العدد الحاليالعدد رقم 44ترجمات

آلان باديو، باربرا كاسين -هايدجر- النازية، المرأة، الفلسفة

ترجمة: كامل عويد العامري

(هايدغر هو موضوع، أو قضية، خاصة في فرنسا، لجدل دائم. فمن ناحية، هناك من ينكر على نحو قاطع أن يكون هناك أي شيء في حياته أو في فلسفته له علاقة بالنازية. ومن ناحية أخرى، هناك من يرى أن هايدغر كان أيديولوجيًا نازيًا بالكامل، بل كان ملهمًا في السر والعلن لأسوأ جوانبها، ونتيجة لذلك، فقد مصداقيته كفيلسوف تمامًا. ولطالما اعتقد كل من باربرا كاسان وآلان باديو، استنادًا إلى تجاربهما الشخصية وتوجهاتهما الفكرية المختلفة، أن هذا الجدل كان مضللًا. وموقفهما، في بساطته، هو أنه علينا أن نقبل المفارقة التالية: نعم، كان هايدغر نازيًا، ولكن ليس نازيًا كبيرًا، نازيًا عاديًا، نازيًا من الطبقة المتوسطة. نعم، هايدغر هو بلا شك أحد أهم فلاسفة القرن العشرين.

هايدغر هو موضوع، أو بالأحرى رهان، لجدل دائم، خاصةً في فرنسا، يتمحور بطبيعة الحال حول العلاقة المحتملة بين أعماله الفلسفية-التي جعلت من الاسم العلم “هايدغر” مرجعًا أساسيًا في الفكر خلال القرن العشرين-وبين التزاماته الأيديولوجية والمؤسسية، التي ربطت هذا الاسم العلم، على الأقل في أوائل الثلاثينيات وحتى نهاية الحرب، بالسياسة القومية الاشتراكية والدولة النازية. وذلك من دون أن يقدم الفيلسوف تفسيرًا شجاعًا لموقفه، بغض النظر عن قناعته السرية، في السنوات التي تلت ذلك.

كان يمكن لهذا الجدل أن يظل على مستوى أولي، كما كان الحال لفترة طويلة، لو اقتصر على ملاحظة أن الفيلسوف، مهما كان عظيمًا، قد يخطئ بالكامل في مجالات نعلم جيدًا لا يمكن اختزال واقعها إلى المفاهيم التي يقترحها. فمن السهل، عبر تاريخ الفلسفة، العثور على «سجل أخطاء» مليء باليقينيات الزائفة والالتزامات المشكوك فيها. عندما نتذكر ما قاله روسو، وكانط، أو أوغست كونت عن النساء، أو ما قاله هيغل وغيرهم عن الأفارقة، أو ليبنتز وفيخته عن الألمان، أو ديكارت ومالبرانش عن فيزياء الأجسام الصلبة، أو أرسطو عن العبيد، أو أفلاطون عن الشعر الملحمي والغنائي، أو شوبنهاور وتوما الأكويني عن الجنس، ندرك أننا لا يمكن أن نطلب من أي فيلسوف أن يكون مثاليًا في كل القضايا. وهذا يدل ببساطة على أن الفلسفة نشاط فريد من نوعه، حيث يتشابك طموحها الموسوعي الحتمي مع إمكانية التيه الفكري.

كان يمكن لهذا الجدل أن يظل محصورًا أيضًا إلى حد ما باعتبارات ميتاسياسية، جوهرها العلاقة الإشكالية بين الفعل السياسي ومفهوم الحقيقة أو المطلق في الفلسفة. فالفلسفة، في مسارها الرئيسي، تبني مفهومها عن الحقيقة بوصفه نقيضًا للآراء، وبالتالي لا تقبل بسهولة أن تتحرك السياسة بحرية ضمن فضاء هذه الآراء، مدعيةً بذلك تحررها من سلطة الحقيقة، ومن ثم من سلطة الفلسفة نفسها.

وهذا ما يقود إلى الملاحظة الشهيرة التي أدلت بها حنة أرندت عام 1969، في اللحظة ذاتها التي أعربت فيها علنًا عن إعجابها العميق بهايدغر: «يمكن ملاحظة الميل إلى الاستبداد في نظريات معظم كبار المفكرين». هذه الملاحظة تضع هايدغر في الخانة نفسها مع أفلاطون، وهو أمر لا يُعتبر إدانةً له في نظر أرندت، بل على العكس: فهي تكتب أن «أفلاطون وهايدغر، عندما انخرطا في الشؤون الإنسانية، لجآ إلى الطغاة والدكتاتوريين»، معتبرةً أن هذا اللجوء كان “مُشِينا”، لكنه في الوقت نفسه يؤكد، على نحو سلبي، أن هايدغر ينتمي إلى سلالة كبار المفكرين. وترى أرندت، في جوهر كلامها، أن هؤلاء المفكرين العظام-باستثناء المتشكّكين وكانط، الذي تعتبره متشككا متخفيًا بمهارة-كان من الأفضل لهم أن يمتنعوا عن أي تدخل في الشؤون الإنسانية، حيث لا تسود الحقيقة المطلقة، بل الأحكام النسبية الناتجة عن تعايش البشر. وفي كل الأحوال، لا يمكن تحميل هايدغر ذنب انكفاءه على الفكر وما نتج عنه من عمل أساسي هو “الحياة التأملية”، بل فقط لأنه كان يعتقد أنه كان عليه أن يغلف افتتانه الظرفي بالفعل والسلطة بصيغة يتنازل فيها عن بعض مفاهيمه، رغم أن سبب هذا الالتزام كان جنائيًا على نحو واضح.

1 – الجدل المحلي

–  تتساءل باربرا كاسان عمّا إذا كان ينبغي استبدال مصطلح “الظرفي” بـ”الجوهري”، نظرًا لأن أي “مفكر عظيم” لا يقبل أبدًا بالامتناع عن التركيب التعبيري المستحيل المتمثل بـ”الفلسفة السياسية”. علينا أن نميّز بين فكرتين: بين فكرة إن «المفكرين العظام ليسوا، وهذا أمر طبيعي تمامًا، مقبولين في جميع المواضيع». وبين وفكرة أخرى، وهي بلا شك فكرة حنه أرندت، التي تقول: «لا يمكن لأي مفكر عظيم أن يكون مقبولًا سياسيًا»، والسبب في ذلك، هو أن «مقولات الحياة التأملية غير مناسبة جذريًا للعمل السياسي». والاستثناء بالنسبة لها، هو قد يكون أرسطو بقدر ما هو كانط. فهل يؤكد هذا الاستثناء القاعدة؟ أم أنه يثبت أن هناك مفكرين عظام يمكنهم أيضًا أن يكونوا مفكرين سياسيين عظام، لأنهم موهوبون بالحكم والذوق؟ هذا هو التمييز نفسه الذي وضعه أرسطو بشأن طاليس: كان حكيمًا (sophos) لكنه لم يكن حصيفًا (phronimos)، أي أنه كان عالمًا، ولكنه لم يكن حكيمًا في شؤون الحياة العملية. عندما استأجر جميع المعاصر مقدّمًا، مؤسسًا بذلك أول شكل من أشكال الاحتكار الرأسمالي، إلا أن الثروة التي صنعها طاليس لا معنى لها إلا كرد فعل على ضحك الخادمة التراقية التي سخرت منه عندما سقط الفيلسوف في البئر وهو يراقب النجوم. ليستشرف أحوال الطقس. أراد طاليس أن يبرهن لها «إن ذلك مجرد عرض برهاني» (epideixis)، وهو أداء بقدر ما هو برهان) أن علم الأرصاد الجوية، وهو جزء من الحكمة، يسمح بكسب المال، شريطة أن ترغب في ذلك، وهو أمر لا يقلق الفيلسوف الحكيم حقًا. بالنسبة لأرندت، كما هو الحال بالنسبة لأرسطو، إن الإنسان الذي يستحق هذا الاسم يجب أن يكون حصيفًا phronimos. وبالتالي، فإن حكمة المفكر، عندما ينخرط في الشؤون العامة، تكون بحد ذاتها، وبذاتها كذلك، خالية من الحكمة العملية والحصافة.

يتفق آلان باديو مع باربرا كاسان على أن مصطلح “الفلسفة السياسية” غير قابل للصياغة، لكنه يرفضه لأسباب معاكسة تمامًا. فبالنسبة له، السياسة، ما دامت ليست مجرد إدارة للشؤون العامة، فهي في حد ذاتها إجراء للحقيقة، يتناول قدرات الفعل الجماعي المنظم، وبالتالي لا تحتاج إلى الفلسفة، تمامًا كما لا تحتاج إليها الفيزياء النووية، أو التجريد الغنائي، أو شعر الغزل ما قبل الإسلام). إن العلاقة بين الفلسفة والسياسة لا تؤدي بأي حال من الأحوال إلى “فلسفة سياسية”، بل إلى تجديد، في ظل وجود متواليات سياسية (إشكالية دائمًا، ونادرة على أي حال)، لمفاهيم فلسفية معينة، ولا سيما تلك التي تدور حول العلاقة بين “لحقيقة و”التعددية”، من خلال وساطة وجود ذات جماعية. والمسألة ليست مسألة “حكم” أو “ذوق”، أكثر مما هي عليه في السياسة نفسها، التي هي مسألة اتخاذ قرار وبروتوكولات تنظيمية، حيث الشخصية الرئيسية فيها ليست بالتأكيد هي المتفرج، بل هي الناشط. من البديهي أن الفيلسوف عندما “يتدخل في شؤون العالم”، كما تقول حنة أرندت، هو مثل أي شخص آخر، وهذا أمر بديهي. هل نطلب من الفيلسوف الذي يتحدث عن الشعر أن يكون شاعرًا جيدًا، أو حتى، إذا كان يتحدث عن الرياضيات، أن يكون عالم رياضيات من الدرجة الأولى؟ لذلك كان التزام هايدغر السياسي، إذا ما قسناه بماهية فلسفته، كان التزاما “ظرفيًا”. وتجدر الإشارة إلى أن هذا النوع من الالتزام، بالنسبة إلى حنة أرندت بالذات، يبقى التزامًا مختلفًا بشكل أساسي عن “التراجع” الذي فيه يحدث تأمل المفاهيم الفلسفية. فضلاً عن ذلك، في حالة هايدغر، يمكننا أن نرى أن مكونات فلسفته الأساسية كانت موجودة قبل مدة طويلة من تشدده النازي، وبالتالي لا يمكن أن تنبثق منها بطريقة “جوهرية”. إن الطريقة التي يعالج بها كانط أو أرسطو السياسة هي أقرب بكثير، وللأسف بالنسبة لهما، إلى “فلسفة سياسية”، براغماتية، مريحة، غير ضرورية في الواقع، ومختزلة وعاجزة لأنها تقتصر فقط على “الحكم” وحده، لأنها تتمحور حول فكرة نرجسية مفادها: «ما هو جيد هو الطبقة الوسطى»، وهي طبقة لا تملك أبداً قدرة سياسية مستقلة. إن الرؤية الفلسفية (بالمطلق) التي تنظم العلاقة العكسية مع السياسة مختلفة تماما، فلدى أفلاطون، هي الرؤية التي لا تهتم إلا بصقل مفهومه عن “الفكرة”؛ ولدى هيغل، هي التي تسعى إلى جدلية الكلي؛ ولدى هايدغر، التي تعيد بناء التاريخ فلسفيًا، بما في ذلك تاريخ الأنظمة السياسية، بوصفه تاريخًا للكينونة.

– لقد رفضت باربرا كاسان بشدة تبرئة هايدغر من نازيته، من خلال تسامح مستوحى من أرندت قد يكون ملتبسًا، على حساب الفلسفة التي تُفهم على أنها بطبيعتها غير ملائمة سياسيًا. لكن حقيقة أن الفلسفة تشكل بطريقة أو بأخرى، اللغة الميتا سياسة، وأن الأنطولوجيا (الوجود، الحقيقة)، كما الأخلاق (الخير)، هي من تدعي تحديد السياسة، أي أن يُنظر إلى السياسة من منظور الحقيقة- هو ما يجده هايدغر مخيفًا، كما هو الحال بالنسبة لأرندت. مخيف سواء عند أفلاطون، أو هايدغر، أو حتى باديو. ولهذا السبب كان من الواضح أن آلان باديو كان محقًا تمامًا في الإشارة إلى أن الانحراف، في حالة هايدغر النوعية، لا يمكن أن يبدأ من السياسي وأن هذا الانحراف كان قبل النازية: يرى هايدغر (وهذا ينطبق عليه بالذات مع مراعاة ما يقتضيه اختلاف الحال) لم يكن اليونانيون شعبًا سياسيًا بالأساس، بل كان شعبًا مرتبطًا بالوجود، ولذلك كان عليه أن يؤسسوا المدينة (polis). لكن بالنسبة لكاسان، فمن ناحية، هذه الفكرة خاطئة تمامًا، – لأن هوميروس، والمأساة، والسفسطة، وحتى التعريف الأرسطي للإنسان باعتباره حيوانًا موهوبًا بالكلمة، كلها تثبت ذلك كل بطريقته الخاصة. ومن ناحية أخرى، فإن الأمر خطير وليست لديها أي رغبة في الاعتقاد بأنه حيثما يوجد الخطر، يوجد أيضًا الخلاص. ولهذا السبب تؤكد على أن المشكلة في نظرها ليست في الناشط السياسي، بل في الفيلسوف الناشط سياسيًا.

في فرنسا على وجه الخصوص، لم يكن من الممكن أن يكون الجدل حول هايدغر في حدود المعقول الذي ينطوي عليه هذا النوع من النقاش، والذي تحدد في النهاية بالفصل المفترض بين الفلسفة والسياسة. لا يمكننا الخوض في جميع أسباب هذا “الاستثناء الفرنسي”، الذي، كما هو الحال دائمًا، ليس استثناءً. ومع ذلك، هناك شيء واحد واضح تمامًا: مجمل النتاج الفلسفي الفرنسي بين ثلاثينيات وسبعينيات القرن العشرين والذي يمكن القول من دون مبالغة أنه كان معترفًا به عالميًا ومهيمنًا أحيانًا، حافظ على علاقة أساسية، وإن كانت نقدية، مع مشروع هايدغر. يكفي أن نذكر سارتر، وميرلو بونتي، ولاتمان، ودريدا، وفوكو، ولاكان، ونانسي، ولاكو-لابارت (باستثناء دولوز، وهو بالفعل مثير للتفكير)، لفهم ما نتحدث عنه. إن الهجوم على هايدغر بأقصى درجات العنف هو أيضًا، بل وقبل كل شيء، تصفية حسابات مع هذه المتوالية الفلسفية المجيدة، التي كانت تمثل لحظة العلاقة القوية بين العمل المفاهيمي والسياسة الثورية بكل أشكالها. هناك نزعة انتقامية محدودة، مقترنة كما هو الحال في كثير من الأحيان بنزعة رجعية، في البهجة التي يجدها البعض في الكشف عن دناءة المفكر. وتبقى الحقيقة أن الجدل في فرنسا قد أصبح تدريجيًا متجمدًا عند أقصى حدوده المتناقضة، كما لو كان هو الوحيد ذي الصلة. فمن ناحية، هناك من يقدسون هايدغر ويرفضون رفضًا قاطعًا أي علاقة بين حياته أو فلسفته بالنازية. ومن ناحية أخرى، هناك من يرون أن هايدغر كان منذ البداية إلى النهاية أيديولوجيًا نازيًا بالكامل، بل كان ملهمًا لأسوأ جوانبها بقدر ما كان نشطًا وسريًا في الوقت نفسه، ولذلك فهو في نظرهم فاقد للمصداقية تمامًا كفيلسوف ويجب سحبه من المناهج الدراسية في جميع البلدان الديمقراطية. ولتوضيح هذه النقطة، دعونا نذكر المحامي غير المشروط فرانسوا فيدييه والمدعي العام الصارم إيمانويل فاي.

سنلاحظ القاسم المشترك التقليدي، الذي تقتضيه قوانين الديالكتيك وهو التمييز دائمًا بين موقفين متطرفين، أي توصيف موضوع النزاع توصيفًا غير قابل للتجزئة. فبالنسبة للبعض، من المؤكد يرى إن هايدغر هو فيلسوف متعالٍ على عصره، وبالتالي لا يمكن بأي حال أن يكون قد تورط في بؤس زمنه أو جرائمه. وبالنسبة للآخرين، فإن النازي الكامن فيه قد أفسد فلسفته بالكامل، بحيث لا يمكن فصله عن إيديولوجيته السياسية. في هذا السياق، نجد إيمانويل فاي يذهب إلى حد تعريف مشروع هايدغر برمّته بأنه “إدخال النازية في الفلسفة”-وكأننا نقول، على سبيل التشبيه، إن أفلاطون هو من أدخل الفاشية الصقلية إلى الفلسفة! وهو بالمناسبة رأي كارل بوبر.

2 – الجدل المحلي

– تطرح باربرا كاسان السؤال التالي: فاشية صقلية أم الفيلسوف-ملك؟ نازية أم تاريخ معنى الكينونة (وبالتالي Gelassenheit، أي استرخاء الراعي الوجودي، وSelbstbehauptung، أي التأكيد الذاتي للجامعة الألمانية)؟ ما هو، على سبيل المثال، النقد الحقيقي الذي وجهته حنة أرندت؟ لا ينبغي أن نكون نحن في موقع الخادم. صحيح أنه يجب علينا أن ننظر إلى كل فيلسوف أو مفكر على أنه واحد لا يتجزأ [مما يعني أن الفيلسوف أو المفكر قد يكون معقدًا ومتعدد الجوانب.]. ولكن إذا أدرجناه تحت نظر الواحد الأعظم [الوجود الأسمى.]، فعلينا عندئذٍ أن نأخذه في الاعتبار من أكبر وحدته [وجوده الأسمى]، وأن نتيح للنقاد بإمكانية التعامل معه على هذا النحو.

– يلاحظ آلان باديو أن حنة أرندت نفسها تتحدث عن تدخل أفلاطون (أو هايدغر) في “شؤون العالم”، وبالتالي تشير إلى ظروف محددة ترى أنها غير متجانسة بطبيعتها مع ما يقتضيه “انسحاب” الفيلسوف. وهي تؤكد أن كل ما كان هايدغر (أو أفلاطون) قادرًا على فعله في إطار هذا الانسحاب كان حاسمًا في تاريخ الفكر. فهايدغر، في نظرها، يظل المفكر الرئيس في القرن العشرين. وبالتالي، فهو لا يتفق مع رؤية أرندت أن نجد في جميع مفاهيمه الفلسفية آثارًا، بل وحتى أدلة وتأملات، لانخراطه التجريبي في النازية. وبالمثل، بين تعليم الحراس، الذي يمثل شيوعية الفكرة، أو تصور الفلسفة كشكل ذاتي ملائم لمجموعة جديرة بهذا الاسم (أي متحررة من مبدأ المصلحة)، من جهة، وبين محاولة أن يصبح المستشار الفكري لمن يأمل أن يكون طاغية مستنيرًا في صقلية، من جهة أخرى، لا توجد أي علاقة انتقالية طبيعية أو استنتاج منطقي يمكن الدفاع عنه. يبدو الأمر كما لو كنا نبحث في مفاهيم ديدرو (لإعادة) التفكير في مغازلاته مع كاترين العظيمة [الإمبراطورة الروسية المعروفة بحكمها المستنير.]، وننتهي إلى استنتاج أنه كان فيلسوفًا للعبودية. إذا كانت السياسة الفاعلة متميزة جوهريًا عن الفلسفة المفاهيمية، وهي بديهية مشتركة ظاهريًا بين أرندت وباديو، فإن أحكامًا من نوع «المفكرون العظماء ليسوا مؤهلين سياسيًا» هي التي تندرج تحت عنوان «الفلسفة السياسية»، لأنها تدعي وصف سلوك سياسي انطلاقًا من كون الشخص فيلسوفًا.

إن هذا المبدأ الخاص بعدم القابلية للتجزئة يُميز دائمًا التطرف، لأنه يؤدي إلى دمج الواحد مع الكل: فيجب أن تكون وحدة فكر هايدغر متطابقة مع مجموع كتاباته وأفكاره، ونزواته، وأفعاله، وتصريحاته. ومن ثم، يكفي عزل نقطة واحدة من هذا الكل لتمثيل تلك الوحدة، لأنها حاضرة في كل مكان. وبناءً على ذلك، يرى البعض أن الأهمية والروعة الواضحة التي يتمتع بها نص معين تجعل من المستحيل أخذ بعض الحماقات وبعض الفظائع في الاعتبار، بينما يرى آخرون أن ترشحه لمنصب رئيس الجامعة تحت حكم النازيين وبعض تصريحاته المبتذلة المعادية للسامية تجعل من المستحيل تقدير حداثة وقوة الموضوعات الأساسية في عمله الفلسفي.

صحيح أنه من الضروري غالبًا تذكير الفلاسفة، الذين تجرفهم اندفاعة تأملية مشروعة، بل وأساسية، بأن وحدة فكرهم لا تتطابق مع كل الحقائق الممكنة. وهذا سبب إضافي لعدم الحكم على عملهم انطلاقًا من معادلة الوحدة = الكل، التي تنظم الصراع المدمر وغير المجدي بين تطرفين، تطرف التقديس وتطرف التدمير.

ولطالما اعتقدا، باربرا كاسين وآلان باديو، أن هذه المعركة العملاقة كانت غير مركزة بشكل صحيح.

ويمكن أن نعتبر أن مواقفهما في الحقل الفلسفي تضفي ثقلًا على حقيقة اتفاقهما في الرأي بشأن هذه المسألة. والواقع لا يمكن للمرء أن يتخيل مواقف أكثر تعارضًا، على الأقل ظاهريًا، أكثر من موقف رجل، باني نظام يهدف إلى نوع من الأفلاطونية المعاصرة، وموقف امرأة، مستوحاة من أدق أشكال البراغماتية اللغوية، التي أعادت للسفسطائيين اليونانيين أهميتهم الكاملة في نشأة حداثتنا. يُضاف إلى ذلك أن الرجل يتمسك بثبات بإرث كلاسيكيات الثورة الشيوعية، بينما تستكشف المرأة الإمكانيات الجديدة لديمقراطية تعددية. حتى فيما يتعلق بمكانة هايدغر، يختلفان: فهي حضرت آخر ندواته، متقبلةً بعض عناصر تفكيك الميتافيزيقا، وهي تهدف أساسًا إلى إضافة بُعد تخريبي عبر إرث غورغياس (480 – 375 ق.م) لفلسفة هايدغر المطعّم على بارمينيدس [الفيلسوف اليوناني ما قبل سقراط]؛ بينما ظلّ الآخر دائمًا على مسافة، مقتنعًا بأنه يمكن ويجب مواصلة في الميتافيزيقا، ولكنه يؤكد أيضًا أن هايدغر هو أعظم فيلسوف في القرن العشرين، ويشاركه في الاهتمام بالتفكير في الكينونة، وعدائه للسفسطائيين.

يمكن القول، باختصار، إن باديو يتمسك بالأنطولوجيا، أو فكرة الكينونة، في حين تتمسك كاسان بما أسمته اللوغولوجيا، أو فكر الأفعال والأداءات اللغوية.

ومع ذلك، في ظل هذه الظروف المتناقضة، يتبنى باديو وكاسان الموقف نفسه بشأن “قضية هايدغر”.

3 – الجدل المحلي

-تعتقد باربرا كاسان إذن: أنت وحدك (آلان Alain) تستطيع أن تسمي باديو وكاسان هكذا، بالتأكيد ليس أنا، لأنني أكتب كامرأة ولا أعرف كيف أقدم خطابًا سيدًا [أي خطاب يتسم بالسلطة واليقين]، على نحو عام. ربما يستحق ذلك ملاحظة أو تعليق تمهيدي حول مكان أيدينا الأربع [بمعنى التعاون بين باديو وكاسان، مع الاعتراف بأن لديهما وجهات نظر وأساليب مختلفة.]؟”

– آلان باديو: يمكننا أن نتفق مع لاكان على أنه، في تصنيف الخطابات، يبدو أن الخطاب الهستيري (الذي يطالب بالمعرفة ويرفض في الوقت نفسه سلطتها لدفعها إلى ما وراءها) يتداخل بسهولة أكبر مع موقف أنثوي من خطاب السيد الذي يؤسس بسلطته الخاصة دالًا أساسيًا ويعتزم ضمان قبضته على جميع نتائجه. وبالتالي، فإن “الذكورة” التأملية عرضة للدوغمائية، في حين أن “الأنوثة” النقدية والأدائية عرضة لزوبعة من الأحكام التي لا أساس لها. من الواضح تمامًا أننا، في الظروف الراهنة، يجب أن نتمسك بالحقائق، بوجودها ونتائجها، في ضوء ما يفعله تداول الآراء وتواصلها بأهم ما لدينا من صنم فكري، أي “حرية الرأي”، وهو العدم. إن القول بإن «كاسان وباديو يؤكدان أن…» يتميز بالفعل بقدر من الجزم والتعالي مقارنةً بالتعبيرات الأكثر وُدّية وتواضعًا مثل «باربرا كاسان وصديقها وزميلها ألان باديو سيؤيدان بكل سرور، مع آخرين، مع الأخذ في الاعتبار بسهولة إمكانية الدفاع عن الرأي المعاكس، ووجهة النظر التي بموجبها…».

إن موقفهما، في جوهره بسيط جدًا، يتمثل في ضرورة قبول المفارقة التالية: نعم، كان هايدغر نازيًا، ليس نازيًا ذا أهمية كبيرة، بل نازيًا عاديًا، برجوازيًا صغيرًا نازيًا من الريف. نعم، يُعَد هايدغر بلا أدنى شك أحد أهم الفلاسفة في القرن العشرين.

انطلاقًا من هذه الرؤية، نشرا، باربرا كاسان وآلان باديو، في عام 2007 رسائل هايدغر إلى زوجته، أو على الأقل تلك التي نشرتها حفيدته، جيرترود هايدغر، بعد أن خضعت على الأرجح لانتقاء أولي من الزوجين نفسيهما. وقد صدرت هذه الرسائل عن دار Seuil في مجموعة L’Ordre قضايا فلسفية philosophique التي كانا يشرفان عليها آنذاك..

وقد كتبا، كاسان وباديو، مقدمة لهذه الرسائل بعنوان “عن العلاقة الإبداعية بين الكبير والصغير”. لم يتناولا فيها فقط مفارقة الفيلسوف العظيم الذي ضل طريقه إلى النازية، بل تطرقا أيضًا إلى جانب لافت للنظر في هذه المراسلات: وهي علاقة الفيلسوف الكبير بالنساء، سواء بزوجته إلفريده، أو بالعديد من النساء اللواتي كنّ حبيباته خلال حياته الطويلة. فظهرت هنا صورة لزوجين معذّبين لكن غير قابلين للانفصال، وكأنهما النسخة الألمانية والريفية للثنائي الفرنسي والباريسي، سارتر – بوفوار.

وبعد سلسلة من الإجراءات القانونية، حظرت هذه المقدمة بناءً على طلب ورثة هايدغر، واتلفت النسخ المتبقية من المراسلات التي تضمنت المقدمة.

لكن المقدمة، على عكس المراسلات، تعود ملكيتها إلى كاسان وباديو، وقد قررا إعادة نشرها، مع تنقيحات وإضافات، لأن موقفهما من “قضية هايدغر”, ومن العلاقة بين حياة الفلاسفة المحدودة واللانهاية الكامنة في فكرهم، لا يزال أقلية، ولا يمكنه القبول بمثل هذا النوع من الرقابة، سواء جاء من أحد المعسكرين المتنازعين أو من التحالف القديم بين العائلة والملكية الفكرية.

 

المصدر:

Alain Badiou, Barbara Cassin – Heidegger.Le Nazisme, Les femmes, La philosophie

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

كامل عويد العامري

كاتب ومترجم عراقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى