العدد الحاليالعدد رقم 43ثقافات

قيمة الشاهد في حفظ قواعد اللغة

لفظ “الشاهد” اسم فاعل من الفعل الثلاثي “شهِد” بمعنى الذي يُدلي بالشهادة، وقد ورد في القرآن الكريم على هذا المعنى، يقول الله تعالى في قصة إبراهيم – عليه السلام-: (قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)1 وقوله أيضًا: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)2  وقد يكون بمعنى الحاضر الذي يكون موجودًا في الواقعة أو الحدث  كما في قوله تعالى: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا)3

ومن خلال البحث عن الدلالة المعجمية للفظة “شاهِد” في أُمّات المعاجم يتضح أن الجميع يتفق على أن الشاهد هو الحاضر، اللسان، المُخبر، المُبين. فالشاهد نقيض الغائب. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في ختام خُطبة حجة الوداع: (فلْيُبلِّغ الشاهِد الغائب).

وفي تعريف الشاهِد يقول صاحب “تاج العروس”: «الشهادة خبر قاطع كذا في اللسان والأساس»4. أما ابن فارس فيفصل القول في مادة اللفظ فيقول: “مادة “شهِد” الشين والهاء والدال أصل يدل على حضور وعلم وإعلام”5

ويأتي الشاهد أيضا بمعنى الدّليل كما ورد في المُعجَم الوسيط 6، والاستشهاد طلب الشهادة، فيقال: استشهد القاضي بعضًا ممن حضر الحادثة، يقول الله تعالى: ” واستشهدوا شهيدين من رجالكم”7 والشهيد في الآية من يُدلي بشهادته.

يُجمع لفظ “شاهِد” جمع مذكر سالما “شاهدون” رفعًا و”شاهدين ” نصبًا وجرًا. وقد وردت الصيغتان في القرآن الكريم، يقول الله تعالى: (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ) 8. ويقول أيضًا: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)9 وورد بصيغة التثنية في الحديث النبوي الشريف (لا نكاح إلا بوليّ وشاهديْ عدل)10.

كما يجمع جمع تكسير للكثرة على وزن فُعول “شُهود” يقول الله تعالى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ)11، ويُجمع أيضًا جمع قلة على وزن أفعال “أشهاد” يقول الله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)12

ومن الشعر القديم الذي ورد فيه لفظ “الشاهد” قول زهير بن أبي سلمى 13:

خَبال وسُقم مُضنيءٌ ومَنِيّةٌ

                         وما غائبٌ إلا كآخَرَ شاهِدِ

وقول النابغة الذبياني14

فسكّنْتُ نفسي وقد طار روحُها

                      وألْبَسْتني نُعْمَى ولستُ بشاهِدِ

 أما من الناحية الاصطلاحية فإن لفظ “الشاهد” لم يكن معروفًا كمصطلح لغوي لدى النحاة وغيرهم من اللغويين، وبخَاصة في القرن الأول الهجري، ومن الصعب تحديد الفترة الزمنية التي ظهر فيها مصطلح الشاهد وبدأ تداوله. وإن كان هناك من يشير إلى ابن إسحاق الحضرمي ت 110 هـ وإلى استخدامه لهذا الرمز اللغوي.

ورُوِي أن الحجّاج بن يوسف الثقفي سأل سُمرة بن الجعد الشيباني إن كان يروي الشعر فقال: إني لأروي المَثَل والشاهد. فقال الحجّاج: المَثَل. قد عرفناه. فما الشاهد؟ قال: اليومُ تكون العرب من أيامها عليه شاهد عليه من الشعر. فإني أروي ذلك الشاهد.15

والسياق التاريخي للحادثة الثلث الأخير من القرن الأول الهجري فترة سلطان الحجّاج وسطوته التي لم تمنعه من يكون له قصص وأخبار مع الشعراء والرواة واللغويين والفقهاء وغيرهم.

ومن الشاهد الشعري على أيام العرب، قول عمرو بن كلثوم في المعلقة عن يوم خَزازَى:

ونحنُ غداة أوقِدَ في خَزازَى

                        رَفَدْنا فوق رِفْد الرافدينا16

 ومن ديوان النابغة الذبياني17:

تُوُرِّثْنَ من أزمان يوم حليمةٍ

                    إلى اليوم ق جُرِّبْنَ كُلَّ التجاربِ

ومدونة الشعر العربي القديم، إلى جانب كتب النحو كشرح ابن عقيل والمقاصد النحوية ونحو ذلك تحوي إعراب مثل هذه الشواهد.

وقد ورد في مُعجم المصطلحات المصطلحات النحوية والصرفية أن “الشاهد قول عربي لقائل موثوق بعربيته يورد للاحتجاج والاستدلال على قول أو رأي”18

وبحصول هذه الشروط التعريفية مجتمعة يتحقق المعنى الاصطلاحي للشاهد في تعريف مانع. فوصف القول بالعربي يُخرج من نطاق كل قول غير أعربي “أعجمي” ولو كان من عيون الكلام وبديع الحِكم.

واشتراط الوثوق عروبة القائل يستبعد الدخيل والمُوَلّد ومن تلوث لسانه من العرب بسبب وجوده في بلاد متاخمة للأعاجم كما كان شأن النحاة مع عدي بن زيد والكُميت وغيرهما.

والغاية من اجتزاء الشاهد علمية تعليمية غالبًا، وقد ورد في ذلك أن الشاهد” دليل نصي جزئي يعود إلى ما عُرف لدى النحاة بعصور الاحتجاج، وأُتي به لبناء قاعدة، ولا يمكن تأويله على وجه غيرها، وإلا عُدَّ مثالا وإن كان من نصوص عصر الاحتجاج. “19

ويُعرّف عبدالرؤوف جبر الشاهد اصطلاحًا على النحو التالي: “أما في الاصطلاح اللغوي فهو جملة من كلام العرب أو ما جرى مَجراه كالقرآن الكريم، تتسم بمواصفات معيّنة، وتقوم دليلاً على استخدام العرب لفظًا لمعناه أو نَسَقًا في نظم أو كلام أو على وقوع شيء إذا اقترن بغيره أو علاقة بين لفظ وآخر أو معنى وغيره، أو تقديم وتأخير واشتقاق وبناء، ونحو ذلك مما يصعب حصره، ومما هو محسوب في مَناحي كلام العرب الفصحاء”20

ويبدو أن التعريف الاصطلاحي السابق للشاهد توسع في حصر أوجه استعمال الشاهد إلى حد أنه استشهد ببعض المباحث التي يُعنى علم النحو بدراستها التي هي بمثابة دروس تلقى في المؤسسات التعليمية.

أما الشروط الأساسية المتفق عليها في الشاهد النحوي فهي:

– أن يكون دليلاً نصيًا على القاعدة. وهنا ينبغي أن نشير إلى أن الشاهد متقدم على القاعدة، فالشاهد كلام العرب قبل ظهور علم النحو، صدر على السجية.

– أن ينتمي إلى عصور الاحتجاج وهي العصور التي حددها علماء أصول النحو، وقُسِّمت حسب طبقات الشعراء من جاهليين ومخضرمين وإسلاميين “متقدمين” ومُوَلّدين، وزاد بعضهم طبقة المحدثين والمتأخرين. فتراوحت طبقات الشعراء بين الأربع والست.

وكان البصريون يستشهدون بشعر الطبقتين الأولى والثانية إجماعًا من غير تفريق، ولم يستشهد أكثرهم بشعر الطبقة الثالثة.21

ويحسن بنا -ها هنا – أن نعرِض للمثال كمصطلح نحوي يلتبس على بعض الدارسين بالشاهد، فلا يكادون يفرقّون بينهما، وربما ظنوا المصطلحين من باب الترادف مع أن البون بين مفهوميهما شاسع.

يُعرّف النحاة المثال بأنه تركيب مصنوع، يضعه النحاة تطبيقًا لقاعدة نحوية ومثالاً عليها”22 وبعبارة أخرى هو الوسيلة التي يلجأ إليها المتكلم لتوضيح فكرته، وتطبيقًا لصحة قوله. وقد ورد لفظ المثال في الشعر القديم، حيث قال المتنبي في رثاء أمّ سيف الدولة” 23:

وأَفْجَعُ مَن فقدنا مَن وجَدنا …قُبيل الفقد مفقودَ المثالِ

ويمكن التفريق بين الشاهد والمثال بالنقاط التالية:

-الشاهد متقدم زمانًا على القاعدة النحوية، حيث كان قبل ظهور النحو، أما المثال فمتأخر عنها.

– الشاهد مُقيّد بعصور الاحتجاج النحوي بمن يُحتج بلغتهم في الوبر والمَدَر، أما المثال فيجوز إنشاؤه في كل عصر.

– الشاهد صادر عن صفوة الكلام من شعراء وخطباء وذروته كلام الله المعجز، أما المثال فقد يأتي من عموم مستعملي اللغة.

– الشاهد غالبًا ما يرتبط بالنحو العلمي الذي يخوض فيه النحاة، وقد يختلفون في تخريج أوجهه الإعرابية تبعًا لتباين التأويل، أما المثال فيغلب على النحو التعليمي، حيث يُنشئه الأساتذة والطلبة باللغة المتداولة

ومن معاني الواقع المعيش وبألفاظه.

 

الهوامش:

1 – سورة الأنبياء، الآية 56

2 – سورة الأحقاق، الآية 10

3 – سورة يوسف، الآية 26

4 – تاج العروس، الزُّبيدي، تح عبد العليم الطحاوي، مطبعة حكومة الكويت، الكويت، ط2، 1987م، مادة ش ه د

5 – معجم المقاييس في اللغة، ابن فارس، تح شهاب الدين أبو عمر، دار الفكر، بيروت، ط2، 1998 م، مادة ش ه د

6 – معجم اللغة العربية: المعجم الوسيط، مكتبة الشروق الدولية، ط 4، مصر، 2004 م، ص 497

7 – سورة البقرة، الآية 282.

8 – سورة الصافات، الآية 150

9 – سورة آل عِمران، الآية 53

10 – رواه الترمذي

11 – سورة يونس، الآية 61

12 – سورة هود، الآية 18

13 – ديوان زهير بن أبي سلمى، شرح وتقديم علي حسن فاعور، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1988، ص 49

14 – ديوان النابغة الذبياني، تح محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، مصر، ط2، د. ت، ص 140

15 – مروج الذهب، المسعودي، تح كمال حسن مرعي، المكتبة العصرية، بيروت، لبنان، ط1، 2005، ص 114

16 – ديوان عمرو بن كلثوم، جمع وتحقيق وشرح إميل بديع يعقوب، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ط 1، 1991، ص 81

17 – ديوان النابغة الذبياني، تح محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، مصر، ط2، د. ت، ص 45

18 – معجم المصطلحات النحوية والصرفية، د نجيب اللبدي، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط1، 1985، ص 119

19 – اللغة الشعرية عند النحاة، دراسة للشاهد الشعري والضرورة الشعرية في النحو العربي، محمد عبدو فلفل، دار جرير، ط1، عمان، الأردن، ط1، 2007، ص 13 ـ 14

20 – الشاهد اللغوي، حيّ عبد الرؤوف جبر، مجلة النجاح للأبحاث، م2، العدد 6، 1992 م

21 – يُنظر: خديجة الحديثي، الشاهد وأصول النحو في كتاب سيبويه، مطبوعات جامعة الكويت، الكويت، 1974 م، ص 158 ـ 159

22 – يُنظر: الملخ حسن خميس، رؤى لسانية في نظرية النحو العربي، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن، 2007، ص 144

23 – ديوان المتنبي، دار بيروت للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، 1983، ص 265

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

د. غانم حميد

الجزائر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى