
«التلميذة الخالدة» قراءة في السيرة الذاتية لماري كوري، بقلم ابنتها إيف
«ألا ليت لي موهبة كاتب لأتحدث عن التلميذة الخالدة التي قال عنها آينشتاين ذات مرة: أن ماري كوري من بين جميع المشهورين هي وحدها التي لم يفسدها المجد».
لماري كوري مكانة خاصة ومميزة للغاية في قلبي، ذلك لأنها تحتل من ذكراي حيزًا كبيرًا، منذ اختُيرت لتكون إحدى السير الذاتية القليلة المتواجدة على رفّ مكتبة منزلنا، والتي ظللتُ سنوات أمرّ بها قبل أن تجذبني كفاية لأسحبها وأغرق فيها، ذلك لأن الروايات والقصص وحدها هي ما كان يجذبني وقتها.
ماري كوري أو مانيا سكوودوفسكا قبل أن يدخل بيير كوري حياتها، الشابة الطموح الوقادة الذكية التي لا تكلّ ولا تملّ وتطلب العلم حقًا من مهدها إلى لحدها! لا شيء في هذا الكون الواسع يثير مخيلتها ويجعل قلبها يضطرب في صدرها كما تفعل معادلات الرياضيات، لا شيء يوقد شغفها ويشعل ذهنها ويذكي نيران روحها كما تفعل معادلات الكيمياء ومختبر العلوم العريق في جامعة السوربون!
وليس من إنسيّ يستخف بسطوة المال وهيمنة المادة كما تفعل ماري كوري، فهي قادرة على العيش أشهرًا بخبز وزبدة وقادرة على التقتير لأقصى حد وحرمان نفسها من أدنى حاجياتها في مقابل مقعدًا في جامعة أو كتبًا علمية أو معادلات جديدة في الرياضيات يُتاح لها دراستها ولأجل هذا أيضًا حين طبقت شهرتها الآفاق وذاع اسمها وصارت الأضواء تختطف صورتها والمحافل تستجدي حضورها لم تدرِ ماري كيف تتصرف حيال كل هذا وما انفكت تختبئ من الناس وتفر من الجماهير مذعورة كما يفر الصحيح من طاعون ما!
وأحيانًا أتعجب كيف أن دقائق أرواحنا تتلامس وتنجذب لعناصر بعينها منذ نعرف لنا كيانًا في هذه الدنيا، منذ نتذوق أيام الحياة ونختبر بين الشفتين أسماءنا، بعض الأرواح تهفو للقلم والكلمات، بعضها للعلوم والطبيعة، بعضها للموسيقى وبعضها للطهو وشتى أنواع الحياة ودهاليزها، هكذا كانت ماري كوري يخفق قلبها بعنف فور أن تنغمس في حقول العلم التي تعشقها، يسيل لعابها مرأى الجامعات العريقة والأساتذة المرموقين والمختبرات الواسعة والطلبة يغدون ويروحون، والبيئة التي نشأت فيها شجعتها فوق ذلك كل تشجيع فبين أب مدرس ومربي وإخوة أطباء وزوج عالِم لقيت من حولها كل الدوافع المطلوبة والمعونة المحفزة.
ماري كوري العالمة الفذة، الحائزة على جائزة نوبل مرتين إثر اكتشافها لعنصر الراديوم المشعّ، البولندية العذبة، الفتاة التي ألفتْ المركز الأول في كل مضمار تخوض سباق فيه، الطفلة التي ذاقت المعاناة واليتم بعد وفاة والدتها الحنونة وكانت ترتجف سخطًا لدى حضور مفتشي الروس فصول مدرستها، إذ كانت بولندا محتلة من قبل روسيا وألمانيا، ونشأت الفتاة مخلصة لوطنها مستعدة للنضال لأجل حريته مهما كلفها ذلك من ثمن! وهي المضحّية التي قضت من شبابها ما يقارب الثماني سنوات تعمل مربية لدى الأسر الثرية وترسل كل ما تجني لشقيقتها الكبرى برونيا في باريس كي تستكمل دراستها، فبعد أن أضنى العمل كلتاهما اتفقت ماري مع أختها أن تذهب للدراسة وتبقى هي في بولونيا تعمل وترسل لها، حتى إذما أتمّت الكبرى دراستها عملت وساعدت بدورها شقيقتها الصغرى، وتمضي السنوات رتيبة قاتلة على ماري حتى تقرر السفر أخيرًا لتبدأ بحق مستقبلًا باهرًا ومشرقًا كل الإشراق: «وما كانت تدري أنها قد اختارت حدًا يفصل بين الظلمة والشعلة، بين حقارة الأيام المتشابهة وبين حياة حافلة لا حد لها».
هذه السيرة الذاتية تكتبها وتتبع حياتها ابنة ماري كوري الصغرى إيف كوري، ولا شيء أكثر عذوبة من أن تصغي للابنة تتحدث بافتتان صادق عن أمها، وتتبع خطى تفكيرها وشتات عواطفها وتلملم خيوط ذكرياتها المتناثرة هنا وهناك، تشرح لك مكنون صدرها في حادثات وقعت قبيل مولدها وتتأمل مليًا في أحاديث دارت قبل أن توجد وتسحر بقصة حب دارت بين اثنين هما والداها، تدهش لوقائعها وتذوب في تفاصيلها، وماري وبيير كوري تركا الكثير من الذكريات واليوميات والمدونات والخطابات التي تبودلت لوقت طويل وكل هذه الخربشات التدوينية ساعدتها وهي تكتب هذه السيرة الذاتية عن أمها، لكن هناك مشاعر دارت خلف الستار وأسرار فكرية احتفظت بها ماري كوري لنفسها والتقطتها إيف واحدة واحدة فكرة فكرة دقة قلب فدقة قلب وسجلتها هنا.
وإنه لمن النادر أن تجد قلبين اجتمعا على الحب وحب العلم كما اجتمع بيير وماري كوري، فكلاهما يتفهم تمامًا افتتان رفيقه بعلوم الطبيعة ذلك لأنه هو ذاته قد وقع في سحرها، وكلاهما ينسيان الساعات والأيام التي تتعاقب عليهما فور أن يدخلا إلى محراب العلم مختبرهما وينغمسان بالكلية في التجارب العلمية، «أحدنا رأى وأحدنا أثبت»، ماري هي من اكتشفت وجود العنصر المجهول وبيير أثبت هذا الوجود بعدئذ وكان قد ترك كل دراساته وانكبّ مع زوجته على تجاربها وقد أخذه اكتشافها المجيد، وهكذا تكلّلت جهودهما معًا باكتشافٍ للتاريخ، ويبدو كما لو أن ماري كانت بارعة في العثور على أرواح تنصهر في بوتقة روحها، فمن قبل رفيقتها وشقيقتها برونيا واليوم مع إلفها وزوجها حتى لقد ذابا حقًا في عقل واحد وكيان واحد! ساعات وساعات بل أشهرًا بل سنوات قضاها الزوجان في سقيفة متواضعة فقيرة الأثاث يحركان السوائل وينفقان كل وقتهما في تحريك محتويات قدور هائلة ولا شيء يشغلهما سوى هدفهما المشترك وهو تحضير عنصر الراديوم وتقديمه على طبق من ذهب للعالم الجائع المتأهّب، وبرغم الإجهاد العنيف الذي كان ينال منهما وبرغم المشاق والعقبات التي كان تعترضهما دون رحمة وبرغم الاشتياق الذي كان يصيبهما نحو طفلتهما ايرين إلا أن هذي السنوات كانت أسعد وأجمل ما قضت ماري في حياتها وهي ترافق إلف روحها وشق قلبها بيير كوري يجمعهما حب واحد وهدف مشترك واحد، وبين الأسطر يتجلى لك كم أن الراديوم ابن عاق لوالديه اللذين اكتشفاه ومنحاه النور، فبقدر ما كان يجتهدان ليبثّا فيه الحياة بقدر ما كان يهبهما المشقة والفقر بل والمرض أيضًا إذ كان الراديوم يعدي بإشعاعه كل الأجسام القريبة منه ويترك عليها أثرًا يبقى عبر سنوات طوال، وهكذا اكتُشفت بقاياه على كراسات مذكرات الزوجين كوري بعد سنوات طويلة من رحيلهما! حتى انتهى الأمر بأن يكون السبب الرئيسي في وفاة مكتشفته وسبب وجوده، عندما ظهر أخيرًا في جهازها المناعيّ أثر سنوات من التعرض له دون وقاية.
وإن اكتشاف عنصر الراديوم بهذه الطريقة المدهشة المثيرة للعجب يكاد يكون أسطوريًا بالنسبة لي وكأني أقرأ قصةَ خرافة غامضة عتيقة جذابة، عنصر سحري بدّل حياة العالم إثر اكتشافه! ولكن هكذا هي الحياة أكثر عجبًا وإثارة للدهشة من أية قصة خيالية!
ثم يقع الحادث الأليم المفجع الذي سيزلزل حياة ماري إلى الأبد ويشوه روحها إلى غير رجعة وهو رحيل حبيبها وزوجها وأستاذها ورفيقها المفاجئ عن الدنيا إثر حادثة مروعة! وتتبدل ماري وتصبح كائنًا جامدًا بلا روح ولا يعود فيها أي حب للحياة أو تطلع لها أو شغف بها مما كان فيها قبلًا، وتريد أن تصرخ ولا تستطيع، وتريد أن تموت لتلحق به فلا تستطيع، وتريد لو يتركها الجميع وشأنها فلا تستطيع! هكذا تنكب على الورق وتنادي حبيبيها مرارًا ومرارا وتحكي له كل دقائق أيامها وجزع قلبها وزفرات نفسها وتقص عليه حتى أحداث دفنه وشكل تابوته والجمهور الذي كان ينعيه!
وتكاد تجزع لإشراقة الشمس من جديد وإزهار الربيع والتماعة النجوم! وهي قد غادرتها كل أسباب الحياة ومباهجها، «بيير حبيبي بيير أنت هناك هادئ كجريح مسكين، يستريح في منامه معصوب الرأس، وجهك حلو رائق، لاتزال هو أنت مقيدًا في حلم لا تستطيع منه فكاكًا»، ويُعهد إليها بمنصبه كأستاذ في جامعة السوربون لتصبح أول امرأة على الإطلاق يُسمح لها بشغل هذا المنصب، وتبتدئ أولى دروسها والقاعة غاصّة أمامها ليس بالطلبة فحسب بل بعلماء من شتى أنحاء العالم وصحفيين ورواد المجتمع كلهم جاؤوا ليشاهدوا الأرملة والأستاذة في أول لقاء لها مع طلبتها، لتدخل ماري في هدوء وتبدأ درسها بآخر جملة كان قد انتهى إليها بيير كوري وتمضي في الدرس بتصميم ثم تغادر القاعة فورًا بهدوء.
هذه المرأة التي لا تعرف الراحة ولا تحبها ولا تريدها، تمضي حياتها كاملة بكل دقيقة وثانية منها في عمل دؤوب متواصل لا ينقطع، فمن المعمل إلى أستاذية الجامعة إلى تفان وجهاد في خدمة فرنسا إبّان الحرب العالمية الأولى وبرغم أن هذه الأخيرة ليست موطنها إلا أنها باتت جزءًا منها مذ أحبت وتزوجت واقترنت للأبد بعالم فرنسيّ.
وقد أحببتُ على وجه الخصوص حكمةَ ماري في التعامل مع ابنتيها، فعلى قدر سعادتها بابنتها الكبرى إيرين وهي تخطو ذات خطوات والديْها وتصبح تلميذة رسمية لوالدتها وتعشق وتُفتن بذات الحقل الذي فَتن من قبل أبويْها، وهو الطريق الذي سيؤدي بها إلى الحصول على جائزة نوبل هي الأخرى، على قدر تفهّم ومحبّة ودعم ماري لابنتها الصغرى إيف كاتبة هذه الكلمات وهذه السيرة الذاتية لأمّها، فإيف لم ينجح العلم في إيقاعها بحبائل عشقه وكانت فتنتها الوحيدة هي الموسيقى والفنّ والكلمات والأدب، فانطلقت ْماري تشجعها على سلوك هذا الدرب، برغم أمنيتها ذات يوم بأن تصبح إيف طبيبة كما كانت شقيقتها الكبرى الحبيبة برونيا.
وظلّت هذه المرأة على حيائها وخفرها وانطوائيتها ونزوعها إلى الوحدة طوال حياتها، وكانت المعامل والبلاد من شتى أصقاع الأرض مملوءة حتى التخمة بعنصر الراديوم: اكتشافها المثير، في حين لا تملك ماري ثمن شرائه وصارت تتمنى أن يُوهب لها ولو جرامًا واحدًا منه تستخدمه في معملها المتواضع! في حين أنه كان يمكنها أن تغتني باكتشافها هذا ويكون لها كل الحق فيه لو أنها وبيير قد اشترطا هذا قبل أن يهبا بحوثهما كاملة للعلم، لكن ماري لا تندم قطّ على هذا وحتى بعد أن اضطرت لتسوّله تقريبًا من أمريكا في احتفالات ضخمة أوهنت قواها.
وتلخّص إيف كفاح والدتها وشغفها وجلّ أمانيها في هذه العبارة «كانت طول حياتها تلازمها فكرة هذه المواهب الفكرية التي تظلّ مجهولة عاطلة في الطبقات المحرومة من المال، فقد يكون مختفيًا وراء هذا الفلاح أو هذا العامل كاتب أو عالم أو مصور أو موسيقار، فبذلتْ جهودًا مضنية لزيادة الأموال الموقوفة على الدراسات العلمية الدولية، ففي أكواخ الفقراء كنوز نادرة خفية، يعدّ من الإجرام نبذها واحتقارها وضياعها».
وهي إلى ذلك لا تنسى موطنها الفقير المنبوذ المرهق العائد لتوه من صراعات وويلات الحرب فتبذل جهودًا مضنية أخرى في سبيل تأسيس معاهد ومعامل فيه، ولسببٍ ما أثر بي هذا أكثر من أي شيء آخر، فليس كل الناجحين المرموقين الذين أصابوا من الدنيا بحظ عظيم يحملون هذا الوفاء النادر لأوطانهم، هذه الرغبة العظيمة في النهوض بها ونفعها وتطويرها مهما كلّف الأمر وأيًّا كانت الظروف والعقبات، وكان نتيجة تفاني ماري الخلّاق هذا أنّ ما خلّد اسم ماري وجعلها أسطورة بحق، خرافة باقية لا تموت ولا تفنى هو ذات تفانيها ذاك، نعم كان اكتشافها عظيمًا، نعم كانت شهاداتها مؤثرة، لكن ما جعلها بهذا الإجلال ومنحها كل تلك المحبة والاحترام عبر مائة عام من الزمان كان إخلاصها الذي لا يشابهه شيء للعلم وحرصها على مستقبل البشرية وحنوّها على كل الذين كافحوا لينهضوا حول أنحاء العالم.
وإني أحيانًا أشعر بالرثاء على إيف كوري كاتبة هذه السطور، فهي لا تفقه شيئًا من شغف العلم الذي سيطر على أبويها وشقيقتها الكبرى ويكاد يجرف معه كل فرد من عائلتها، في حين تهوى هي الموسيقى والكعب العالي وأحدث موضات الفساتين المزينة بالدانتيلا وأجمل مساحيق التجميل القادمة توًا من فرنسا! وكانت والدتها تدخل عليها غرفتها وهي تتأهب لحضور حفل موسيقي فتفزع لفستان ابنتها أو الأصباغ التي تلوّن وجهها وتحاول بحنوّها استيعاب هذا الشغف الغريب كل الغرابة عليها هي التي لم تلتفت يومًا لفساتينها ولا تشعر بالراحة إلا فيما بُلي من الثياب، ولمّا تزوجتْ إيرين كانت الابنة الصغرى إيف والأم العالمة الشهيرة تقضيان جلّ أوقاتهما معًا وتلتقيان كل ليلة على مائدة العشاء، ماري تحكي عن المؤتمرات والندوات العلمية التي حضرتها وإيف تحكي عن آخر حفل موسيقي ارتادتْه، هكذا يتكون شيئًا فشيئاً ويومًا إثر يوم ركامًا من الذكريات تجمعه إيف بحرص ومهارة حبةً حبة وتضمّه هذه السيرة الذاتية التي اختارت أن تكتبها عن والدتها، وإذا كانت ماري كوري وزوجها وابنتهما الكبرى إيرين قد اجترحوا المعجزات العلمية في حياتهم فإن إيف بحبها العميق لهم وإعجابها البالغ بهم قد دونتْها لأجلهم وحفظت هذي الذكريات الثمينة من الضياع في غياهب السنوات والزمن، وأبقتْها لأجلهم حيّة خالدة تتنفس ما بقي الورق وبقيت الكلمات.
عدد التحميلات: 0