
الصحوة بعد الصحوة (1)
تذكرت وأنا أقرأ كتاب عبدالعزيز الخضر (السعودية سيرة دولة ومجتمع) قول الدكتور عبدالعزيز الزير في بعض حواراتي معه أيام كنا نعمل في كلية اللغة العربية بالرياض عن كتاب سيبويه، أنه -سيبويه- قد جمع المعرفة النحوية في زمنه التي كان يتداولها الطلاب مع شيوخهم في حلقات الدرس وقيدها في كتابه «الكتاب»، وأنه لم يكن نابغة أو متفردًا في زمنه حتى يصنع هذا الكتاب الفريد (على الرغم أني أختلف معه في أن هذه المعرفة كانت معروفة في زمنه على ما ذكرت في كتابي «حديث الكتاب»)، فسيبويه -في رأيه- ليس له سوى فضل التقييد، ويقول: إن مثله مثل أرسطو، فأرسطو – يرى عبدالعزيز الزير- لم يكن فيلسوفًا عظيمًا حتى يأتي بهذه النظريات التي ما بليت عبر الدهر، وإنما كانت معارف توارثتها الفلاسفة من قبله، وتمثلت نباهته بإدراكه أهمية الكتابة والتقييد.
أيًا ما يكن، فقد خطر لي هذا الخاطر وأنا أقرأ كتاب (السعودية سيرة دولة ومجتمع)، فهو كتاب ضخم، استغرق مني قراءته ما يزيد على 3 أشهر، بالرغم أني أقرؤه قراءة متوسطة السرعة دون تقييد أو ملاحظات، وبالرغم أن ما فيه من معلومات ليست ذات تعقيد يحتاج تأملًا وإعادة قراءة وأغلبها مما قد قرأته من قبل، ويتناول فيه الكاتب مباحث مختلفة التخصص، متباينة الاتجاه، يتخللها بآرائه وتحليلاته، وملاحظاته، وتوصياته، ويفاضل بين الموضوعات ويمنح حكمه بكل يسر وأريحية.
ومع أني لم أكن سمعت بالمؤلف من قبل، فإني قد شعرت وأنا أقرأ الكتاب أنه مع ثلة «البريداويين» الذين يمثلون الجيل الثاني من كتاب الصحوة في بريدة. والذي حداني إلى اقتناء الكتاب هو توصية الدكتور الوشمي حين لقيته مرة في معرض الكتاب، فقال: إن هناك كتابًا يصلح لي، فقلت: وما هو، فأشار إلى ناشره وهو غير بعيد، وأخبرني بعنوانه، فأخذت نسخة منه وشكرته على توصيته، ثم سمعت بعد ذلك أن الكتاب قد لقي صدى في بعض الأوساط.
نظرت في الكتاب حينها وقرأت فيه أجزءًا، وأرجأت قراءته إلى حين، وحين جاءت مناسبته تأكد الانطباع السابق، فالكاتب يبدأ الكتاب بالحديث عن المنهج الذي يسير فيه، ويقر بصعوبة المنهج بعد أن يتحدث عن بعض الصعوبات والمنهج الذي يريد أن يسكه، إلا أن الذي لا يلتفت إليه الكاتب هو أن الكتاب أصلًا بلا موضوع، فالحديث عن المملكة بالصورة التي سار إليها الكاتب يتطلب موسوعة من مجلدات وليس كتابًا واحدًا حتى لو كانت صفحاته تتجاوز الثمانمائة صفحة، فالحديث عن سيرة الدولة والمجتمع حديث ذو شجون، يدعو القارئ إلى افتراض أن يقسم الكاتب تبعًا للعنوان كتابه إلى قسمين الأول: يتناول الدولة والثاني يتناول المجتمع، وهو ما يمكن أن يسهل على الكاتب مقاربة موضوعه، وعلى القارئ متابعة الأفكار والملاحظات المبثوثه هنا وهناك.
لن أطيل في الحديث عن هذه القضايا المنهجية والفنية، فقد بدا لي أن الكاتب صحفي، ونحن الأكاديميين ننظر إلى الصحفيين نظرة القدماء إلى الصحفيين (بضم الصاد)، ولذا سأتجاوزه إلى الحديث عن صلب الكتاب، وسأقصر حديثي عنه بعدد من القضايا المطروحة.
أول هذه القضايا التي يحسن الحديث عنها ما يسميه نقاد السرد بـ«وجهة النظر السردية»، ويعنون بها الموقف الذي يتخذه الكاتب في قص الأحداث، وتصوير المشاهد، وهي أنواع ويهمنا هنا أن الكاتب يسعى لأن يعتمد ما يسمونه «الرؤية من الخارج»، وهي التي يكون فيها الراوي محددود العلم والمعرفة بما يراه أمامه، ومعلوماته أقل من الشخصية، وهي منزلة تساعد الراوي (وهو الكاتب في حالتنا هذه) على اتخاذ موقف واحد مما يصفه أو يقصه، وهو ما يعني بصورة أخرى تطبيق أعلى درجات الموضوعية حين لا يقحم مشاعره أو معلوماته الشخصية فيما يعالجه من مادة، بالرغم أن التحليل يتطلب هذه المشاعر والمعلومات.
ولأن الكاتب يتناول موضوعات مختلفة، ويعالج قضايا متنوعة، ويمر في غضون هذه المعالجة بتيارات متباينة وشخصيات متناقضة، فإن اتخاذ موقف موضوعي متجرد من هذه القضايا كلها أمر عسير، ويتطلب مهارة عالية في المعالجة، وخبرة عميقة في الأصول العلمية التي تقوم عليها تلك التيارات. ولست هنا أنفي هذا عن الكاتب أو أثبته غير أن المعرفة بتاريخ الكاتب الشخصي يكشف عن استحالة قدرته على الانفصال عن هذه التيارات والقضايا التي يعالجها، فقد كان منخرطًا في الجدال حولها، وفي تكوينها كما يشير هو إلى مقالاته التي كتبها حول بعض الموضوعات والتي تمثل نوعًا من الموقف المحدد من هذه الموضوعات والتيارات جميعًا.
وهذه هي القضية التي أريد أن أبدأ الحديث بها، فمن يقرأ الكتاب يجد تعارضًا بين هذه الصورة التي يسعى إلى الظهور عليها والحالة التي تشي بها كثير من عبارات الكتاب وجمله، فهو يتحدث عن تيار اليسار بالنسبة للمملكة، وأقصد باليسار هنا الكتابات التي تنتقد موقف المملكة المحافظ سواء في المجتمع أو السياسة وتكون ذات خلفيات -في الغالب- قومية، فالذين انحدروا من مرحلة خمسينيات وستينيات القرن المنصرم ونشؤوا في تلك الحقب وتأثروا بما يطرح فيها سواء كانوا ناصريي الهوى أو بعثيي التكوين لا يفتؤون يتحدثون عن الأثر السلبي للنفط على العرب، وهم يقولون هذا صراحة أو تلميحًا، ونجد صدى مقولاتهم في النقولات التي ينقلها الكاتب ويحيل فيها إلى رياض الريس أو فريد زكريا، أو سمير أمين، ومفيد الزيدي وحسن النقيب.
ولست بصدد الحديث عن هذه المواقف أو تحليلها لكنها بوجه عام تندب انعدام الديمقراطية، وضياع الحرية والتعددية، وتبين أثر النفط على المدينة العربية والصحافة العربية والثقافة العربية، وكأن المجتمعات التي انحدر منها هؤلاء كانت نموذجًا يحتذى في احترام الإنسان، ونضج الديمقراطية، وإقامة العدل والمساواة.
إلا أن الذي يلفت الانتباه أن الكاتب يتبنى هذه الأطروحات، ويجعلها معيارًا صحيحًا للحكم على المجتمع أو على «سيرة الدولة والمجتمع» كما يقول، فيستشهد بأقوال هؤلاء وسواهم من الباحثين الأوربيين لا بوصفهم يقدمون وجهة نظر يمكن أن تناقش وإنما بوصفهم المؤرخين الذين تمثل آراؤهم سندًا يعتمد عليه في بيان القول وتحقيقه في الغالب، وبوصفها الأدوات التي يقارب المجتمع من خلاله، وهو ما يبعث سؤال الموضوعية السالفة الذكر.
على أن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد، ففي مقابل اليسار العروبي القومي، هناك ما يسميه بعضهم بـ«اليسار الإسلامي»، وهو الحركات الإسلامية ذات التوجه الإخواني، التي نشطت في المملكة السعودية بعد حادثة جهيمان، وسميت بـ«الصحوة»، فنجده يتبنى لغة واصفة مشحونة بمعاني التسويغ والتبرير، والتصويب، فحين يتحدث عن سلمان العودة لا يتواني عن كيل المدائح له في كل موضع يقاربه، فيقول: «والأكثر مفاجأة هو ظهور قدرات الشيخ وثقافته…حافظ على آداب الحوار واحترم الشيخ (الغزالي)، فأثر هذا الحوار على فئات كثيرة في المجتمع، وأعجب به العلماء الكبار والدعاة». (ص189)
«من الواضح أن الشريط كان مفاجأة وضربة موجعة في توقيتها وطريقته، حيث آلمت (القصيبي) فجعلته يخرج عن طوره، ويقدم ردًا عشوائيًا وغير مركز ضد رموز الصحوة. هذا الرد من الشيخ (العودة) يأتي من خلال إعلام موازٍ محليًا وشعبيًا وفي أقوى مراحله ومن داعية في قمة شهرته، ثم يتناول شخصية بهذه المكانة في المجتمع المدعوم من الإعلام المحلي وجمهور المتلقين» (ص192)
«لقد تعرف على الشيخ جمهور جديد من خارج التيار الديني، مثقفون ونخب أكاديمية وتكنقراط ورجال أعمال وجمهور من العامة، وبهذا الشريط أعطى الشيخ خطاب الصحوة زخمًا جديدًا وإرباكًا لخصومه، وقد تضرر (القصيبي) من انتشار هذا الكاسيت وسمعته في المجتمع التي حاول تدشينها من جديد» (ص194).
«لقد استطاع خلال فترة محدودة تناول أهم المواضيع الاجتماعية والسياسية والوعظية، وأصبحت الأشرطة الخاصة بالشيخ توزع بأرقام يصعب تقديرها، وفي بعض الحالات قد تفوق المئة ألف» (ص195). «اتخذ الشيخ استراتيجية ذكية» (ص209)، «كان الشيخ هادئًا جدًا في تعامله مع الحدثين» (ص209).
ويقول في حديثه عن كتاب القرني (الحداثة في ميزان الإسلام): «تتمثل أهميته في أنه أحدث تأثيرًا حقيقيًا في المجتمع والذهنية المحافظة، وعرض إحراجات دينية محددة وواضحة لتيار الحداثة» (ص397).
«يجب الاعتراف بأنه أهم كتاب أثر في الساحة السعودية في مرحلة الثمانينيات، وتحقق هدفه بأيسر الطرق» (ص405). «كتاب الحداثة في ميزان الإسلام كان سببًا في القضاء على حركة الحداثة» (ص413).
في مقابل ذلك نجده يستخدم لغة مشحونة بمعنى التنقيص والاستخفاف بالتيارات المواجهة لها في المملكة، فيقول مثلًا عن الحداثة بعد صدور كتاب القرني آنف الذكر: «لكن هول الصدمة، وضعف إمكانيات التيار الحداثي الثقافية والفكرية أديا إلى سهولة إرباكهم…ومع الضعف الشديد في وعي النخب الحداثية» (ص412). «حراك الحداثة الذي أحدث فقاعة» (ص413). «وتيارات حداثية تبحث عن موطئ قدم في محاولاتها التنويرية، بإمكانيات متواضعة وعمق فكري رديء» (ص395). «النهاية الكارثية التي انتهت إليها» (ص396)، وينقل عن ابن عقيل قوله: «ولا أجد عند هؤلاء الطيبين (يقصد الحداثيين) إثارة من إغراء.. ثم حاولت أن أكاشفهم بومضات نقدية فانثالت علي صيحات الغوغائية، لا عن قضية يملكونها، وإنما هم عصابة صحافية، فلذت بالعافية» (ص408). بالإضافة إلى عبارات وجمل أخرى عن الغذامي، والسريحي والقصيبي تتحدث عن فشلهم، وعن عدم معرفتهم بما يدور حولهم، وضعف ثقافتهم، لا أرى أهمية للإطالة في نقلها هنا.
إنني حين أقرأ في الكتاب أشعر بأنني أقرأ تعليقًا على مباراة الهلال والنصر (على طريقته في الحديث عن محاضرات العودة) والمعلق نصراوي، وهنا نصل إلى بيت القصيد، وهو أنه لا يمكن أن يكون موضوعيًا ويقدم تأريخًا سواء كان يريد أن يقدم تأريخًا لفكر تلك المرحلة، أو للأحداث التي وقعت فيها، وهو يقف هذا الموقف المتحيز من طرف على الآخر.
وهذا التحيز الذي يظهر ضد حركة الحداثة وأصحابها، نجده أيضًا يظهر ضد من يسميه بالتيار الجامي، إذ يصفه في عدد من المواضع بأوصاف لا تنم عن كثير احترام أو أدنى موضوعية. وهذا يعني أن انتماء المؤلف لتيار محدد من التيارات الإسلامية، وهو الذي يسميه بالصحوة.
إن الأوصاف التي يطلقها على الجانبين، لا تنم عن بحث علمي وموقف فكري بقدر ما تنم عن انتماء حزبي، وفئوي، وذلك أنها تعتمد على تلميع طرف في مقابل نقد والتقليل من شأن طرف، حتى الغذامي في وصفه الإيجابي له بأنه «الأكثر جدية ورصانة ومحافظة» (ص412)، إنما يمنحه هذه النعوت مقارنة بأصحابه الحداثيين، على اعتبار أنه -إن صح التعبير- أهون الشرين، وليس لأنه متمكن في علمه عميق في فكره ونظره.
وما يدل على أن الموقف شللي حزبي، هو الموازنة بين (الخطيئة والتكفير)، و(الحداثة في ميزان الإسلام)، والحكم لكتاب القرني بالتفوق والغلبة في التأثير، وذلك أن الكتابين لا يمتلكان قدرًا من المشابهة حتى تتم الموازنة بينهما، فالموازنة في أصلها الكشف عن جوانب المشابهة والاختلاف، فكتاب الغذامي نقدي في المقام الأول يسعى إلى توظيف بعض الأفكار والنظريات التي لم يألفها الناس في محيطه العلمي، في حين يسعى الكتاب الآخر إلى تناول النصوص الأدبية من منظور ديني، فالحقل العلمي الذي ينتمي إليه كل واحد منهما يختلف عن الآخر، إلا إذا كان الفضاء النصي الذي يعمل فيه كل واحد منهما يجعلهما في حقل واحد، وإذا كان الأمر كذلك فلنجعل الأدب والنحو حقلًا واحدًا ونوازن بين كتاب سيبويه وكتاب أبي عثمان أو دلائل الإعجاز، فإن كانت الموازنة قائمة على أثر كل واحد في حقله العلمي -كما يفعل أحيانًا- فإن تأثير كتاب الغذامي -وإن لم أكن متحيزًا- أكبر بين النقاد السعوديين من أثر كتاب القرني بين أصحاب العقائد والمذاهب المعاصرة.
عدد التحميلات: 0