سَمِع) أي يحدّث بكل ما هبّ ودبّ ولا يبالي، لأن المؤمن ينتقي، فلا يحدث إلا بشيء ينتقيه لينفع به، مصداقًا لقوله ﷺ: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت).

وهنا تحذير لخطورة الكلمة؛ فإنَّ الكلمة إذا لم تَخرج من الفم فالإنسان مالكها، فإذا خرجت كان أسيرها. فقد يخرج المسلم من إسلامه بسبب كلمة، كما أن دخوله الإسلام يكون ينطق كلمة (الشهادة)، وقد ينصر الله الإسلام بكلمة.

وفي حديثه ﷺ الماتع الرائع: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء) يعدّ القول الطيب إحدى صنائع المعروف (التي تشمل القول والفعل) التي تحمي صاحبها من عواقب الأمور والقتل.

والعكس من ذلك كما في المقولة الشهيرة: (لسانك حصانك إن صنته صانك وإن هنته هانك)، فإن الكلمة قد تأتي بحتف صاحبها في الدنيا قبل الآخرة. فكم من لسان جنى على صاحبه، وكم من شاعر قتلته قصيدته، وهذا موضوع يستحق الذكر مع بعض الإسهاب والإطناب ليتعـظ به الناس والقُـرّاء (سنذكره لاحقًا إن شاء الله).

ومن هنا كان اختيار السفراء يتميز بكفاءتهم ووسامتهم ودبلوماسيتهم في القول فيعتمدون اللطف والتورية ولا يغيظوا المقابل بالكلام.  كانت بريطانيا تختار الأشقر الطويل أزرق العينين للسفارة في الهند والشرق الأوسط ليبدو مختلفًا عن الآخرين، فكان لورنس العرب سفيرًا للشريف الحسين في الحجاز، كان أشقرًا طويلاً أزرق العينين.

ولقد أختار رسول الله ﷺ مصعب بن عمير ليكون سفيره في المدينة؛ فكان بحق أول سفير في الإسلام، بل والمبعوث الشخصي لقائد الأمة ونبيها محمد ﷺ، وهو المشهور قبل الإسلام بجماله وارتدائه أفضل الملابس وأغلاها وتعطُّره بأجمل العطور، فعُرِف بـ«أعطر أهل مكة»، فكان هذا الصحابي الجليل مصعب بن عمير أوّل من هاجر من مكة إلى المدينة، يُفقّه الأنصار ويعلّمهم دينهم، ويدعو الجميع إلى الإسلام، ويهيأ المدينة ليوم الهجرة النبوية العظيمة، وكان مصعب بن عمير يُلقّب بـ (المقرئ) وهو أول من لُقّب بهذا، أي المقرئ، حتى تمت الهجرة النبوية الشريفة وبداية بناء دولة الإسلام.

وما هذه المقالات إلا كورس/دورة تعليمي إداري مهني مكثف وفريد، يتناول فـن الكلام ومهارات التواصل والتأثير وكيفية كسب القلوب بالمعاملة الحسنة.

الهدي النبوي في فن التعامل

تقعيد القواعد العامة طيب الكلام (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)[البقرة:83]:

هي القاعدة الأولى والكبرى في فن الكلام والتعامل مع الناس؛ يتكرر ذكرها في القرآن صراحة أو ضمنًا، كقوله تعالى: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) [الحج:24]، وقوله: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[الإسراء:53]، وقوله: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [العنكبوت: 46].

ومن اللطائف أن هناك قراءة أخرى لحمزة والكسائي: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حَسَناً}. قال أهل العلم: (والقول الحسن يشمل: الحسن في هيئته، وفي معناه، ففي هيئته: أن يكون باللطف، واللين، وعدم الغلظة، والشدة، وفي معناه: بأن يكون خيرًا، لأن كل قولٍ حسنٍ فهو خير، وكل قول خير فهو حسن) [تفسير العثيمين:3/196].

وقوله تعالى: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) – وهدوا إلى الطيب من القول أي أرشدوا إلى طيب الكلام في الدنيا، وقراءة القرآن من طيب الكلام. وهدوا إلى صراط الحميد أي إلى صراط الله (الإسلام). ومن معاني الكلمة الطيبة هي: شهادة أنَّ لا إله إلَّا الله، فإنَّها تُثْمِر جميعَ الأعمال الصَّالحة الظاهرة والباطنة، وهي الكلمة التي تَسُرُّ من يستمع إليها وتنفعه، وتُحدث أثرًا طيِّبا في نفسه وقلبه، ولا تحمل الأذى، ولا تدعو للشرِّ، وغايتها النَّفع، وثمرتها العمل الصَّالح.

فأضيئوا أرواح الناس بطيب الكلام، الكلمة الطيبة لا تكلف شيء ولكن أثرها يبقى في نفوس الآخرين، يقول المصطفى ﷺ (الكلمة الطيبة صدقة)، وقد كان سيد الخلق يوصف بأنه حلو الكلام وعذب الحديث وطيب المعشر، وقد نزلت عليه الآية الكريمة (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).

والكلمة الطيبة والذكر الحسن من أعظم الآثار التي يتركها المرء في الدنيا وبعد الممات لمن يقتدوا بها.

قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ٖ) [يس:12] معنى الآية: إنا نحن نحيي الموت (عند البعث)، ونكتب ما قدموا (من الأعمال من خير وشر)، وآثارهم) أي: ما سنوا من سنة حسنة أو سيئة. قال النبي ﷺ: (من سن في الإسلام سنة حسنة يعمل بها من بعده، كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا). وآثارهم التي كانوا سببًا فيها في حياتهم وبعد مماتهم من خير كالولد الصالح، والعلم النافع، والصدقة الجارية، والذكر الحسن والكلمة الطيبة، ومن شر كالشرك والعصيان. وما فعلوه من حسن وسوء، وما اقتدى به أحد من الخلق. في إمام مبين (أي في اللوح المحفوظ).

والكلمة الطيبة صدقة تحجب المؤمن من النار؛ ففي الحديث المتفق عليه (في صحيح البخاري: حدثنا شعبة قال ذكر النبيﷺ النار فتعوذ منها وأشاح بوجهه ثم ذكر النار فتعوذ منها وأشاح بوجهه قال شعبة أما مرتين فلا أشك ثم قال: (اتّقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة) والكلمة الطيبة شعبة من شعب الإيمان؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت) (متفق عليه). وبالكلمة الطيبة تتحقق المغفرة لقوله ﷺ: (إن من موجبات المغفرة بذل السلام وحسن الكلام) (رواه الطبراني)، بل إن الكلمة الطيبة سبب لدخول الجنة لقوله ﷺ: (في الجنة غرفة يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها لمن ألان الكلام وأطعم الطعام بات لله قائمًا والناس نيام) (رواه أحمد في مسنده).

ورسول الله ﷺ هو المثل الأعلى لأمته لم يكن فظًا غليظًا، بل كان سهلًا سمحًا، لينًا، دائم البشر، يواجه الناس بابتسامة حلوة، ويبادرهم بالسلام والتحية والمصافحة وحسن المحادثة، علَّمنا أدب التخاطب وعفة اللسان. عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلتُ يا رسولَ الله، أيُّ المسلمين أفضلُ؟ قال: (مَن سَلِم المسلمون من لسانه ويده)؛ متفق عليه. وقال ﷺ: (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء) (رواه ابن الحاكم في المستدرك على الصحيحين).

بل المرء ينال بحلو لسانه ما لا ينال بقوة سلطانه، ويظفر بجميل القول وحسن الكلام ما لا يظفر بسلاطة اللسان وحدّ الحسام. فاللسان باب حماية للإنسان من مصاعب ومشاكل الدنيا، وفي خزينة الأمثال العراقية المثل الشهير: “اللسان الحلو يطلّع الحَيّه من الزاغور”. وهو مثلٌ عراقي يُضرب للرجل ِ يتلطف الوصول لحاجتهٍ بكلام ٍ لطيفٍ، والزاغور هو جُحر الحية ووكرها الذي تختبئ فيه. يرتبط هذا المثل بقصه خيالية فيها حكمة بليغة. فيروى أن رجلاً كان يعيش في بيت قديم مع زوجته وولده. وكان في البيت حيّة تعيش في جحر (زاغور) بأحد حيطانه منذ أمد بعيد. وكان الرجل يكره الحيّة في بيته، ويخشى منها على ولده. وذات يوم رأى الرجلُ الحيّةَ تهمّ بدخول جحرها، فأسرع إليها ليقتلها، لكنها أفلتت منه، ودخلت جحرها لتنجو بحياتها. ومنذ ذلك اليوم، أضمرت الحيّة للرجل وأهل بيته شرًا.  وفي صباح أحد الأيام، رأت الحيّة ربة البيت تعدّ الفطور لزوجها وولدها، فتضع الحليب في أواني على مائدة الطعام. فاغتنمت الفرصة للانتقام، فجاءت إلى الحليب فذرفت فيه من السم الزعاف ما يكفي لقتل جمع كثير. ثم عادت ودخلت جحرها. ثم استيقظ الرجل من نومه، فسمعت الحيّة زوجته تلومه على كراهيته للحيّة ومحاولته قتلها. وقالت له: (أنت غلطان. هذي الحيّة ساكنة معنا لسنين، وصارت من أهل البيت، وأنا أحبها مثل حبي لولدي). فأجابها: (والله، أنا متندم على ما فعلته بها. ومن الآن فصاعدًا سوف أعامل الحيّة مثل معاملتك ومحبتك لها). فأنصتت الحيّة لحديثهما، وندمت هي الأخرى على فعلتها من ذرف السم في الحليب. فأسرعت من جحرها، وذهبت لموضع رماد، فتمرغت فيه. ثم راحت لأواني الحليب فلوثتها بالرماد، ليصير غير قابل للشرب، وهكذا أنقذت العائلة من موت محتّم. ثم علمت المرأة بأمر الحية مع الحليب، وخروجها من جحرها لتلوّثه. كما علمت أن الحيّة إنما فعلت ذلك بعد استماعها لكلامها وكلام زوجها. فقالت في ذلك: (اللسان الحلو يطلّع الحيّة من الزاغور). وهكذا علم الناس بذلك الأمر، فعجبوا من فعل الكلام الطيب. فـذهب ذلك القول مثلاً.

والكلمة معيار للسعادة أو الشقاء، ففي الصحيحين أنه ﷺ قال: (إنّ العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالًا يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم). فكم من كلمة طيبة تدفع عن مسلم أذى، أو تنصر مظلومًا، أو تفرِّج كُربة، أو تعلّم جاهلًا، أو تذكّر غافلًا، أو تهدي ضالًا، أو ترأب صدعًا أو تطفئ فتنة؟!  وكم من مشاكل حُلّت، وكم من صِلات قَوِيَت، وكم من خصومات زالت بكلمة طيبة؟! واللسان الطيب الحلو هو قلب الخلق القويم، وله مردود تجاري مهني مكلل بزيادة الرزق والبركة، إذ يستقطب الزبائن، ويستدر الأرباح، ويجذب القلوب، ويُكثِر الشراء.

وعلى العكس من ذلك، فكم من كلمة خبيثة مزقت بين القلوب، وفرقت بين الصفوف، وزرعت الأحقاد والضغائن في النفوس وخربت كثيرًا من البيوت؟ فمن ألجم لسانه بلجام الإيمان وعطّره بطيب الأقوال قاده الرحمن إلى الرضوان وأعالي الجنان، ومن لطَّخَ لسانه بقبح الكلام من زور وفُحش وكَذِب وبهتان هوى به الشيطان إلى دركات النار، فعـن محادثة مُعَـاذ بن جَبَلٍ: قَالَ رسول الله ﷺ: (أَلا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَارَسُولَ اللهِ، قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامُ وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ وَذروَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ ثُمَّ قَالَ: أَلا أُخبِرُكَ بِملاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا. قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَامُعَاذُ. وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَو قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلسِنَتِهِمْ) (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه).

وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله ﷺ: (مَن يضمنْ لي ما بين لَحْيَيْه وما بين رجلَيْه، أضمنْ له الجنة) البخاري.

وعن عقبةَ بنِ عامر قال: قلت: يا رسولَ الله، ما النجاة؟ قال: (أمسك عليك لسانَك، ولْيَسَعْك بيتُك، وابكِ على خطيئتك) صحيح الألباني

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه – رَفعه – قال: (إذا أصبح ابنُ آدم، فإن الأعضاء كلَّها تكفر اللسان، فتقول: اتقِ اللهَ فينا؛ فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوجَجْت اعوججنا)؛ رواه الترمذي، وابن أبي الدنيا، وغيرهما.

نحتاج هذه القاعدة بكثرة، خاصةً وأننا في حياتنا نتعامل مع أصناف مختلفة من البشر، فيهم المسلم وفيهم الكافر، وفيهم الصالح والطالح، وفيهم الصغير والكبير، بل ونحتاجها للتعامل مع أخص الناس بنا: الوالدان، والزوج والزوجة والأولاد، بل ونحتاجها للتعامل بها مع من تحت أيدينا من الخدم ومن في حكمهم. فمثلاً:

1ـ مع الوالدين: )وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) [الإسراء:23] وهو الأمر بالقول الكريم، بلا تعنيف، ولا تقريع ولا توبيخ.

2ـ مخاطبة السائل المحتاج:

(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) [الضحى: 10] بل عض العلماء يرى عمومها في كل سائل، سواء كان سائلاً للمال أو للعلم، قال بعض العلماء: «أي: فلا تزجره ولكن تفضل عليه بشيء أورده بقول جميل» [تفسير الألوسي:23/15].

3 ـ ومن التطبيقات العملية لعباد الرحمن، بقوله:

(وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)[الفرقان: 63]: والمعنى: «وإذا خاطبهم الجاهلون بالله بما يكرهونه من القول، أجابوهم بالمعروف من القول، والسداد من الخطاب» [تفسير الطبري: 19/295]. وهم يقولون ذلك «لا عن ضعف ولكن عن ترفع، ولا عن عجز إنما عن استعلاء، وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة بما هو أهم وأكرم وأرفع» [الظلال: 5/330].

ومن المؤسف أن نرى كثرة الخرق والتجاوز لهذه القاعدة في واقع أمة القرآن، فمثلاً:

1ـ دعاة التبشير للنصرانية يحرصون على تطبيق هذه القاعدة، لأجل كسب الناس لدينهم المنسوخ بالإسلام!

2ـ في التعامل مع الوالدين.

3ـ في تعامل الزوج مع زوجه.

4ـ مع الأولاد.

5ـ مع العمالة والخدم.

وقد نبهت آية الإسراء إلى خطورة ترك تطبيق هذه القاعدة، فقال سبحانه:

(وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا)[الإسراء:53]! فعلى من ابتلي بسماع ما يكره أن يحتمل أذى من سمع، ويعفو ويصفح، وأن يقول خيرًا، وأن يقابل السفه بالحلم، والقولَ البذيء بالحسن، وإلا فإن الرد بالقول الرديء يستطيعه أي أحد وكل من هبّ ودبّ. وهذه واقعة لأحد دهاقنة العلم وهو الإمام مالك – رحمه الله – مع الشاعر الذي قضى عليه بحكم لم يرق له، فتهدده بالهجاء، فقال له مالك: «إنما وصفتَ نفسك بالسفه والدناءة، وهما اللذان لا يعجز عنهما أي أحد، فإن استطعت أن تأتي الذي تنقطع دونه الرقاب فافعل: الكرم والمروءة» [ترتيب المدارك:1/59].

إن الكلام الليّن يغسل ضغائن النفوس، ويحول العدو اللدود إلى حميم ودود. مرّ يهودي يجر وراءه كلبًا بإبراهيم بن أدهم فأراد أن يستفزه فقال له: يا إبراهيم أَلِحْيَتك أطهر من ذَنَب هذا الكلب أم ذنبه أطهر منها؟ فرد عليه إبراهيم بهدوء المؤمن وأدبه وقوة حجته: إن كانت لِحْيتي في الجنة فهي أطهر من ذَنَب كلبك، وإن كانت في النار لذنب كلبك أطهر منها.. فما كان من اليهودي إلا أن قال: دينٌ يأمر بهذه الأخلاق حريّ بي أن أتّبعه، ونطق الشهادتين!!!

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى