العدد الحاليالعدد رقم 44ثقافات

سياسة الأدب الاستيطاني

شخصيًا لا أعرف سببًا محددًا لعدم جدية الاهتمام بالأدب الاستيطاني أهو سبب سياسي أم سبب أدبي أم غير ذلك.

وحتى يومنا هذا ورغم الكثير من مؤتمرات وندوات الأدب والنقد الأدبي على المستويات العالمية والإقليمية والمحلية ألاحظ أنه لم يقع –بعد- الاهتمام الجاد والمسئول بأدب المستوطنين سواء كانوا فرنسيين في الجزائر أو صهاينة من أعراق شتى في فلسطين أو أوروبيين في جنوب أفريقيا.

وشخصيًا لا أعرف سببًا محددًا لعدم جدية الاهتمام بالأدب الاستيطاني أهو سبب سياسي أم سبب أدبي أم غير ذلك. غير أنى مقتنع بأمرين محددين وهما:

أولًا: أن الاستيطان بكافة أنواعه وأشكاله هو سبة في التاريخ الإنساني يجب منع تكرارها بما فيها الأدب الذي مهد لها أو رافقها أو تولد عنها فلابد في هذا العصر أن تحترم الشعوب بعضها بعض وأن يكون الأدب إحدى وسائل التعبير عن هذا الاحترام.

ثانيًا: إن الأدباء العرب هم الذين يقع عليهم العبء الأكبر في كشف حقيقة الأدب الاستيطاني بحكم تجربتهم الشخصية مع الاستيطان من جهة وبحكم واجبهم الإنساني من جهة أخرى كأبناء أمة يقع عليها الكثير من العبء في تحمل واجبات الكفاح وتضحياته في دول العالم الثالث في أسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية لما تربطها بشعوب هذه الدول من علاقات تاريخية وجغرافية وسياسية وحضارية قديمة. ووسيطة معاصرة.

هاتان هما المسألتان المحددتان اللتان تدفعان بي لخوض غمار هذا المقال الذي لا تقدم لي فيه المراجع وخاصة العربية منها الشيء الكثير لأنها لم تنظر إليه – أصلًا – بهذا المنظار الذي أطرحه الآن وهو أننا إذا كان علينا أن نستأصل شأفة الاستعمار والاستيطان من على وجه هذا الكوكب البشرى ونضمن عدم تكراره ولو في المستقبل البعيد جدًا فعلينا العمل (منذ الآن) على استئصال دواعيه المادية والروحية ليس لدى الجماعات وحسب بل لدى الأفراد أولًا.

لذلك فإنني حين أتوجه إلى دراسة الأدب الاستيطاني فإنني أبدأ من النقطة التي أرى على العالم كله أن يمنع وصول أدب الكبار الاستيطاني إليها.

وهذا يقتضي أولًا أن أبين فهمي للأدب، فأقول: يبدو لي أن الأدب الاستيطاني مر ويمر بمراحل أربع أساسية هي كالآتي:

أولًا: مرحلة التحضير للغزو، ومن أبرز سماتها: التغزل الشديد بالأرض المنوي غزوها واستيطانها ومعادلتها بالجنة وتعداد الفوائد الفردية والجماعية الدنيوية والأخروية – التي سيحققها من يقوم بالغزو وفى الوقت نفسه احتقار الشعب المنوي سحقه واستيطان أرضه احتقارًا كميا ونوعيًا فما هو إلا حفنة من الهمج الجبناء الذين لا يعتبرون من البشر وبالتالي فان قتلهم وإبادتهم لا تسبب أذى للضمير البشري

ثانيًا: مرحله الغزو الفعلي: وهي مرحلة يزداد فيها التغني بالأرض التي جرى غزوها (عسكريًا أو تبشيريًا) وإثبات مقولات المرحلة السابقة وتأكيدها مع إضافة الوصف الحي سواء للأرض نفسها أو للشعب المستوطنة أرضه وابتداع الأوصاف العرقية والعنصرية المختلفة لهذا الشعب وحياته مع إضفاء الصفات الأسطورية والروحية على أوائل الغزاة والمستوطنين سواء كانوا من الجيوش النظامية أو التبشيرية أو غيره..

ثالثًا: مرحلة الزهو والاستعلاء: وهي مرحلة يبدأ الأدب الاستيطاني بالاعتداد بنفسه والفخر بما صنع فالآبار قد تفجرت والحقول قد اخضرت والسكان الأصليون قد سحقوا وما عليه إلا التوسع والامتداد لابتلاع مزيد من الأرض وقتل مزيد من الناس.

رابعًا: مرحلة التصادم مع الحقيقة: وهي مرحلة يستفيق فيها الأدب الاستيطاني على حقيقة كفاح الشعوب وأن هذا الكفاح لم ينقطع يومًا لكنه صار أكثر تأثيرًا ومن ثم يبدأ بالتحدث بلهجة أخرى (لكنها غير مختلفة) عن الاستيطان يحاول فيها تجميل وأنسنة الوحش الاستيطاني (الذي صنعه) وإعادة تسويقه إلى السكان الأصليين أنفسهم وإلى العالم أجمع في وقاحة تستدعي اهتمام علم النفس فعلًا..

وأرى أن من واجبي القول هنا أن هذه المراحل جميعها لا تبدو منفصلة عن بعضها بخطوط عريضة، إذ أن هناك من الأدباء الذين وعوا المرحلة الرابعة مثلًا بينما هم من الناحية الزمنية في المرحلة الأولى كما أن هناك من الأدباء الذين رغم انتهاء الاستيطان الاستعماري الفرنسي في الجزائر إذ ما يزيد عن ربع قرن، إلا أنهم يحلمون بها كما كان أدباء المرحلة الأولى يتغزلون ويحلمون في حالة يمكن تسميتها مبدئيًا (اجترار الحلم).

وللتدليل على عنصرية الأدب الاستيطاني في جميع مراحله نشير إلى الأدب الصهيوني بشكل خاص لأنه أدب كتب – على الأقل – بسبعين لغة وجاء- على الأقل -من ثلاثين بلدًا بما فيها الفرنسية وفرنسا وقد التقى كتابه على هدف واحد وهو الاستيطان وقد كان ولا يزال بين هؤلاء المستوطنين (الكتاب والعاديين) من التناقض الأيديولوجي والعرقي الشيء الكثير فإذا كانت (إسرائيل) في رأى الباحثة الأنثربولوجية والأمريكية (مرجريت مياد) أفضل معمل للدراسات الأنثربولوجية والنفسية والاجتماعية نظرًا لما فيها من تباينات (عرقية) متصارعة جمعها الاستيطان فإن هذا الاستيطان قد جمع أيضًا كثير من الأيديولوجيات المتناقضة المتنافرة فمن بين الصهاينة من هم متدينون توراتيون أسطوريون في تزمتهم ومن هم قوميون – دينيون الأقل تزمتًا دينيًا وفيهم (شيوعيون) رغم قراءتي لكتب لينين وماركس وإنجلز فلم أجد أبدًا أنه يمكن للمرء أن يكون شيوعيًا واستيطانيًا في الوقت نفسه كما أن فيهم ليبراليين غربيين جنبًا إلى جنب مع دعاة سحق العرب وطحن عظامهم وتذريتها في الريح. وعشرات الإيديولوجيات غيرها والتي بدورها تفرخ وتتفرع.

لذلك فلن يكون مدهشًا لي إذا ما حدث ذلك الحادث الذي أتوقعه وهو أن ينفجر هذا المعمل العرقي أو (حلة) البخار الأيديولوجية هذه. فالاستيطان كجامع عرقي وأيديولوجي بدًا يفقد بريقه وفاعليته وقاعدته أيضًا.

إن الحوالي مائة عرق ولغة التي ضغطت مشاعرها المتناقضة وثقافتها المتناقضة في لغة واحدة لم تكتمل بعد لتنفذ مشروعًا لحساب آخرين ستنفجر حتمًا بفعل القانون العلمي إياه لأن الأدب الاستيطاني الذي يلعب دور غطاء حلة البخار لم يعد بإمكانه مواصلة هذا الدور فإنه بحكم عنصريته لم يعد الآن يتداول لفظة (عاليًا) التي تعنى السمو الروحي والبطولة والتضحية التي كان يطلقها على المستوطنين الأوائل بل أن بعض الأدباء الذين استيقظ ضميرهم على ضربات الكفاح الفلسطيني، بدأوا يتسألون ربما تكون أسئلتهم اليوم ذات طابع يتعلق (بالقانون) وبما أنهم لا يتلقون أجوبة شافية ومقنعة من مهندسي المشروع وقيادته فسيجدون أنفسهم مضطرين -لمواصلة يقظة ضميرهم – إلى طرح أسئلة ذات طابع خاص يتعلق (بالعدالة) خاصة مع تواصل الكفاح الفلسطيني بأشكاله وأنواعه ومراحله رغم كل ما يحدث من مرارة الواقع وتخاذل العرب وتآمرهم.

إن تساؤلات بعض الأدباء المستوطنين الصهاينة اليوم لم تكن ممكنة الوضوح عند أدباء الأمس الذين مارسوا على أنفسهم عملية خداع للذات كبير متأثرين بأدباء مستوطنين أوروبيين.

فعلينا أن نذكر أن اللثواني اليهودي (ابراهام مبو- 18.8 – 1867- ) كتب قصة (أحبت صهيون) أي (الحب الصهيوني، والتي عرض فيها مسألة (الدولة اليهودية -الوطن) كنوع من الرواية التاريخية كان متأثرًا بالأدب الفرنسي والإنجليزي في عصره.

وبالرغم من أن كتاب موريتس هيس (بون 1812 باريس 18/75) روما -القدس “هو حجر الأساس في الفكر الصهيوني” وهيتس السابق كالبير كامو اللاحق كان يدعي أنه شيوعي “وهذا الكتاب هو الذي أثر في كاتب أخر مثل “فارص سمولنسكين 184 – 1885” الذي أسس في فيينا 1867 “مجلة شحر – صبح” التي كانت تدعو لاستعمار فلسطين وسحق الشعب الفلسطيني كما يتجلى ذلك في معظم أعماله الروائية مثل “سمخت حنيف – فرح المنافق” و”حتا بدركي حيميم – يضلون في سبيل الحياة “وهيروشاه – الميراث” و”نقم بريت – انتقام العهد”.

وقد أثر سمولنسكين “في أحادهاعام” الذي أعلن في فلسطين نفسها نظريته المعروفة آخر يهودي وأول عبري.

لقد كتب هؤلاء الأدباء الكثير جدًا من الأعمال الأدبية “الشعر – القصة بأنواعها – المسرح – المقالات و غيرها من الأعمال الأدبية والدراسات الفلسفية والاجتماعية والنقدية التي تحرض على تحويل الدين اليهودي إلى قومية، وأن تستوطن هذه القومية – الدينية “بلدًا” ما “ثم حددت هذا البلد بفلسطين التي أكثر هؤلاء و غيرهم من التغزل فيها والملاحظ أن معظم “إن لم يكن الكل” هؤلاء الأدباء من دعاة الاستيطان متأثرين بالإنتاج الأدبي الفرنسي والإنكليزي بل وبحركة الاستيطان الفرنسية و الإنجليزية في عدة دول و كانت النتيجة أنه (في أواخر القرن التاسع عشر أخذ بعض الصهيونيين ينزحون إلى فلسطين فالتقوا هناك ببعض اليهود الذين كانوا يقيمون وبخاصة في المدن المقدسة مثل القدس والخليل وصفد وطبريا.

إن الاستيطان الصهيوني في فلسطين كان يتوازى مع الاستيطان الفرنسي في الجزائر في تنسيق يكاد يكون واضحًا. مما يؤكد أن الإمبرياليين – على اختلافهم – إنما يخططون بقلم واحد، و لعله ليس صدفة إن يتم احتلال الجزائر بجهود خيانة اليهودي بو شناق وأما مع بداية القرن العشرين وعلى أرض فلسطين نفسها فقد ظهر أدباء مثل “برينز ” في قصته (مسبيب لنقوده -حول النقطة) و بيريز الذي وصف جمال الحياة الفلسطينية، وأغوى كثيرًا من الشبان اليهود للهجرة و العمل في الكيبوتسات بدأ خلال الحرب العالمية يتشكك بجدوى المشروع الصهيوني كما في قصته “ميقام وميقام – من هنا وهناك” و”شكول وكشالون – الضياع والنكسة” وقد قتله الثوار الفلسطينيون في ثورة 1921.

قرب بلدة “سمخ ” بنيت مستوطنة تدعي (دجانيا) والتي كان مستوطنوها قد ذبحوا في وقت سابق من عام 1948م كثيرًا من الأطفال الفلسطينيين وهم الذين كانوا يطلقون النار على الأطفال الهاربين عام 1948، برز في هذه المستعمرة عدة صهاينة من النوع الأكثر خطورة مثل “جوردن” الذي يعتبر (اللحمة التي تربط بين الرواد اليهود إلى فلسطين المختلفي المشارب).

وقد عرض له في هذه الناحية القصصي، بيستريسكس وغيره. وظهر في تل أبيب الكاتب الصهيوني ” براش – غاليسيا 1889 تل أبيب 1952 ” الذي ألف قصصًا كثيرة للأطفال مثله في ذلك مثل (ايسحق شنهزاوكرانيا 19.7 – القدس 1957) الذي تغزل في القدس وصفد وطبرية مثل عزرا همناحيم ويهوشوع بن يوسف، وهم جميعًا مثل الشاعر حاييم يخمان بياليك الذي استوطن فلسطين 1924 وقد انشد الأطفال لاستقباله نشيدًا من شعره فلم يفهم منه شيئًا، فوطن نفسه بعد ذلك لتوحيد وتطوير اللغة العبرية وعروضها. كلهم تغزلوا بالأرض الفلسطينية ودعوا إلى استيطانها وزرعها وقتل أصحابها وأطفالهم.

والأدب الاستيطاني الصهيونى لا يزيد اجتياح فلسطين وأرضها ويحرض عليه فقط، بل يريد اجتياح دول أخرى تقع قريبًا وبعيدًا عن فلسطين والعرب ويريد سحق شعوب لا علاقة لها بأرض الميعاد وأرض إسرائيل الكبرى أو التوراة، وقد عبر الأديب الإسرائيلي غاموس عوز في روايته “حب متأخر – اهافا مئوحيوت” عن نبوءة أدبية تعكس الرغبة في الانتقام ممن اضطهدوا اليهود في أوروبا “الروس والنازيين” على حد سواء. إنه يرى بعينه كيف يقتحم جيش “الدفاع” الإسرائيلي أرجاء أوروبا لينتقم للدم المسفوك.

بغضب عارم تدفقت فجأة طوابير المدرعات العبرية على طول الغابات البولونية المظلمة وكل من اعترض طريقها كانوا يرشقونه بدفعات النيران وطوابير نازية طويلة، و خطوط خنادق وحصون كئيبة، وتحركت عاصفة الخراب في أرجاء بولونيا دون أن تستطيع قوة في العالم أن توقفها. أي غضب يهودي مدرع يجتاح أرض السلافيين، ويكنس الحقول والغابات ويجرف ويتقدم للأمام وبغضب جارف احرقوا كل الكتائب المشاغبة في الطريق بولونية ولثوانية واوكرانية.

وفي عدو لاهث دون توقف، دون النظر إلى ما يُدَمَرْ وإلى ما يحرق إلى الشرق ورأيت على شاشات التلفزيون (موشيه ديان) وهو يرتدى ملابس القتال المعفرة على جسده يقف هادئًا منتصبًا، يقف صامتًا ومخيفًا وهو يتلقى في هدوء متجهم وثيقة الاستسلام من الجنرال جون تاتور قائد كيشنيف).

وهكذا فإن الأدب الاستيطاني الصهيوني إذا كان قد بدأ بالتحريض على استعمار واستيطان فلسطين واجتثاث شعبها فها هو يحرض الأجيال الجديدة على إبادة السلافيين وغيرهم وحرق حقولهم ومزارعهم.

لقد كان الأدباء الاستيطانيون صناعًا ومخططين بشعين للوحش الاستيطاني لكنهم وأمام المقاومة الحضارية الباسلة للشعبين الجزائري والفلسطيني، بدأت أجيال جديدة منهم تلبس هذا الوحش قناعًا آخر لعله يكون أقل وحشة في مظهره ولكنه أشد فتكًا.. بالرغم من المعارك الطاحنة القائمة بين المنظمات الفلسطينية في الأراضي المحتلة والقتل وسفك الدماء من قبل شارون ومناوئيه. فستبقى الأراضي الفلسطينية تحمل الاسم العربي والدليل على ذلك القدس العربية بكل الأدلة القاطعة والدامغة منذ القدم وحتى يومنا هذا..

 

الهوامش:

(1) علي، د فؤاد حسنين، الأدب اليهودي المعاصر، معهد البحوث والدراسات العربية القاهرة 1972 ص 7.

(2) المصدر، نفسه ص 14

(3) سلسة عالم المعرفة رقم 1.2 حزيران 1986. الكويت ص 146.

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

حسن غريب

كاتب وروائي - عضو نقابة اتحاد كتاب مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى