
تحوّل الخطاب الشعري القديم من الغنائية إلى الرسالية
أ- توطئة: مدخل إلى الشعرية عمومًا، ومنه إلى الشعرية العربية القديمة خصوصًا
قبل أن ندلف إلى صلب الحديث حول شعرية النص الشعري القديم الذي ارتأينا أن نؤطره زمانيًا بفترات ثلاث متعاقبة، هي شعر الجاهلية، وشعر صدر الإسلام، وشعر العصر الأموي كان لزامًا علينا أن نستهل بمدخل عن مفهوم الشعرية عمومًا، لنقف إثره على الشعرية العربية القديمة خصوصًا.
الشعرية لغة مصدر صناعي ناشئ عن لفظة الشعر مع زيادة ياء مشددة وتاء مربوطة في آخره، ومعلوم أن المصدر الصناعي إنما يُنشأ للدلالة على صفات وخصائص تكسبها صيغته لم تكن موجودة في المصدر أو الاسم قبل ذلك.
فالشعر معروف عند العرب منذ وعوا أنفسهم على جاهليتهم ورد بلفظه الصريح وبمشتقاته أو مرادفاته أو مجازاته في شعر الجاهليين، والشعراء الذين قرضوه كُثر، قد أتوا على كل المعاني، فهذا عنترة يقول:
هل غادر الشعراء من مُتردَّم
أم هل عرفتَ الدار بعد توهّمِ؟1
أما حسّان فيستعيض عن التصريح عن لفظ الشعر لديه بنوع من المجاز وهو الاستعارة التصريحية، فيعبّر عنه بالبحر في معرض التمييز بين لسانه (لغته) وبحره (شعره)2
لساني صارم لا عيب فيه
وبحري لا تكدّره الدلاءُ
والشعرية اصطلاحًا ظاهرة فنية كامنة في النص الأدبي شغلت دارسي النقد الأدبي قديمًا وحديثًا، وتكاد ترد إلى فكرة واحدة على اختلاف تعريفاتهم وتفسيراتهم- نتيجة لاختلاف منطلقاتهم الفكرية ومشاربهم الثقافية – إلى ما يميز نص أدبي عن نص غير أدبي سواء أكان شعرًا أو غيره، وإن كان مجال بحثنا هذا مقتصرًا على الشعر.
تصدى أرسطو للخوض في هذه المسألة، حين ذكر مجالات الشعر في كتابه (فن الشعر)، مبرزًا مجالات الشعر التي تتوفر في النص الأدبي.
وفي المدوّنة النقدية العربية القديمة استأثرت الشعرية باهتمام كبار النقاد من أمثال عبدالقاهر الجرجاني في كتابيه (دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة)، من حيث كون الأول إبداعا يتعلق باكتشاف نظرية النظم، والثاني تطبيق عملي لذلك. يقول الجرجاني: «الكلام على ضربين: ضرب أنت تصل فيه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، وذلك إذا قصدت أن تخبر عن زيد مثلاً بالخروج على الحقيقة فقلت: خرج زيد. وبالانطلاق عن عمرو فقلت عمرو منطلق. وعلى هذا القياس. وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض ومدار هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل»3
ويقترب أكثر فأكثر مما تنص عليه الشعرية حينما يشير إلى «معنى المعنى» فيقول: «وإذ قد عرفت هذه الجملة فهاهنا عبارة مختصرة وهي أن تقول المعنى ومعنى المعنى تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر»4
أما حازم القرطاجني فقد عد التخييل أساس المعاني الشعرية: «إن التخييل هوقوام المعاني الشعرية والإقناع قوام المعاني الخَطبية»5
ومع ظهور اللسانيات الحديثة في الغرب مع مطلع القرن العشرين اتجه الدارسون واللسانيون والنقاد هناك إلى محاولات لضبط الشعرية وعلْمنتها أكثر، حيث تناولها ياكوبسون في الوظيفة الشعرية، وتودوروف في كتابه معنى المعنى وريفاتير في سيمائيات النص الشعري.
كما اختلف النقاد العرب المحدثون حول تسميتها ومفهومها، فقد وصفها محمد الولي ومحمد العمري وشكري المبخوت ورجاء بن سلامة والمسدّي وأحمد المطلوب وسامي سويدان وكاظم جهاد بالشعرية، في حين أسماها توفيق بكار والطيب البكوش وحمادي صمّود بالإنشائية، وكذلك بالشاعرية عند سعيد علوش وعبدالله الغذامي، بينما تُسمى عند جابر عصفور ومحمد الماشطة بعلم الأدب، وعند جميل نصيف ومحمد خير البقاعي بالفن الإبداعي، كما وصفها فالح الإمارة وعبدالجبار العظيم بفن النظم. وأما عند يؤئيل عزيز وعلية عياد بفن الشعر، وعند علي الشرع بفن الشعر، كما تسمى عند خلدون الشمعة بويطيقا، وكذلك عند حسين الواد بويتيك، بينما يسميها توفيق الزيدي بالأدبية»6
ب – تحوّل الخطاب الشعري القديم من الغنائية إلى الرسالية:
الغنائية بين مركزية الأنا، وسلطة القبيلة
إذا ما استعرضنا الشعر الجاهلي ألفيناه متشابهاً في أسلوبه، فالقصيدة الجاهلية تبدأ بالوقوف على الأطلال وذكر الأحبة بعدها ينتقل الشاعر الجاهلي إلى وصف الطريق الذي يقطعه بما فيه من وحش، ثم يصف ناقته، وبعد ذلك يصل إلى غرضه من مدح أو غيره، وهذا هو المنهج والأسلوب الذي ينتهجه الجاهليون في معظم قصائدهم ولا يشذ عن ذلك إلا القليل من الشعر «عرفت القصائد الجاهلية الطوال نمطًا خاصًا في بنائها فصله ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء، يتمثل في تعدد الأغراض، وتقوم القصائد الجاهلية الطوال والمعلقات العشر»7 (أخذا بقول الخطيب التبريزي الذي يعد المعلقات عشرًا، باعتباره آخر الشُّرّاح القدامى من حيث الرتبة الزمانية). دليلاً على هذا النمط، فلم يكن الشاعر الجاهلي يصل إلى غرضه إلا بعد أن يمهّد له – في الغالب – بأغراض أخرى، فقد كان الشعراء يبدؤون عادة بالوقوف على الأطلال ثم ينتقلون إلى ذكر الظعائن، ثم يصفون الراحلة والطريق التي سلكوها، ليخلصوا إلى الغرض المقصود في آخر القصيدة كالفخر مثلما هو الحال مع عنترة، أو التشبيب ووصف الصيد والخيل والمطر كما هو الحال لدى أمرئ القيس، أو يختم بالحكمة مثلما فعل زهير الذي عُرف بتنقيح شعره، وتقويمه إلى حد أن شعره سمي بالحوليات.
وربما شذ بعضهم عن هذا السمت، فلم يستهل بالوقوف على الطلل، ولم يصف مشاهد الظعن، ولم يصور الراحلة تصويرًا مستفيضًا مُسهبًا، بل بدأ بطلب الشراب من الساقية:8
ألا هُبّي بصحنك فاصبحينا
ولا تبقي خمور الأندرينا
وليس خروج عمرو بن كلثوم عن السَّنن السائد إلا استجابة لمطلب الفخر الذي لا يكون إلا بالقبيلة، كيف لا وهي في مقام «تغلب» ولله در القائل: «لولا الإسلام لأهلكت تغلب العرب». إنها لحظة تفتقت فيها الشاعرية عن انتصار للكرامة، وأية كرامة أجل من مصرع الملك عمرو بن هند في بلاطه على يد الشاعر، استجابة لاستغاثة أمه: واذُلاّه. يا لتغلب.
كما أن الفعل المُسند إلى ضمير الجماعة المتكلمين الذي تكرر في أبيات كثيرة من القصيدة التي تعد أطول المعلقات، إلى جانب معلقة طرفة حيث بلغ عدد أبياتها كل منهما 103 بيت، بدءًا بقوله: «اصبحينا»، وقد يكون هذا الضمير مستترًا مع الفعل المضارع: (نخبرك) في البيت التاسع، أو ضمير جماعة المتكلمين (نا) المجرور بحرف جر (عناّ) كما في البيت الخامس، حيث بلغت هذه الصيغ ما ينيف على 120 مرة، مما يشي بتواتر النزعة القبلية في الفخر.
أما عبيد بن الأبرص، فهو أيضا – في حال فرار من بيئة موات بحثًا عن ملاذات تمثلها مرحلة العودة إلى الشباب أيان كان يمتطي صهوة فرسه، ويستعيد ذكريات الفتوة والمغامرات، فيكون بذلك مطلع القصيدة9:
أقفر من أهله ملحوبُ
فالقُطبيات فالذَّنوبً
إن صوت الجماعة يطفو إلى السطح بعد ذكر الأماكن التي حل بها الخراب، في توصيف مذهل:
أرض توارثها شَعوب
وكل من حلّ بها مَحروبُ
إما قتيل وإما هــــالك
والشيب شين لمن يشيبُ
ثم إنه يحرص على أن يستفيد المتلقي من تجربته في الحياة من خلال جملة من النصائح، وقد لا يكون هذا المتلقي إلا ذاته حمْلا لها على الثبات والتكيف مع كل البيئات:
ساعد بأرض إن كنتَ بها
ولا تـقـل إنني غـريـبُ
قد يُوصَل النازح النائي
ويُقطَع ذو السُّهمة القريبُ
وقصارى القول فإن الغنائية في أبرز تجلياتها مركزية الذات في نقل أحاسيسها، والإفضاء بمكنوناتها عبر ما سمي في الاصطلاح النقدي أغراضا كالغزل والرثاء والمدح والفخر، ذاك الشعر الذي قال عنه حسان بن ثابت:10
تغنَّ بالشعر إمّا كنتَ قائله
إن الغناء لهذا الشعر مضمار
وكان حازم القرطاجني يرى أنّ «المعاني التي تتعلق بإدراك الحسّ هي التي تدور عليها مقاصد الشعر(…) والمعاني المتعلقة بإدراك الذِّهن ليس لمقاصد الشّعر حولها مدار»11
وما أكثر ما كان الشاعر يُخاطب في قصور الخلفاء والأمراء بقولهم: أنشدنا… وهل الإنشاد إلا ضرب من الغناء؟
وهذا أبو الفرج الأصبهاني يبدأ كتابه في الحديث عن المغنين، ثم لا يلبث أن يتحول في سلسلة أجزاء عمله الضخم إلى الحديث عن الشعراء وذكر أخبارهم، حتى إن قصائد عصماء تستحيل من غنائية تتلجلج في الصدر إلى غنائية تحتفي بها الموسيقى المعبرة والصوت الشجي، من ذلك إحدى روميات أبي فراس التي مطلعها أراك عصي الدمع، حيث تغنت بها كوكب الشرق أم كلثوم، فكان تمثيلاً للحال بالنبر والتنغيم والترجيع والتأوه وما إلى ذلك من حسن الأداء.
ولئن كان الشعر الجاهلي موسومًا باتفاق، فإنه –لا مِراء- في أنه يحتفظ لنفسه بشعريته التي يمكن تتبعها باستقراء المنتج الشعري الجاهلي برمته، بيد أننا – في هذا السياق – نقتصر على تلمسها في شذرات من بعض شعراء المعلقات باعتباره غيضًا من فيض، وانتخالاً من ركام. ومن عناصر الشعرية نورد ما يلي:
أ – التشبيه:
اعتبر ابن طباطبا أن الصورة الشعرية إنما تتجسد من خلال التشبيه من منظور حسي بوصفه مجالاً وإطارا للإبداع الشعري، مؤطرًا التعبير به على ما تلزم به قواعد العقل والمنطق، وما أُثر عن العرب في كلامها، والمقصود -هاهنا- مأثور الكلام من قرآن وشعر جاهلي ونحو ذلك «واعلم أن العرب أودعت أشعارها من الأوصاف والتشبيهات ما أدركه من ذلك عيانها وحسها»12
والتشبيه عند الشاعر الجاهلي لا يخرج عن هذا القانون، حيث لا يجاوز الأخذ من المحسوسات لوصف المحسوسات، أو حتى التمثيل للمعنويات، فمن الضرب الأول قول طرفة في وصف ناقته:
لَهَا فَخِذَانِ أُكْمِلَ النَّحْضُ فِيْهِمَا
كَأَنَّهُمَا بَابَا مُنِيْفٍ مُمرّد13
ومنه قول عمرو بن كلثوم في سياق الفخر بالقبيلة14
كَأَنَّ سُيُـوْفَنَا منَّـا ومنْهُــم
مَخَـارِيْقٌ بِأَيْـدِي لاَعِبِيْنَـا
ومن الضرب الثاني قوله 15:
لَعَمْرُكَ إِنَّ المَوتَ مَا أَخْطَأ الفتى
لكَالطّوَل المُرْخى وثِنياه باليدِ
ب – الاستعارة:
لم تخرج الاستعارة في الشعر الجاهلي عن التنظير الذي قال به النقاد القدماء من أمثال ابن طباطبا وقدامة بن جعفر والآمدي على اعتبار الشعر صنعة تعتمد على العقل، وتربط الشاعر ربطًا واضحًا بالواقع والعُرف، من ذلك رأي قدامة: «فمن المحال أن تنكر مداخلة بعض الكلام في ما يشبهه من وجه أو في ما كان من جنسه، وبقي النكير إنما هو في أن يدخل بعضه في ما ليس من جنسه وما هو غير لائق به، وما أعرف ذلك إلا فاحش الاستعارة»16 بمعنى التمسك بمبدأ ملاءمة بين طرفيها.
ولا تخرج استعارات الجاهليين عن هذا النظام، لعلاقتهم الوطيدة بالطبيعة المحسوسة من حولهم، وخلوّ حياتهم من التعقيد الفكري أو التفكير الفلسفي ونحو ذلك. ومن استعاراتهم قول زهير في الحرب17
فَتَعرُككمُ عَرْكَ الرَحى بِثِفالِها
وَتَلقَحْ كِشافاً ثُمَّ تَحمِلْ فَتُتئِمِ
وربما استعير للمعنوي من المحسوس، كما في قول عمرو بن كلثوم في سياق الصدع بصوت القبيلة
وَرِثْنَـا مَجْدَ علقمة بن سيف
أباح لنا حصون المجد دينا18
فالمجد غاية ما يتوق إليه العربي الجاهلي، حتى إنه ليبلغ مرتبة الميراث الذي يستحق أن تخاض من أجله الحروب، إذ لربما افتدى المرء نفسه بماله حفاظا على حياته إذ استيقن الخطر، ورأى أنه لا يمكن الظفر بهما معًا.
أما حسان بن ثابت فينتزع من محسوس وهو البحر الاستعارة التصريحية في عجز البيت:
لساني صارم لا عيب فيه
وبحري لا تكدّره الدلاءُ19
ج – الكناية:
باعتبارها لونا من المجاز يمثّل انحرافًا أسلوبًا يمليه السياق، يثير متعة لدى المتلقي، ويحيله إلى تلقف المعنى ببعض الجهد العقلي، حيث لا تستساغ التقريرية والسطحية فإن النقاد العرب القدامى أشاروا إلى مزيتها في الكلام، من ذلك ما جاء عن ابن الأثير: «كقولك فلان نقي الثوب، تعني تنزيهه عن العيوب. وفائدة ذلك أن السامع يحصل له زيادة التصور بهذا المثال على المدلول عليه، فكان أسرع إلى الرغبة فيه»20
ومن صور الكناية البليغة التي وافقت محلها، حيث تذهب فيها النفس كل مذهب قول أمرئ القيس:
وقد أغتدي والطير في وكناتها
بمنجرد قيد الأوابد هيكل21
وقول الخنساء:
وإن صخرا لوالينا وسيدنا
وإن صخرا إذا نشتو لنحّار22
أما عمرو بن كلثوم فإن الكناية لديه تبدو أكثر حماسية لتعلقها بساح الوغى، والفخر ببطولات القبيلة دائمًا:
بأنّا نورد الرايات بيضا
ونُصدِرُهنّ حُمرا قد رَوينا23
د -المجاز المُرسل:
وفي مثل هذا الضرب من التخييل – كما هو معلوم – تقوم العلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي على غير المشابهة لوجود قرينة من العلاقات مانعة من المشابهة، كقول عنترة:
هلاّ سألت الخيل يا ابنة مالك
إن كنتِ جاهلة بما لم تعلمي
وكقول عمرو بن كلثوم24:
وَأَنْزَلْنَا البُيُوْتَ بِذِي طُلُـوْحٍ
إِلَى الشَامَاتِ نَنْفِي المُوْعِدِيْنَـا
وفيما سلف من هذه اللًّمع أن نزاوج في غنائية الشعر الجاهلي بين صوت الأنا وحضور القبيلة، من خلال أبرز تجليات الشعرية من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز مُرسل.
عدد التحميلات: 0