
تأملات أسلوبية في قصيدة (لله ما أحلى الطفولة) للشابي
تعد الأسلوبية من أهم المناهج النقدية المعاصرة التي تدرس النص والخطاب الأدبي للبحث عن الجماليات الكامنة في الأساليب، فمن هنا تنطلق هذه الدراسة عبر الأسلوب الوصفي التحليلي لرصد الظواهر الأسلوبية في قصيدة (لله ما أحلى الطفولة) لشَّابي في المستوى التركيبي، الصوتي، البلاغي، ومن خلال هذه الدراسة ظهر تكرار الشاعر لبعض التراكيب والصور والأصوات التي بدورها أبانة عن شعور الألم والغربة، فهي تصور الحالة الشعورية للشاعر ومعاناته.
تبحث الأسلوبية عما يتميز به النص عن غيره من أصناف النصوص الأخرى، وغالبًا ما تتحقق خاصية التفرد للنصوص الفنية في خرق القواعد المعروفة للنظام اللغوي المعروف، فالأسلوبية تهتم بكل ما يتصل باللغة في مستوياتها المختلفة؛ لإبراز العناصر التي أعطت النص أدبيته.
الأسلوبية أحد فروع اللسانيات اللغوية التي تهدف إلى البحث في العلاقات القائمة بين العناصر المكونة للخطاب؛ للكشف عما تميز به نص عن أخر من خلال البحث في المستوى الصوتي والتركيبي والبلاغي، نهدف من خلال هذه الدراسة إلى الوقوف على المستوى الصوتي والتركيبي والبلاغي دراسةً وتحليلاً في قصيدة (لله ما أحلى الطفولة) للشاعر الراحل: أبو القاسم الشابي-رحمه الله- في ضوء المنهج الأسلوبي، وقبل الولوج في عرض الدراسة أعرض نبذة يسيرة عن الشاعر:
ولد أبو القاسم الشّابّي نهار الأربعاء في الرابع والعشرين من شباط عام 1909م في بلدة (توزر) التونسية، تنقل الشّابّي في أنحاء البلاد التونسية مما أكسبه خيالاً متوثّبًا وغذّى ذاكرته بصور البيئة التونسية المتنافرة وعمّق تجربته الشّعريّة، وأكسبه تجربة إنسانية شاملة، وفي عام 1927تخرج الشّابّي من جامعة الزيتونة وانتسب بعد ذلك إلى كلية الحقوق التونسية، كوّن الشّابّي ثقافة واسعة جمعت بين التراث العربي القديم وبين روائع الأدب الحديث في البلاد العربية والمهجر، إضافة إلى ترجمات الآداب الأوروبيّة، وقد تركّزت رغبة الشاعر بصورة خاصة على الأدب العربي الذي نشأ في أمريكا على أيدي الهاجرين العرب، وتأثر به تأثرًا بالغًا، في صيف 1934شرع الشّابّي في جمع ديوانه الذي أسماه (أغاني الحياة)، لكن المنية باغتته وحالت دون تحقيق ما هدف إليه، وقد تولى أخوه محمد الأمين الشّابّي طبع الديوان بعد وفاة الشاعر، تدور أغراض شعره في الوجدانيات وما يتبعها من تأمل في الذات والوجود، وكان له موقف لا يبتعد كثيرًا عن موقف أدباء المهجر، وقد أعلن الشّابّي مرارًا أن شعره تعبير عن شعوره، فاقتصرت أغراضه على التأمل في الوجود ووصف الغابة، والطيور، والمساء، والطفولة، والموت، والله، والأمومة..إلخ، أصيب الشّابّي بمرض القلب وساءت حاله في آخر عام 1933 واشتدت عليه المرض حتى منعه الأطباء من الكتابة والمطالعة، فدخل مستشفى الطليان في الثالث من تشرين الأول سنة 1934م قبل وفاته في التاسع منه على الساعة الرابعة صباحًا يوم الأثنين، ودفن في مسقط رأسه (توزر)1
بين يدي القصيدة: بدأ الشّابي بصيغة التعجب الذي ينم عن شعورٍ داخلي استقر في قلب الشاعر؛ لدلالة صيغة التعجب في استعظام المتعجب منه وخفاء سببه، والتعجب شعور انفعالي لما في نفس الشاعر، حيث أنه بدأ بوصف الطفولة وما تفردت به هذه الفترة الزمنية عن غيرها من التعايش في ظل الظروف المتقلبة، ولكن الطفولة كأنها تعيش في عالم أخر غير الذي يكابده الإنسان في فترات حياته، اجتّزَّ الشاعر الطفولة عن تلك المراحل العمرية لنقائها، مبيناً في نهاية المطاف أنها هي الحياة؛ لأنها لم تدرك حقيقة الأمور وما يحيط بها، اختتم الشاعر قصيدته مستنتجًا سبب تفرد الطفولة في شعورها، إذ تحمل الطفولة رمز السلام والنقاء، فبين سطور الشاعر ترى ذاته الغارقة في الطفولة.
“العنوان: هو أول ما يلقاه القارئ من العمل الأدبي، هو الإشارة الأولى التي يرسلها إليه الشاعر أو الكاتب، والعنوان يظل مع الشاعر أو الكاتب طالما هو مشغول بعمله الأدبي…هو بالنسبة إلى المبدع اسم علم…يعبر عن مشاعره نحوه، وغالبًا ما تكون هذه المشاعر غامضة مختلطة…ومعنى ذلك أن العنوان ذو صلة عضوية بالقصيدة”2
إن عنوان القصيدة عتبة أولى للولوج في النص، والشَّابي عنون هذه القصيدة بالطفولة، حيث أنها تحمل دلالات عدة يشترك فيها كثيرًا من الناس ولها لونها الخاص في نفوسهم، فهي رمز السعادة التي تهيمن عليها البساطة في نظرتها للحياة، كما يتضح أن الشاعر غارقٌ في هذه المرحلة العمرية، فالشاعر يبث في هذه القصيدة حالته الشعورية الانفعالية لتكون الطفولة رمزًا يلتف حولها للفرار من واقعه المرير، وروحه المنهكة التي تبحث عن السلام والأمل، حيث ابتدأ بالعنوان بها معلنًا مبتغاه الذي ينشده والحياة التي يرجوها.
القصيدة
لِلِه مـا أحـلَى الطـفولَـةَ إنَّها حـلـمُ الـحـيـاة
عهدٌ كَمَعسُولِ الرُّؤَى ما بين أجنِحَةِ السٌّبَات
ترنو إلى الـدُّنيا، ومـا فـيـهـا بعينٍ باسِــمَه
وَتَسِـيرُ في عَـدَوَاتِ واديِـهـا بِنَـفسٍ حَـالِمه
إنَّ الطّـفـولـةَ تهـتَـزُّ في قَـلـبِ الـرَّبِيــع
ريَّانــةٌ من ريِّقِ الأَنداءِ في الفَجرِ الوَديع
غـنَّـت لها الـدنيـا أغـاني حـبِّـهـا وَحُبُورِها
فـتـأوَّدَت نَـشـوى بأحــلامِ الحياةِ ونُورِهـا
إنَّ الطُّفـولـةَ حِـقـبَةٌ شــعـريَّةٌ بِشُعُورِهـا
ودُمُوعِها، وسُرُورهَـا، وطُمُوحِها، وغُـرُورِهـا
لم تمشِ في دُنيا الكآبـةِ، والتَّعَاسَةِ، والعَذاب
فترى على أضوائِها ما في الحقيقةِ من كِذَاب 3
تأملات في المستوى الصوتي:
نظم الشاعر قصيدته على بحر مجزوء الكامل الذي يتكون من أربع تفعيلات في كل بيتٍ، ويظهر في القصيدة تنويع الشاعر للقافية حيث لم يلتزم بقافيةٍ واحدةٍ، والقافية المطلقة تتناسب مع الحالة الشعورية للشاعر في انطلاقه في فضاء الطفولة، وتحرره من قيود القافية، فهي صورة داخلية لحالته الشعورية التي تبحث عن التحرر والفرار من قيود الألم، والخروج من الدائرة التي أُغلِقت عليه، فالقافية المطلقة أكثر مرونة في التعبير عن مكامن الشعور، إن الشاعر كسر قيود القافية حتى لا تكون هذه القافية قالبًا يصب فيها تجربته بل انطلق من تجربته لتعبير عن خلجات قلبه، فهو في كل مرةٍ ينوع قافيته بين مقطوعةٍ وأخرى بتلون شعوره الذي يخالج روحه.
يُعد النغم مؤثرًا هامًا في نفس المتلقي، وهو انعكاسًا للحالة النفسية للأديب وبالتالي فإن الجرس الموسيقي من أهم جماليات اللغة بالإضافة إلى قيمتها التعبيرية، ولكل حرفٍ قيمة تعبيرية داخل الكلمة، فدلالة الكلمة على معنى مفيد هو ناتج عن معاني الحروف عند اجتماعها.
تتجلى الحالة الشعورية للشاعر من خلال الإيقاع الموسيقي، والمتأمل يرى الهندسة الصوتية التي تعتمد على أساس التكرار، والذي بدوره يشكل الإطار الهندسي لتواتر الأصوات التي ينظمها الشاعر وفق نظام معين، فتكرار الأصوات يشمل الحروف والكلمات والجمل بالإضافة إلى ألوان البديع.
تجلى في القصيدة تكرار الشاعر للحروف ذات الأصوات المجهورة والتي بلغت مقدار (187) مرة، وكرر الحروف ذات الأصوات المهموسة بمقدار (51) مرة، والحروف لها أثرها الهام في تقوية المعنى ومدى انسجام أصوات الحروف التي تتألف منها الكلمات ومدلولاتها.
إن تأثر المتلقي بالنص واختلاط شعوره بشعور المؤلف راجع للنغم، وبالتالي فإن للجرس قيمة جمالية وتعبيرية، فالحرف هو المكون الأولي للوحدة اللغوية الذي يشحن الكلمة بطاقة تعبيرية بجانب النغمة الموسيقية الفاتنة.
كرر الشاعر الحروف المجهورة كما سبق الذكر، حيث بلغ تكرار الألف اللينة بمقدار (52)، وحرف (ل:32)، وحرف (ن، ي:17)، وحرف (ر: 16)، وحرف (م، ب:15)، وحرف (و: 14)، وحرف (د، ذ: 12)، وحرف (أ: 10)، وحرف (ق:5)، وحرف (ط:4)، وحرف (غ:3)، وحرف (ج:2)، والهمزة (4).
بينما الأصوات المهموسة كانت أقل بكثير من تكرار الأصوات المجهورة، وقد كرر الشاعر حرف (ح:12)، وحرف (ض:1)، وحرف (ه، ف: 13)، وحرف (ك، ش: 3)، وحرف(س:7)، وحرف(ت:12).
الملاحظ أن الأصوات المجهورة تكررت بفارقٍ كبير عن الأصوات المهموسة حيث أنها طغت على الخطاب الشعري، فإن الحالة الشعورية للشاعر تتجلى في هذه الموسيقى لتردد الحروف المجهورة والمهموسة بين الارتفاع والانخفاض، فالشاعر بين ألم الحياة وظروفه القاسية التي يعيشها وبين حياة الطفولة التي مضت بجمالها وهناءة عيشها، هذا التضاد بين الألم والحسرة في نفس الشاعر الذي يقابل الطفولة التي تحمل الأمل والطموح والرخاء والاستقرار الذي يفتقده الشاعر، إذ يمثل الارتفاع صوت ألمه وفراره من واقعه بينما يمثل الانخفاض هدوء نفسه في التغني بالطفولة والالتفاف حولها، ولذلك طغت الحروف المجهورة؛ لتناسب الحالة الشعورية التي طغت على الشاعر من الألم والتحسر، وفراره من واقعه المرير الذي يعاني منه، وعليه يمكن القول بأن كثرة الحروف المجهورة هي ترجمة لشعور الشاعر وارتفاع صوت ألمه الداخلي وحالته النفسية.
إن أصوات اللين (الألف والياء والواو) وردت بأعداد عالية وهي على الترتيب كالتالي: ( 52، 17، 14)، وهي تعد من الأصوات المجهورة وبالتالي فإن تردادها يعتبر عاليًا في القصيدة موازنةً مع بقية الحروف، فتوالي أصوات المد حققت انسجامًا نغميًا عبر توالي الكلمات التي فيها مد والتي استطاعت التعبير عن انفعالات الشاعر وما يخالج نفسه، ويتضح ذلك من خلال قول الشاعر من البيت (7 إلى 10) الذي كرر فيها حرف (ا، و) في كلمات متتابعة حيث يُستشف من توالي المدود وكثرتها في تمكن الشاعر من التعبير عن قدر كبير من الألم والحسرة لإخراج المكبوت إلى حيز الوجود، لذلك سجلت المدود عدد كبير عن بقية الحروف والتي عُدَّت سمة أسلوبية، فإنه لا يكاد يخلو بيتًا من أبيات القصيدة منها، كما أسهمت في حسن البناء ورصانته.
المتأمل في القصيدة يرى تكرار الكلمات وكما سبق التكرار له تأثير في الموسيقى بجانب المعنى، والشاعر كرر (الطفولة، الحياة، الدنيا)، وكان الأكثر تكرارًا (الطفولة)، فالشاعر اتخذها ملجأً ومفرًا له من ألمه يكررها مرة تلو الأخرى فهي تمثل له الحياة الحقيقية وهي مبتغاه، حيث تمثل له رمز السعادة والعيش الهانئ بالتالي هي حاضرة في ذهنه وهو مُتقوقعٌ فيها وتكررت الحروف (ما، إن، في، من، الباء) وكان الأكثر تكرارًا على الترتيب (في، إن، الباء) وهي للمتأمل تخبر عن مدى التحام الشاعر في الطفولة، مكررًا معنى التأكيد والالتصاق بالطفولة، إذ أنه كرر جملة (إنَّ الطفولة) التي يلتف حولها الشاعر.
لم يقتصر الشاعر على التكرار فحسب لسبك الموسيقى الشعرية، بل وضف الجناس في البيت (10) في قوله (سرورها، غرورها)، وفي الشطر الثاني من الأبيات (7-10) في قوله (حبورها، نورها، شعورها، غرورها).
تأملات في المستوى التركيبي:
نوع الشاعر بين الجملة الفعلية والأسمية وكان الغالب للجملة الأسمية، والجملة الفعلية ساهمت في بث الحركة واستمرار المعنى الذي يرسمه الشاعر بين سطور أبياته، فكانت الجملة الأسمية مؤكدة لإثبات المعاني التي رسمها لطفولة، وكأن الطفولة سياجٌ يحيط في الشاعر لتستقر نفسه فيها، وملاذٌ يلوذ إليه حتى يجد روحه المزهرة وأماله وطموحه التي فقدها.
استخدم الشاعر الزمن (الماضي والمضارع) حيث ورد الزمن الماضي في البيت السابع في قوله: (غنت لها الدنيا)، وورد الزمن المضارع ست مرات متفرقة بين أبيات القصيدة (ترنو، تسير، تهتز، تأودت، تمشِ، ترى)، وهي تدل على امتداد نفسه واتصالها في الطفولة، فهو يلتف حولها ويهرب من واقعه الذي خيَّمَ عليه الحزن واليأس، وكل الأفعال التي أوردها هي من الفعل الثلاثي المجرد والمزيد واستخدم الفعل الرباعي (تأودت) على وزن (تَفعَّلَ) الذي أفاد معنى التكلف في الالتواء.
وردت الجموع في القصيدة وكانت جموع الكثرة في قوله (غرور، دموع، طموح، كِذاب)، وصيغة منتهى الجموع في قوله (أغاني)، وجمع القلة في قوله (أضواء، الأنداء، أحلام، أجنحة)، كما وضف الشاعر اسم الفاعل في قوله (باسمة، حالمة) والذي أفاد معنى الثبوت.
استخدم الشاعر الإضافة وقد تكررت على كامل القصيدة في قوله (حلم الحياة، أجنحة السبات، قلب الربيع، أحلام الحياة…)، فالإضافة سمة بارزة ساهمت في بناء المعنى ووضوحه بجانب نسج الصورة التشبيهية التي ينسجها الشاعر في ذهن المتلقي.
إن حالة الشاعر النفسية التي يكابدها في حياته بسبب ظروفه قد ملأت القلب حزنًا وحسرةً وألمًا، وهذا الكبت الذي يتردد داخله قد فاض حتى ألقاه الشاعر في كلماته، فتجدها بين سطور شعره إذ أنه بدأ يخبر عن الطفولة وجمالها وكيفيتها ويبرر أسباب السعادة التي تتصل بها، إن الشاعر صب مشاعره الهائجة في الجملة الخبرية التي طغت على القصيدة دون الجملة الإنشائية، مكتفيًا بجملةٍ إنشائية واحدة التي افتتح بها قصيدته في البيت الأول (لله ما أحلى الطفولة) مستخدمًا أسلوب التعجب الذي يفضي إلى الحالة الشعورية للشاعر ومدى انفعاله الذي صبه في دلالة الطفولة وصيغة التعجب، تعجب الشاعر من حلاوة الطفولة إذ أن التعجب شعورٌ انفعالي يشعر به المتعجب من شيءٍ لا نظير له أو لخفاء سببه، ودلالة التعجب هنا للمتأمل جاءت من تفرد الطفولة وما حظيت به عن غيرها رغم تشابه الظروف المحيطة بها مع غيرها من المراحل الزمنية الأخرى، وقد يكون تعجب الشاعر له مفاد في ناحية أخرى يرجع إلى الطفولة التي تُغيب كل ما حولها من ظروفٍ ومصاعبٍ وألآمٍ لتسير كما تريد رغم كل العقبات، مبينًا في نهاية المطاف هذا الملمح عن الطفولة في قوله (لم تمشِ في دنيا الكآبة) فكأنما أخذت طريقًا أخر لعالمها عن ذلك الجانب الأخر للحياة.
تخلو القصيدة من الضمائر المفصلة، فاقتصرت على الضمائر المتصلة وهي (تاء الفاعل، تاء التأنيث، والهاء)، وكان أكثرها ترددًا الضمير (الهاء) الذي تردد (14) مرة، الذي يعود على الطفولة ويدلل على اتصال الشاعر فيها، كما أن الشاعر استخدم التقديم والتأخير في البيت (3، 4، 7) في قوله: (بعينٍ باسمة، بنفسِ حالمة، غنت لها الدنيا) قدم الجار والمجرور في البيت (3،4) وقدم المفعول به في البيت (7) لإفادة الاختصاص، يؤكد الشاعر على اختصاص الطفولة بهذه المعاني التي تعكس حالة الشاعر المضادة لهذه المعاني، فهي صورة تعكس حالة الشاعر النفسية اليائسة وروحه المنهكة التي ارتمت بين أحضان الطفولة.
استخدم الشاعر الوصل والفصل والذي له مفاده في المعنى، ففي البيت الأول (لله ما أحلى الطفولة/إنَّها حلم الحياة) فصل لأن الجملة الأولى إنشائية لفظًا ومعنى، والثانية خبرية لفظًا ومعنى، وفصل بين البيت الأول والثاني لما بينهما من كمال الاتصال إذ أن البيت الثاني بمثابة الأول في المعنى فاتحدت الجملتين اتحادًا تامًا واندمجت اندماجًا معنويًا، حيث جاء البيت الثاني مفسرًا للبيت الأول (مفسر لحلاوة الطفولة)، جاء الفصل بين البيت (5عن4) لما بينهما من كمال الاتصال؛ لإن البيت الخامس جاء لبيان سبب ما اتصفت به الطفولة، ثم فصل بين البيت (5،6) لأن السادس جاء مؤكدًا للبيت الذي يسبقه، وورد الفصل في البيت (11)في قوله (لم تمشِ…) فجاء بينه وبين الأبيات السابقة شبه كمال اتصال؛ لأنه جواب لما يسبقه ففصل بينهما كما يفصل بين السؤال والجواب، فكل مميزات الطفولة في وصفها يرجع لهذا السبب، فكأنما هو إجابة من الشاعر عن كل ما أورده عن الطفولة، وفصل البيت (11،12) لما بينهما من كمال اتصال فكان البيت (12) سببًا لما قبله.
كما جاء الوصل في البيت (3) في قوله (ترنو إلى الدنيا/وما فيها بعينٍ باسمه) وصلت لأن الترك يوهم خلاف المقصود، وفي البيت (3،4) وصلت الجملتين لوجود اشتراك في المعنى، وفي البيت (9،10) وصل بينهما لإشراكهما في الحكم الإعرابي.
الفصل والوصل لها مفاد في المعاني التي أوصلها الشاعر للمتلقي، حيث نلتقطها من الفصل والوصل من خلال السبب والجواب والتفسير في حالة الفصل، وفي وضوح المعنى في الاتصال.
تأملات في التركيب البلاغي:
يُعد التشبيه سمة بلاغية بارزة في القصيدة، فالمتأمل يلحظ اعتماد الشاعر في إبراز المعاني من خلال الصورة التشبيهية، وقد غلب على تشبيهات الشاعر الاستعارة المكنية والتي ساهمت في تأكيد المعنى وإيضاحه ومنها قوله: (أجنحة السبات، بعينٍ باسمه، بنفسٍ حالمه، إن الطفولة تهتز، غنت لها الدنيا، لم تمشِ، فترى على أضوائها…)، والكناية في قوله: (فترى على أضوائها/ ما في الحقيقة من كِذاب) فكلمة (أضوائها) كناية عن صفة، كنّى عن تقلبات الحياة وتلونها، إذ أن حقيقتها تختبئ خلف جماليات زائفة تتكشف مرة بعد أخرى، فالشاعر يقرر معنى الضبابية التي تلازم الطفولة وتجعلها في معزل عن كُنه الحياة، وكأن الشاعر يستمد هذا النتاج من القرآن الكريم والسنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، حيث جاء وصف الحياة الدنيا بآيات وأحاديث كثيرة، فكل مرة يُكشف للإنسان حقيقة غائبة، يؤكد الشاعر على زيف الحياة الجمالي فقد بدأ بصيغة التعجب وانتهى مقررًا حقيقة الدنيا التي غابت عن الطفولة، وهنا كناية عن نسبة فالشاعر أثبت لطفولة الصفات التي رسمها من خلال التشبيهات لتفردها بها، حيث صرح بصفاتها معرضًا بذلك لنفي هذه الصفات عن باقي المراحل العمرية.
يبث الشاعر في هذه القصيدة حالته الشعورية الانفعالية لتكون الطفولة رمزًا يلتف حولها للفرار من واقعه المرير، وروحه المنهكة التي تبحث عن السلام والأمل، حيث ربط الطفولة بالطبيعة في تصويرها لبث معنى الحياة المنشودة التي يفتقدها الشاعر وغيابها عنه، جمع الشاعر بين الطفولة والطبيعة ليرتمي بين أحضان الطفولة والطبيعة فهما يجتمع فيهما معنى الفرح والأنس.
خاتمة:
اتسمت هذه القصيدة بسمات أسلوبية عدة، من خلال هذه الدراسة التي وقفنا فيها على المستوى الصوتي والتركيبي والبلاغي نستخلص نتائج هي:
1 – عنوان القصيدة الذي اتخذه الشاعر إطاراً لرسم مشاعره، لينطلق من هذه الصورة التي تلازمه وهو خارج هذا الإطار، وبالتالي هو حبيس هذه الصورة التي عنون بها القصيدة (الطفولة).
2 – المتأمل يلمح أسلوبية التكرار لدى الشاعر، والذي شكل في القصيدة الإطار الهندسي لتواتر الأصوات وفق نظام معين، فكان الغالب تكرار الأصوات المجهورة التي بلغت (187)، والمهموسة بلغت (51)، لتناسب الحالة الشعورية لشاعر، مجيء الأصوات المجهورة بهذا الفارق يكشف الحالة النفسية لشاعر وتذبذبها بين الهدوء والثورة، الذي عبّر به عن حزنه وضجره من ظروف حياته التي يكابدها.
3 – تكرار حروف المد (ا، ي، و)، حيث يُستشف من توالي المدود وكثرتها في تمكن الشاعر من التعبير عن قدر كبير من الألم والحسرة لإخراج المكبوت إلى حيز الوجود، لذلك سجلت المدود عدد كبير عن بقية الحروف، حيث أنها تناسب الألم والحزن الداخلي فكانت امتدادًا لهذا الحزن، والتي عُدت سمة أسلوبية فإنه لا يكاد يخلو بيتًا من أبيات القصيدة منها، كما أسهمت في حسن البناء ورصانته.
4 – تكررت الحروف (ما، إن، في، من، الباء) وكان الأكثر تكرارًا على الترتيب (في، إن، الباء) وهي للمتأمل تخبر عن مدى التحام الشاعر في الطفولة، مكررًا معنى التأكيد والالتصاق بالطفولة.
5 – نوع الشاعر في تراكيبه بين الجملة الأسمية والفعلية، ولكن الجملة الأسمية هي السمة الأسلوبية الغالبة، وبالتالي هي صورة داخلية لمشاعر الشاعر انعكست على اختياراته؛ ليقرر ثبوت تلك المعاني التي تنفرد بها الطفولة دون غيرها.
6 – استخدم الشاعر الإضافة وقد تكررت على كامل القصيدة في قوله: (حلم الحياة، أجنحة السبات، قلب الربيع، أحلام الحياة…)، فالإضافة سمة بارزة ساهمة في وضوح المعنى، ورسم الصورة التشبيهية.
7 – إن الشاعر صب مشاعره في الجملة الخبرية التي طغت على القصيدة دون الجملة الإنشائية، مكتفيًا بجملة إنشائية واحدة، والتي بدورها تنم عن تزاحم مشاعر الألم والحسرة التي يعبر عنها، فهو في مقام الإخبار لتعبير عن تلك المشاعر المتزاحمة من الألم والحسرة.
8 – تخلو القصيدة من الضمائر المفصلة، واقتصرت على الضمائر المتصلة وهي (تاء الفاعل، تاء التأنيث، والهاء)، وكان أكثرها تردداً الضمير(الهاء) الذي تردد (14) مرة، الذي يعود على الطفولة ويدلل على مدى اتصال الشاعر فيها وهروبه من الألم الذي يلازمه.
9 – وظف الشاعر التقديم والتأخير الذي أفاد معنى الاختصاص وغيره لطفولة ليقابل هذا المعنى تأكيد فقدان الشاعر له.
10 -يُعد التشبيه سمة بلاغية بارزة في القصيدة، فالمتأمل يلحظ اعتماد الشاعر في إبراز المعاني من خلال الصورة التشبيهية، وقد غلب على تشبيهات الشاعر الاستعارة المكنية والتي ساهمت في تأكيد المعنى وإيضاحه.
المصادر:
1 – ديوان أبي القاسم الشَّابي ورسائله، قدم له: مجيد طراد، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1415هـ، ص9-15.
2 – شكري عياد، مدخل إلى علم الأسلوب، ط2، 1992م، ص74.
3 – ديوانه، أغاني الحياة، الناشر: دار الكتب الشرقية، ط1، مصر،1955م، ص57.
عدد التحميلات: 0