
السجالات الأدبية بين النزعة الفردية والنقد المنهجي (لمحة عن الأدب الفرنسي)
لا يكاد يخلو أي عصر أو مجتمع من الخصومات الفكرية والأدبية. فليس ممكنًا أن تتفق الآراء والمواقف على الفكرة نفسها دائمًا، فوجهات النظر تختلف تبعًا لقناعة الشخص وتقديراته وتصوراته للصواب والحقيقة. وإذا نقبنا في التراث العربي مثلاً نجده زاخرًا بالخصومات المثيرة للاهتمام، سواء التي دارت خلال العصر الأموي بين الفرزدق والأخطل وابن جرير أو التي وردت في الفترة الحديثة بين العقاد وطه حسين مثلاً. والأمر نفسه عن النزاعات الأدبية في الفكر الفرنسي فهي متعددة، إلا أنها كانت في بعض الأحيان تجانب النقدي البناء إلى تصفية الحساب الشخصي باستخدام البذيء من الكلام.
إن البحث في تاريخ الأدبي الفرنسي خلال الحقبة المعاصرة والحديثة يجعلنا نقف عند جملة من الخصومات الأدبية التي تجعلك تستوعب من جهة طبيعة الذهنيات في تلك الفترة واتجاهاتها المذهبية، ومن جهة أخرى التعرف على طبيعة الصراع الفكري آنذاك ومدى إسهامه في خلق دينامية إبداعية.
سجال صونيت sonnet
قضية صونيت هي واحدة من المعاركة الطريفة التي نشبت بعد أول عرض لمسرحية فيدرو ابوليتPhèdre et Hippolyte لكاتبها راسين (Forestier, 1877)، حيث ألف دوق دو نفير Duc de Nevers قصيدة ينتقد فيها بحس فكاهي لاذع ليس فقط الممثلة الشابة Anne d’Ennebaut, حفيدة 1Montfleury لضعف أدائها لدور البطلة الإغريقية اذ كانت تنقصها الثقة في نفسها، إنما كان الغرض هو معاتبة راسين على ارتكابه بعض الانزلاقات في النص والحوار، حيث طال الحبكة الدرامية بعض التشويه، ويقول الدوق في هذا الصدد:
ترتعد فيدر شاحبة على الأريكة الذهبية
رددت أبياتا لكن لم يستطع أحد سماعها،
في حضرتها
قدمت مربيتها خطابًا مسيحيًا قويًا
***
هيبوليت بقدر ما يحبها يكرهها
لا شيء يبدل من قلبه أو ثباته
مربيتها تتهمها وتأنب نفسها
(Georges Forestier, p. 1618)
والمعركة طبعًا لم تنتهي عند هذا الحد، فراسين لم يبقى مكتوف اليدين، فأطلق بذاك العنان لمداده ربما بمساعدة بولو مؤلفًا ردًا تم الإبقاء فيه على نفس قافية وروي قصيدة الدوق، متجاوزًا ذلك أدب النقد إلى مهاجمته في عرض وفضح نزواته ومغامراته:
يرتعد دامون غيورا في قصره الذهبي
يردد أبياتا لكن لم يستطع أحد سماعها
***
ملهمته، للأسف، بقدر ما يحبها تكرهه.
(Racine, 1999, p 1802)
لكن الغريب فيما بعد ان كل من راسين وبوالو Boileau، نفيا كونهما وراء كتابة هاته القصيدة العنيفة والجارحة، فالصقا التهمة بالكونت فييسك le comte de Fiesque وماركيز دو فيات marquis d’Effiat. ولم يدخر الدوق من جديد أي جهد ولم يمهلهم أي وقت فقام بنسج نص شعري كل حقد وتصعيد وتهديد، محتفظًا طبعًا بنفس القافية والروي:
راسين وديبريون حزينين شاحبين
جاء يلتمسان العفو دون الإدلاء باعتراف
***
يجب تأديب الأوغاد بالعصا على المسرح. حتى لا يلام الصالحون ( Georges Forestier, p. 1619)
في الختام انتهت هاته المعركة التي تجاوزت النقد البناء إلى التجريح والتطاول بالألسنة، بتدخل كوندي Grand Condé2 معلنًا عن حمايته الشاعرين المهددين.
ومن المعاركة المشهورة أيضًا، والتي ظلت خالدة في التاريخ نظرًا لأهميتها ولحمولتها الفكرية والرمزية، نجد السجال الذي دار بين التقليدين والمحدثين.
خصومة رعاة المحاكاة والمجددين:
نشأت الكلاسيكية في سياق سياسي تميز بتمركز السلطة في يد الملك إذ صار يتحكم في كل السلطات، بل وأصبح ينظر إلى نفسه على أنه خليفة لله في أرضه. وتأسيس الأكاديمية الفرنسية التي تعنى بحماية وتطوير اللغة الفرنسية، كما أولى عناية خاصة بالأدباء والمفكرين، بصرف معاشات سمينة لهم من خزينة الدولة ورحب بهم في قصوره ورفع من مستواهم الاجتماعي ووفر لهم الحماية، ولعل التقرب من النخبة المثقفة ومحاولة احتوائها كان الدافع القائم ورائها كسب أرباب الأقلام وإخضاع الصناعة والفن للأشراف الحكومي وضمان تغنيهم بمدحه نثرًا وشعرًا. وقد تمكن بالفعل لويس الرابع عشر من بلوغ مراده، فالنشر والطباعة خضعا لمراقبة الدولة، باستثناء مقاومة متفرقة ضئيلة.
وقد ورد أن الملك كان ذو ذوق أدبي مسرف الانحياز إلى خصائص الكلاسيكية، التي حاولت إعادة إحياء التراث الإغريقي القديم والأصيل، سواء من خلال تناول مواضيع مستسقاة من الذاكرة الميثولوجثية خصوصًا “الإلياذة ولأوديسا” لهومروس، أو الشكل الهندسي المتمسك بأصول النحو والبلاغة والعروض فذات المنطق، والدقة والتوافق في الإيقاع والوضوح والانضباط لسلطان العقل. لتصبح الفرنسية أعظم لغة أوروبا شئنا، وغدت لسان الأرستقراطية والدبلوماسية الخارجية لأزيد من قرن من الزمن، خصوصًا مع غزارة الإنتاج الأدبي مسرحًا وشعرًا، على سبيل المثال: طرطوف والبخيل لموليير، واندروماك لراسين، وهجائيات بوالو، و”أميرة دو كليف” لمدام دولفييط Madame de Lafayette وأشعار لافونطين La Fontaine الرمزية…
لكن ظهر تيار تجديدي في أواخر القرن السابع عشر رفض الاستمرار في محاكاة القدماء ولم يقبلوا بقوانين الكلاسيكية الصارمة، باعتبارها لم تعد تتماشى وتحولات العصر:
كانت العصور القديمة الجميلة دائما موقرة
لكني لم أعتقد أبدًا أنها رائعة. (Charles Perrault)
سجال هرناني: انتصار الدراما الرومنسية
مسرحية هرناني Hernani هي واحدة من المسرحيات المشهورة للكاتب فكتور هوجو Victor Hugo تم تقديمها لأول مرة بمسرح الكوميديا الفرنسية la comédie française في أواخر فبراير من عام 1830، وقد حضرها الصديق والعدو، والتي كانت سببًا في نشأة خلاف حاد بين هوجو ومن عاصره من كتاب آنذاك. إذ أنهم لم يستسيغوا حبكتها وثورتها على كل القواعد التقليدية:
“نلاحظ أن الملصق لا يعطي هذا العمل عنوان المأساة، بل عنوان الدراما. الشيء الذي يحيل على مسألة الكلاسيكية والرومانسية”(la Quotidienne, 1830)
وتدور القصة خلال عصر النهضة الإسبانية، وتروي أحداث تنافس شاب ملقب بهرناني Hernani وملك إسبانيا دون كارلوس Don Carlos ودون كوميز Don Comez حول نيل قلب فتاة المسماة دونا صول Dona Sol. وتبتعد هاته الدراما في حبكتها وشكلها عن ماسي المسرح الكلاسيكي. ذلك لأنها زعزعت أسس المسرح المتوارثة جيلاً عن جيل، فمن جهة لم تحترم الوحدات الثلاث.
أولاً، وحدة الزمن التي تلزم الكاتب أن يقدم على الركح ما وقع من أحداث خلال يوم واحد فقط، بينما عمل هوجو يصور قصة تدور أحداثها على مر شهور.
ثانيًا وحدة الحدث، حيث ان الصراع الدرامي متعدد بتعدد العقد وتداخلها التي يصعب حلها في النهاية، كما لو ان المسرحية تضم في جوفها مسرحيات أخرى.
ثالثًا، وحدة الفضاء، المعلوم إن المسرح الكلاسيكي يستلزم مكان واحد فقط يتضمن الأحداث. لكن الملاحظ ان فكتور هيجو اختار عدة فضاءات مختلفة ومتباعدة في تقديم أحداث نصه، بل وغير بشكل مكثف في ديكورات فضاءاته.
ومن جهة أخرى، وعلاوة على اختراقه للقواعد الثلاث، فإن هوجو لم يحترم الجمهور بامتناعه عن تقديم مشاهد عنيفة وصادمة. ويقول سطندال Stendhal بهذا الصدد:
“إن الرومنسيين لا ينصحون بتقليد دراما شكيبير بشكل مباشر… ما يجب تقليده في هذا الرجل…هو طريقة دراسته للعالم الذي نعيشه، وأن نمنح لمعاصرين بالتحديد العمل المسرحي الذي هم بحاجته” (Stendhal, 1927, pp. 27-28)
وقد أكد هوجو على موقفه من المسرح التقليدي قبل مدة في مقدمة مسرحيته كرومويل 3Cromwell، حيث صرح:
“لقد بلغنا قمة الشعر في الأزمنة الحديثة. شكسبير هو تجلي للدراما، كانت فضة أو سامية…المأساة والكوميديا هما سمة الجيل الثالث من الشعر والآداب الحالي ” (Préface de Cromwell)
أما جريدة La Gazette فقد وصفت عمله بالغامض والمفتقر لمغزى أخلاقي:
“خرافة سوقية ومتوحشة، سلسلة من الجرائم المقترفة بدم بارد، بدون مزيج أو ذوق فني، بدون أخلاق” (La Gazette, 183).
إن الجلبة التي أحدثتها المسرحية لم تقلل من قيمته أبدًا، إذا أنها كسبت أرباحًا جيدة بل وأعيد عرضها وطبعها مرات ومرات ووجدت الطريق إلى جمهور عريض:
“استقبل عرض هرناني بحفاوة وإعجاب وتصفيق” (La Quotidienne, 1830)
إلا أنها كانت وراء ردود أفعال قوية بين الرومنسيين المشجعين لبطلهم Victor Pavie والتقليديين المحتجين Charles Maurice, Sainte Beuve ou Jean Viennet:
“كل ينابيع هاته المسرحية مهترئة. موضوعها غير مقبول، شخصياتها كاذبة وتخالف المنطق السليم.. يبدو لنا المؤلف حتى الآن، كاتب نثر أكثر من شاعر، وشاعر أكثر من مسرحي…إن من الممكن ان تكون هيرناني موضوعًا لأغنية”4
ظلت هاته المسرحية عرضة للنقد والنقاش حتى بعد مرور سنوات من إصدارها، إذ اعتبرت كنقلة نوعية فاصلة بين عصرين. وفي هذا الصدد كتب تيوفيل غوتي Théophile Gautier في جريدة الصحافة سنة 1838:
“هرناني هي قصة أدبية فضولية، على عكس باقي الأعمال الدرامية التي لم تثر ضجة حية” (la presse, 1838, p 1)
ومن جهته عبر ألكسندر دوما Alexandre Dumas في مقال صادر نفس السنة وبنفس الجريدة عن نجاح هرناني كعمل استطاع الانسلاخ من قيود الكلاسيكية:
“هرناني استحقت التقدير وعرفت آنذاك كعمل فني متميز” (La presse, 1838, p 2)
معركة الرجل المتمرد:
كان جون بول سارتر والبير كامو نجمي الفلسفة الوجودية والآداب الطليعي بعد الحرب العالمية الثانية خصوصًا وأنهما توجا بجائزة نوبل للآداب5، ورغم الصداقة التي دامت بينهما لسنوات، انطلاقا من صيف 1943 إلى غاية 1948، ورغم الليالي الصاخبة التي قضيها معا في الملاهي ومعاشرة النساء، إلا أنها كان متواشجين طوال حياتهما الفكرية، والسبب ربما يعود لاختلاف البيئة التي نشأ فيها. فسارتر كان ينحدر من وسط برجوازي مثقف بينما كامو كان ذو أصول فقيرة ومزدوجة، جزائري وفرنسي في الآن ذاته. الشيء الذي جعل اندماجه في المجتمع الباريسي صعبًا، فكان ينظر إليه سارتر بشيء من الازدراء واصفًا إياه “ابن الشوارع الاتي من الجزائر”. وربما اتساع الحزازات تأجج بسبب وسامة كامو الذي كان يغوي ما تقع عليه أعين سارتر من نساء، لكنه يبقى في نظرنا عاملاً ضعيفًا بل ومنعدما. كما أن الظرفية التاريخية التي أعقبت الحرب مثل بروز الستالينية، وحرب التحرير بالجزائر، والالتزام في مجال الفكر والأدب نسف الصداقة بينهما.
إن التمعن في مسارهما الفكري يجعلك تشك فيما إذا كان الرجلان يتنافسان. فسارتر وبالإضافة لكونه مسرحيًا وفيلسوفًا وجوديًا فينومنولوجيا ورئيس تحرير جريدة “الأزمنة الحديثة” وصاحب مجموعة من الروائع آنذاك “الغثيان”، و”الذباب”، و”الجلسة المغلقة”، و”الجدار” و”العدم والوجود”…فإن كامو كان له نفس البروفيل فقد كان روائيًا وكاتبًا مسرحيًا ومسؤولًا على جريدة “كومبا السرية”، كما أن أعماله الأدبية كانت مزدهرة وتحقق مبيعات مهمة، متفوقًا على سارتر، خصوصًا بروايته الطاعون وسيزيف. ورغم هذا التنافس الخفي إلا أن الرجلين كانا معجبين ببعضهما.
إن بداية السجال بين الكاتبين تعود إلى حوالي 1947، بعدما نشر موريس ميروبونتي Maurice Merlaupenty مقالاً في جريدة “الأزمنة الحديثة” التي يديرها سارتر، ينتقد فيه آراء كامو:
“إنّ كامو الذي جعل من استخدام السلاح النووي والعنف الماركسي قضيّة أساسيّة نراه الآن لا يكاد يشير إلى العنف الذي تمارسه الحكومة الفرنسيّة سواء ما وراء البحار، أم داخل البلاد. وبينما بذل قدرًا هائلاً من طاقته ليُحلِّل ويُفنِّد ما رآه عُنفًا مُتأصِّلاً في الشيوعيّة، بخاصّة العنف هناك في الاتّحاد السوفياتي، هو يُحاول أن يقنع بالنزر اليسير من التعليقات النقديّة بشأن العنف الحكومي المنظَّم، مُشيرًا فقط إلى مَظاهر الإفراط في العنف حين وقعت هنا في فرنسا. ونعرف أنّه على مدى السنوات التالية من حياة كامو، غرقت فرنسا في حروب استعماريّة. كيف يتأتّى إذن لكامو أن يقول إنّ الماركسيّة تُعادِل القتل بينما الرأسماليّة أو الاستعمار ليسا كذلك؟” (ارونسون، 2006)
كما أنه كان لتباين الرجلين حول بعض التفاصيل والمسائل الفكرية وقع سلبي على مسار علاقتهما. فكامو كان يرفض تسمية الوجودية وكان نضاله متمردًا ملازمًا للعبثية ورافضًا لفكرة العنف وللمنهج الشيوعي عمومًا:
وزادت شرارة الخلاف بين الرجلين منذ عام 1947 حول مسألة الجولاج6. فبينما يقف سارتر إلى جانب النظام البلشوفي حتى لا يضر اليسار الفرنسي، كان كامو يدين الجولاج ويؤيد محاكمتهم.
إلا أن القطيعة التامة حدثت بعد صدور مؤلف “الإنسان المتمرد”، حيث ظهرت مقالات عدة تنتقد بشدة طروحاته وأراء كامو. وأغلب المنتقدين كانوا منتمين لليسار ومقربين من سارتر ومن اندري بروتون السريالي:
“ما هذا الشبح المسمّى تمرُّدًا والذي يُحاول كامو الوثوق به، ويحتمي وراءه، ويُسوِّغ تمرُّدًا هو عنده مَدخل “الاعتدال”؟ ما الذي يتبقّى من التمرُّد بعد أن نُفرغه من جوهره الانفعالي.. لا ريب عندي أنّ كثيرين سوف يخدعهم هذا الدهاء. فهذا أسلوب تُبقي فيه على الكلمة بعد أن تُفرغها من مضمونها ذاته” (Breton, 1951, 53-77)
وقد نشر نيلسون ألغرين مقالة في مجلة “الأزمنة الحديثة” منتقدًا فيها سلبية كامو بانسلاخه عن التاريخ وجهله للقيمة الحقيقية للبنى التحتية لكارل ماركس (Sartre, 1952, p 90). فثار غضب كامو واعتقد أنها محاولة لتشويه أفكاره. فكتب رسالة جافة اللهجة لسارتر (Teroni, 2013):
“أخيرًا لا أحد سوى مجلّتكم سيُراوده التفكير في الطعن بالدعوى بأنّه إذا كان ثمّة تطوّر قد حدث من رواية” الغريب ” إلى” الطاعون”، فإنّ هذا التطوّر مضى في طريق التضامُن والمُشارَكة. وأنّ الزّعم بغير هذا كذب، وحلم خيال، لكن كيف يتسنّى للمرء أن يعمل على نحوٍ مختلف إذا كان عليه أن يُثبت في منافاة لكلّ الشواهد والبيّنات، أنّني مُنفصل عن الواقع والتاريخ؟” (ارونسون، 2006)
فباغته سارتر برد عبر في نهايته عن أسفه معلنًا نهاية صداقتهما:
“عزيزي كامي: لم تكن صداقتنا سهلة يسيرة، بيد أنني سأفقدها إذ أنهيتها أنت اليوم، فذلك يعني دون شك أن كان ضروريًّا أن تنتهي، أمور كثيرة جذبتنا كلينا للآخر، وقليل منها فرق بيننا، ولكن هذا القليل على قلته كان ولا يزال كثيرًا جدًّا…كم من المؤسف أن تضعني عن عمد أمام مُحاكَمة وبمثل هذه اللّهجة القبيحة حتّى أصبحتُ عاجزًا عن الاستمرار في التزام الصمت من دون أن أفقد ماء وجهي. لذلك سوف أجيبك من دون غضب – ولكنْ في إسهاب لأوّل مرّة منذ عرفتك -، إنّ جمْعكَ بين تصوّرات كئيبة هو مَوقف هشّ حال دائمًا بينكَ وبين الناس، وبين اطّلاعك على الحقيقة من دون تجميل أو مُوارَبة. والنتيجة أنّك أصبحتَ ضحيّة زهو أخرق، يخفي مُشكلاتكَ التي تطوي عليها صدرك، والتي أظنّ أنّك تسمّيها اعتدالاً متوسّطيًّا؛ وهذا ما سوف يقوله لك شخص ما إنْ عاجلاً أم آجلاً. ولن يختلف عمّا قد أقوله بنفسي. ولكن لا تخف… لن أحاول تلوين صورتكَ، مثلما أنّني لا أريد أن أتعرّض لما أضفته من تأنيبٍ مجّاني على شخص جونسون (هو الذي كَتب المقالة ضدّ كامو)، سوف أتحدّث عن رسالتك وعنها فقط، من خلال بعض الإشارات إلى كِتابكَ إذا اقتضت الضرورة ذلك” (Sartre, 1952, p 90)
لعبت هاته الصراعات والصدامات الأدبية دورًا مهمًا في تحريك التطورات الفكرية والنقدية. كما أنها تعد شهادة حية على الأحداث في عصرها تمكن الدراس أو المهتم بحقل الأدب من معرفة طبيعة الصراع الإيديولوجي والمذهبي الذي ميز فترة أو مرحلة معينة من التاريخ، بل وتتيح الفرصة للتعرف على الظروف التي حدثت خلالها النقالات الأدبية والقطائع الابيستيمولوجية بين المدارس والتيارات.
والملاحظ أن النقد الأدبي في أحيان كثيرة كان ينفصل عن ماهيته باعتباره تفسيرًا وتحليلاً وتقويمًا للعمل الفني مع بيان قيمته الجمالية ودرجته الأدبية على أساس مبادئ منطقية وعقلانية ليغدو فقط لغطًا عقيمًا ذو نزعة أنانية وتعصبًا فكريًا وتضليلاً أعمى ونزوة فردية تناقش بدل الأفكار الأشخاص، الشيء الذي يفسد الذوق ويغيب الموضوعية.
أما الملاحظة الثانية، فهي كون التغيير والتجديد في الآداب لم يكن سلسًا إنما تلقى مقاومة شديدة وشرسة من قبل المحافظين والمواليين للتراث، مما خلق نوعًا من التدافع الفكري.
أما الملاحظة الثالثة والأخيرة، فهي كون النقد الأدبي خصوصًا قبل الرومنسية كانت تعوزه المناهج، فكان النقاد يحتكمون إلى القواعد العقائدية والمعايير الصارمة عوض التعرف على الشكل والمضمون الحقيقي للعمل الفني.
الهوامش:
- Georges Forestier. (1877). «Affaire des Sonnets. Dictionnaire universel des Littératures, 7e fascicule, par Gustave Vapereau. Paris : Hachette.
- Jean Racine. (1999). Œuvres complètes, t. I : Théâtre – Poésie, Paris, Gallimard, coll. « Bibliothèque de la Pléiade »
- Stendhal.(1927). Racine et Shakespeare. Paris : Le Divan.
- J.-P. Sartre. (1952). «Réponse à Albert Camus», TM, n. 82, août 1952 ; repris dans Situations, IV.
- Sandra Teroni. (2013). «Camus / Sartre », Revue italienne d’études françaises [En ligne], 3 | 2013, mis en ligne le 15 décembre 2013, consulté le 30 mai 2020. URL :
http://journals.openedition.org/rief/256 ; DOI : https://journals.openedition.org/rief/256
- Breton André. (1951). Révolte sur mesure. La rue, numéro spécial. pp 53 -77.
Les journaux La quotidienne
- رونالد أرونسون. (2006). كامي وسارتر. ترجمة جلال شوقي. العدد 334. عالم المعرفة-الكويت.
عدد التحميلات: 0