
الكتابة بلغة الآخر بين الحفاظ على الهوية والاغتراب
إن الكتابة بلغة الآخر تمثل تجربة فريدة تجمع بين التحديات الثقافية واللغوية التي تواجه الكاتب، وبين الفرص التي تقدمها لغة جديدة للتعبير عن الأفكار والمشاعر. هذا النوع من الكتابة يثير تساؤلات عميقة حول العلاقة بين اللغة والهوية، ومدى تأثير استخدام لغة أجنبية على الأصالة الثقافية والانتماء، في سياق هذا الإشكال، هل تؤدي هذه الكتابة إلى تعزيز التواصل مع العالم أم إلى الاغتراب عن الجذور؟
اللغة والهوية: جدلية الارتباط والتأثير:
باعتبار ان اللغة ليست مجرد أداة للتواصل فقط، بل وعاء يحمل تراث الأمة وثقافتها، ويعكس روحها وهويتها. فعندما يكتب شخص ما بلغة أخرى غير لغته الأم، فإنه يدخل عالمًا جديدًا من المفردات والتعابير والقواعد التي قد لا تتوافق تمامًا مع ثقافته الأصلية. على سبيل المثال، قد يجد الكاتب نفسه مضطرًا إلى استخدام مفردات لا تعبر بدقة عن مفهوم معين في ثقافته الأم، أو إلى تقديم أفكاره بطريقة تتناسب مع السياق الثقافي للغة الأخرى.
لكن في الوقت نفسه، قد تتيح لغة الآخر فرصة لتوسيع الأفق والتفاعل مع جمهور أوسع في هذا الإطار نقدم مثالًا بارزًا في هذا الأمر وهو الكاتب الجزائري كمال داود، الذي يكتب بالفرنسية، التي بها تمكن من إيصال صوته إلى العالم باستخدام لغة المستعمر السابق، ولكنه واجه نقدًا من بعض معاصريه الذين يرون أن الكتابة بالفرنسية تشكل انفصالًا عن الهوية العربية والإسلامية.
الكتابة بلغة الآخر كجسر للتواصل:
من ناحية أخرى، يمكن للكتابة بلغة الآخر أن تكون وسيلة لتعزيز التواصل بين الثقافات كالكاتب المغربي الطاهر بن جلون، الذي يكتب بالفرنسية، إذ استخدم هذه اللغة لنقل تفاصيل الحياة المغربية والثقافة الإسلامية إلى جمهور عالمي، بن جلون يرى أن الكتابة بلغة الآخر لا تعني بالضرورة التخلي عن الهوية، بل هي وسيلة لجعل هذه الهوية مفهومة للآخرين.
أما الكاتبة جينيفر نخلة عازار، وهي لبنانية تكتب بالإنجليزية، فهي تعد مثالًا آخر على ذلك. من خلال أعمالها الأدبية، إذ قدمت جوانب من الثقافة اللبنانية للجمهور الغربي. ولكن في الوقت نفسه، واجهت تحديات في نقل الروح الحقيقية للهجة واللغة العربية إلى نصوصها الإنجليزية، مما أثار تساؤلات حول فقدان الأصالة.
بين الاغتراب والإبداع:
قد يشعر الكاتب الذي يكتب بلغة أخرى بالاغتراب عن جذوره. هذا الشعور ينبع من كونه يعبّر بأداة لغوية ليست متأصلة في وجدانه. على سبيل المثال، الكاتبة اليابانية كازو إيشيغورو، التي تكتب بالإنجليزية رغم أصولها اليابانية، تحدثت عن شعورها بأنها بين عالمين: عالمها الأصلي الذي يحمل ذكريات طفولتها، وعالمها الحالي الذي يعبر عن نجاحها المهني.
على الجانب الآخر، قد يكون استخدام لغة الآخر مصدرًا للإبداع، إذ يمنح الكاتب زاوية جديدة للنظر إلى الأمور. واوضح رأي كان للشاعر الفلسطيني محمود درويش، فرغم أنه كتب بالعربية فقط، قال في إحدى مقابلاته: «لو كتبت بالعبرية، ربما كنت سأكتشف زوايا جديدة في قصيدتي». هذا يبرز كيف يمكن للغة الأخرى أن تفتح آفاقًا جديدة للتفكير والتعبير.
تجربة الكتابة بلغة الآخر في الأدب العربي:
في السياق العربي، الكتابة بلغة الآخر ارتبطت غالبًا بظروف الاستعمار والاحتكاك الثقافي. العديد من الأدباء العرب الذين كتبوا بالفرنسية أو الإنجليزية تأثروا بتلك المرحلة التاريخية مثال أندريه شديد، الكاتبة الفرنسية من أصول لبنانية، التي كتبت بالفرنسية ولكنها حافظت في أعمالها على روح الشرق الأوسط، مما يعكس قدرتها على المزج بين الثقافتين.
أما في العصر الحديث، فإن ظاهرة الكتابة بلغة الآخر أصبحت خيارًا شخصيًا مرتبطًا بالعولمة والهجرة. والمثال الكبير تمثل في الكاتبة العراقية دنيا ميخائيل، التي تكتب بالإنجليزية إلى جانب العربية، فقد استطاعت نقل معاناة الشعب العراقي إلى العالم الغربي من خلال لغة يفهمها جمهور أوسع، مما يعكس دور لغة الآخر في بناء الجسور بين الشعوب.
التحديات والمكاسب:
الكتابة بلغة الآخر ليست خالية من التحديات. فالكاتب يواجه صعوبة في التعبير عن مشاعره وأفكاره بصدق، نظرًا لأن اللغة ليست جزءًا أصيلًا من وجدانه. كما قد يتعرض للنقد من مجتمعه الأصلي الذي قد يراه متخليًا عن جذوره. على سبيل المثال، يتهم بعض المثقفين العرب الكُتّاب الذين يكتبون باللغات الأجنبية بأنهم يخاطبون الغرب على حساب القضايا العربية.
ومع ذلك، هناك مكاسب لا يمكن إنكارها، فالكتابة بلغة الآخر تتيح فرصة الوصول إلى جمهور عالمي، وتساعد على نقل القضايا الثقافية والاجتماعية إلى فضاء أوسع. كما أنها تفتح المجال للإبداع والتجديد، حيث يجد الكاتب نفسه في مواجهة تحدٍ جديد يتطلب مهارات لغوية وثقافية مختلفة.
الخلاصة:
في حوصلة ما سبق نستنتج الكتابة بلغة الآخر تجربة مليئة بالتحديات غنية بالمكاسب. إذ بين الحفاظ على الهوية وخطر الاغتراب، يجد الكاتب نفسه في رحلة لاكتشاف الذات وإعادة تعريفها. هذه التجربة قد تؤدي إلى تعزيز التواصل بين الثقافات، لكنها في الوقت نفسه تثير أسئلة عميقة حول مدى تأثير اللغة على الهوية، ومع ذلك تبقى الكتابة بلغة الآخر خيارًا شخصيًا يعتمد على رؤية الكاتب ودوافعه، ولكنها في كل الأحوال تظل أداة قوية للتواصل والإبداع.
عدد التحميلات: 0