
تورينغ وفينغنشتاين: تشابك بين الرياضيات والفلسفة
كارل سيجموند
في كامبريدج ما قبل الحرب العالمية الثانية، كان على الطلاب اجتياز مقابلة مع لودفيغ فيتغنشتاين لحضور محاضراته – وقد اجتاز آلان تورينغ هذا الامتحان، ومضى لاحقًا ليصنع امتحانه الخاص.
في فصل الربيع من عام 1939، قدمت جامعة كامبريدج دورتين مميزتين عن «أسس الرياضيات» – ترفٌ فكري من نوع ما. ومع ذلك، لم يكن هناك ما يدعو للقلق من الهدر أو التكرار: فالمحاضران، لودفيغ فيتغنشتاين وآلان تورينغ، كان كلٌّ منهما يسلك طريقه الخاص.
كان فيتغنشتاين قد بلغ الخمسين، أستاذ فلسفة مغترب في كامبريدج. أما تورينغ، فلم يكن قد تجاوز الثلاثين. كان زميلًا في كلية كينغز، وقدّم حينها أول سلسلة محاضرات له مقابل أجر متواضع قدره عشرون جنيهًا إسترلينيًا. كان موضوعه (الأسس) بالمعنى الكلاسيكي، كما يفهمه علماء الرياضيات المعاصرون: أي البديهيات والمنطق. في أعقاب أعمال [دافيد] هيلبرت و[كورت] غودل، أذهل تورينغ المجال بورقته الأساسية حول الحوسبة ومسألة القرار. لقد كان وريثًا جديرًا بثلاثي كامبريدج: [برتراند] راسل، [ألفرد نورث] وايتهد، و[فرانك] رامزي، الذين أسسوا جزءًا كبيرًا من القواعد.
أما فيتغنشتاين، فكان يطارد شيئًا مختلفًا تمامًا. لم يكن لديه أدنى اهتمام بالخطاب المعتاد الذي يردده الرياضيون بعضهم لبعض بشأن أسس علمهم – ذلك الخطاب الذي قد يخدعون به أنفسهم. كان فيتغنشتاين من فيينا، ولا يميل إلى أخذ الكلمات على ظاهرها، كما كان الحال مع سيغموند فرويد أو كارل كراوس. كان يريد أن يعرف ما الذي يفعله علماء الرياضيات حقًا.
كل شيء في سيرة فيتغنشتاين كان استثنائيًا. والده كان بارونًا في صناعة الفولاذ وراعيًا للفنون، أشبه ما يكون بجواب آل هابسبورغ على أندرو كارنيغي. نشأ لودفيغ في قصر، وكان أصغر إخوته الثمانية. بدأ مسيرته في مجال الطيران، في وقتٍ كانت فيه مغامرة غزو السماء في بدايتها. لكن في عام 1912، تحول هذا المهندس الشاب المكثّف بشكل غير عادي إلى الفلسفة، فالتحق بجامعة كامبريدج. كان أساتذته برتراند راسل وجورج مور، روّاد الفلسفة التحليلية. وخلال بضعة أشهر، كانوا يدونون إملاءاته عن المنطق. وبعد ذلك، انسحب إلى كوخ منعزل في النرويج ليتأمل دون إزعاج.
حين اندلعت الحرب العالمية الأولى، تطوّع فيتغنشتاين في الجيش النمساوي. وبين فترات القتال، أنجز كتابه (الرسالة المنطقية-الفلسفية)، مصرّحًا في مقدمته، ببرود، أنه يرى محتواه «صحيحًا بما لا يُدحض ونهائيًا». بعد الهزيمة الكارثية لدول الوسط واعتقاله لعام في معسكر إيطالي بالقرب من مونتي كاسينو، عاد إلى فيينا المفجوعة والمعدمة، وتبرّع بميراثه الضخم لأشقائه الباقين على قيد الحياة (إذ انتحر ثلاثة من إخوته). وعاش على دخله كمعلم في مدارس ابتدائية تقع في أرياف النمسا السفلى. وقد نُشر كتابه، تحت الاسم اللاتيني Tractatus Logico-Philosophicus، بعد تأخيرات مضنية.
كان فيتغنشتاين يظن أنه انتهى من الفلسفة – ألم يحل مشكلاتها الجوهرية؟ رافضًا التعامل مع المتطفلين، تجاهل محاولات حلقة فيينا – تلك الجماعة الطليعية من الفلاسفة والرياضيين – للتقرب منه وامتصاص أفكاره.
كان معلمًا شديد الحماسة، لكنه سريع الغضب في الصف: يصفع التلاميذ، أو يشدّ شعرهم أو آذانهم أو أي شيء تصل إليه يده. وانتهت مسيرته التعليمية فجأة بعد أن طرح تلميذًا يبلغ الحادية عشرة أرضًا بلكمة. عاد فيتغنشتاين إلى فيينا مدركًا فشله في التعليم، ثم أعلن نفسه مهندسًا معماريًا، وأشرف على بناء بيت حديث الطراز لأخته. وبعد أن أنهى شؤونه مع البنّائين والحرفيين، استأنف اللقاء مع أفراد مختارين من حلقة فيينا. اتضح أن بعضهم يستحق المحادثة. وتدريجيًا، بدأ يدرك أن للفلسفة ما يزال ما يُقال.
في عام 1929، وكان قد بلغ الأربعين، عاد فيتغنشتاين إلى كامبريدج حاملًا معه «الرسالة» كأطروحة دكتوراه. كان قد صرّح سابقًا أن لا أحد يستطيع ممارسة الفلسفة لأكثر من عشر سنوات. لكن الحقيقة الأقرب، هي أنه لا أحد يستطيع الاستغناء عن الفلسفة لأكثر من عشر سنوات. طوال ثلاثينيات القرن العشرين، كتب فيتغنشتاين ونقاش بلا كلل، في كامبريدج، في فيينا، أو في كوخه النرويجي القديم – لكنه لم ينشر شيئًا. ومع ذلك، منحته جامعة كامبريدج كرسيًا أكاديميًا في الفلسفة. كانوا يعرفون الأسطورة حين يلتقون بها.
لم يُسمح إلا لقلة مختارة من التلاميذ برؤية الأستاذ فيتغنشتاين. أما الآخرون، فكانوا يُبعدون. كتب إرنست نيغل، الفيلسوف الشاب من الولايات المتحدة: «في بعض الأوساط، كانت مسألة وجود فيتغنشتاين تُناقش بدهاء يشبه ما طُرح بشأن تاريخية المسيح في أوساط أخرى». أولئك الذين رغبوا بحضور محاضراته كان عليهم أن يخضعوا لمقابلة معه. رفض فيتغنشتاين طلب نيغل قائلًا: «لا أريد سياحًا». أما تورينغ، فقد قُبل – كان فيتغنشتاين بحاجة إلى رياضي لا يخشى المواجهة. وهكذا أصبح تورينغ في مواجهة مع فيتغنشتاين بشأن كل ما آل إليه حال أسس الرياضيات، من نظرية المجموعات إلى الأنظمة الشكلية وما بعد الرياضيات.
وإليك نموذجًا من حواراتهم:
سأل فيتغنشتاين: «كم عدد الرموز العددية التي تعلمت كتابتها؟»
أجاب تورينغ، بحذر، وقد فهم ما ينتظره: «حسنًا، لو لم أكن هنا، لقلت: عدد لانهائي معدود!»
قال فيتغنشتاين: «يا للروعة – أن تتعلم عددًا لا نهائيًا من الرموز العددية، وفي وقت قصير جدًا!» – وكان تورينغ لا يزال شابًا!
ردّ تورينغ: «أفهم مقصدك!»
فيتغنشتاين: «ليس لدي أي مقصد!»
وهكذا استمر الحوار…
كان على جميع الطلاب، بمن فيهم تورينغ، أن يتعهدوا بعدم التغيب عن أي من دروس فيتغنشتاين (التي كانت تقام مرتين أسبوعيًا). لكن في 19 مارس 1939، اعتذر تورينغ عن الحضور. فاستشاط فيتغنشتاين، وعلّق بسخرية: «للأسف، سيكون تورينغ غائبًا عن المحاضرة القادمة، ولذلك ستكون تلك المحاضرة هامشية بعض الشيء. فلا جدوى من إقناع البقية بشيء لا يوافق عليه تورينغ».
لكن تورينغ لم يُظهر أي انزعاج. فقد كان يعرف كيف يصمت. كان قد أصبح محل اهتمام جهاز الاستخبارات البريطاني. وكان عليه أحيانًا مغادرة كامبريدج لحضور دورات سرية للغاية في فك الشفرات. الجميع كان يدرك أن الحرب وشيكة، وكان جهاز MI6 قلقًا بشأن الشيفرة العسكرية الألمانية. اقترح اسمه مشرفه السابق في الدكتوراه، ماكس نيومان. وقد كان حدسًا عبقريًا. فمعًا، سيقومان لاحقًا بتصميم أولى الحواسيب البدائية -آلات ضخمة هادرة – لفك الرسائل السرية الألمانية.
لكن في عام 1939، كان آلان تورينغ قد تصور فقط حاسوبًا نظريًا بحتًا لاستكشاف حدود الأنظمة الشكلية. وقد لعب ذلك الكائن الغامض دورًا مهمًا في محاضراته حول الأسس. فبعد إثبات غودل لوجود قضايا رياضية غير قابلة للحسم، شهد العقد الأخير تقدمًا مذهلًا.
أما فيتغنشتاين، فبصفته دائمًا خصم التيار السائد، فقد رأى الأمور من منظور مختلف كليًا. وقد صرح صراحةً: «مهمتي ليست التحدث عن براهين غودل… بل التحدث متجاوزًا إياها». لقد انشغل في العقد الأخير بتأسيس فلسفة اللغة.
كانت قاعدته التوجيهية: «معنى الكلمة هو استخدامها في اللغة» (وإن كان ذلك “في طائفة واسعة من الحالات فقط”). ولتفحص ذلك الاستخدام عن كثب، ابتكر طريقة «ألعاب اللغة»، «لإبراز حقيقة أن الحديث باللغة هو جزء من نشاط، من شكل حياة». وكانت مهمته، كفيلسوف رياضيات، أن يصف هذه الألعاب لا أن يفسرها. فالألعاب لها قواعد، واللاعبون لا يكونون دائمًا على وعي بها. أراد فيتغنشتاين أن يكشف هذه القواعد بصبر، واحدة تلو الأخرى. لم يكن يؤمن بوجود كيان موحد يُدعى «الرياضيات». بل تحدّث عن «مزيج متنوع» من الرياضيات. كما أن علم الفلك يتعامل مع طيف متنوع من الظواهر (كالكواكب، والأمواج الراديوية، والمجرات، والمادة المظلمة)، ولا يجمعها سوى أنها في السماء، فكذلك الرياضيات لا يمكن اختزالها إلى كائن واحد أو طريقة واحدة. إنها خليط متعدّد الألوان.
المصدر:
عدد التحميلات: 0