
أقدم الخرائط في العالم
عن العلامات التي تركها البشر القدماء على الصخور والجدران
بقلم: ميريديث ف. سمول
تُعدّ أقدم خريطة يمكن التعرف عليها في العالم من أوكرانيا، وتعود إلى نحو خمسة عشر ألف عام، أي بعد فترة طويلة من فنون الكهوف. فقد عُثر على ناب ماموث محفور، إلى جانب العديد من عظام الماموث، في موقع يُدعى ميجيريتش (Mezhirich). الخطوط المحفورة على الناب ليست عشوائية، بل تشكّل رسمًا أو صورة يُحتمل أن تكون نوعًا من الخريطة. يتكوّن التصميم من خطوط، بعضها مستقيم وبعضها متعرج، ويُفترض أنها تشير إلى سمات طبوغرافية. ويبدو أن هناك نهرًا في أسفل هذه الخريطة الأولى، وعلامات تدل على جبل أو تلّ في أعلاها. وفي الوسط، توجد خطوط صغيرة أخرى تُشبه البيوت أو الأكواخ. جميع العلامات عبارة عن خطوط؛ لا وجود لمنحنيات ذات طابع فني. كما لا تظهر أية حيوانات أو أشكال بشرية. هذا الناب يختلف تمامًا عن أي لوحة كهفية من حيث غياب السرد والتمثيل التصويري. ثم هناك تقديمه المباشر والبسيط، مما يعزز انطباع كونه خريطة.
في موقع Çatalhöyük الشهير أثريًا في تركيا، نجد خريطة أوضح وأقدم. كان هذا الموقع مدينة مزدهرة ذات تقاليد ثقافية معقدة استمرت لأكثر من ألفي عام، كما تُشير الطبقات المتعددة من المباني المكتشفة هناك. إلى جانب الجداريات العديدة المطلية على جدران هذه المدينة، توجد أيضًا خريطة مؤرخة بحوالي عام 6200 قبل الميلاد. رُسمت هذه الخريطة على جدار يبلغ طوله نحو ثلاثة أمتار، وتُظهر صفوفًا من البيوت ممثلة كمربعات سوداء بها مربعات ونقاط بيضاء قد تكون نوافذ أو زخارف أخرى. ويُحاكي ترتيبها بجانب بعضها شكل المنازل الحقيقية التي اكتشفها علماء الآثار في الموقع، حيث كانت المداخل غالبًا ليست عند مستوى الأرض، بل عبر السطح. ويعلو جميع المنازل جبلٌ مصبوغ باللون البرتقالي وتنبثق منه خطوط وبقع سوداء، ويُفترض أن هذا الجزء من الرسم يُمثّل جبل “حسن داغي” البركاني، الذي لا يزال قائمًا حتى اليوم، رغم أنه لم يَثُر منذ نحو 7500 عام. كانت هذه اللوحة جدارية في منزل أحد السكان، تمامًا كما نعلّق اليوم الخرائط كفنٍّ زخرفي في بيوتنا الحديثة. كما أنها أول خريطة رُسمت من منظور عين الطائر، ما يدل على نوعٍ من التفكير الرمزي المجرّد والمُعقّد الذي يميز البشر المعاصرين. لقد كان الرسّام يرسم من قرب، لكنه يتخيل مدينته من بعيد ومن أعلى، وهي مهارة معرفية خاصة لا غنى عنها في رسم الخرائط.
ربما تكون أشهر خريطة قديمة هي تلك المحفورة على صخرة مسطحة في جبال الألب الإيطالية قرب مدينة بيسكارزو الصغيرة. يُعرف هذا الرسم المنقوش باسم “خريطة بيدولينا”، وهو جزء من حقل من النقوش الصخرية التي أصبحت اليوم جزءًا من منتزه أثري، حيث قضى البشر الأوائل وقتاً طويلاً في حفر مشاهد على الصخور. وتُثير هذه الخريطة الاهتمام لأنها تبدو مليئة بصور يُرجَّح أنها تمثل منازل، وطرقات، وحقولاً يُفترض أنها للزراعة، وميزات طبوغرافية كالجداول. وقد أُضيفت إلى ما يبدو خريطة بعض الشخصيات المسلحة، وعدد قليل من الحيوانات، ومنزل صغير واحد. يبلغ طول هذه الصخرة نحو تسعة أمتار وعرضها أربعة أمتار، وتعود إلى حوالي عام 1000 قبل الميلاد. وتعتقد العالمة كريستينا توركوني أن خريطة بيدولينا قد تكون أكثر من مجرد خريطة بسيطة. فهي تُقرّ بأنها نُقشت في زمن بدأ فيه مفهوم الملكية الفردية بالظهور، ما يجعل وجود خريطة لمدينة أمرًا مهمًا، لكنها ترى أيضًا أن لهذا الفن الصخري بعدًا روحيًا أو دينيًا، وأن المشهد نُقش لحماية من قام برسمه.
ومع ذلك، لا أحد يعرف تمامًا كيف كان يفكر الفنانون والخرائطيون الذين أنجزوا هذه الخرائط الأولى. هل كانوا ببساطة يوثّقون لحظة زمنية معينة، وإن كان الأمر كذلك، فهل يمكننا أن نخمن السبب؟ هل كانت تلك الخرائط وسائل تذكّر، تساعد الصانع على العودة إلى مكان معيّن؟ أم كانوا يحاولون إيصال رسائل إلى الآخرين باستخدام الرسوم، كأن يرووا قصة أو يقدّموا تعليمات؟ ومن الممكن أيضًا أن بعض البشر القدماء كانوا يرسمون الخرائط بانتظام على أسطح لم تُحفظ، كالرمال أو التراب. فهؤلاء اعتادوا الهجرة، وتَتَبّع الحيوانات لاصطيادها وأكلها، ورسموا في أذهانهم خرائط للمناطق أثناء تعقب نضج الثمار والنباتات الأخرى، وقد يكونون قد صنعوا خرائط على أسطح مؤقتة لم تخلّف أثرًا.
أولئك البشر القدماء الذين قد يكونون قد حفروا إشارات توجيهية في الرمال، أو خطّوا خطوطًا على الخشب، هم أول من مارس فنّ التمثيل الرمزي على هيئة خريطة. ومنذ تلك اللحظة، راح أسلافنا حول العالم يخدشون العلامات على الجدران والصخور، ويغمسون أصابعهم في الأصباغ، وينقشون العظام والأصداف والقرون ليُحدّدوا بها أين عاشوا، أو إلى أين كانوا ذاهبين.
المصدر:
عدد التحميلات: 0