العدد الحاليالعدد رقم 45ثقافات

الصحوة بعد الصحوة (2)

وإن كان المقياس هو التأثير على عامة الناس، فهؤلاء -للأسف- لا يصلحون لأن يكونوا مقياسًا، وذلك أن كثيرًا من المتخصصين لا يعرفون ما في كتاب الغذامي من نظريات وأفكار، وذلك، على الرغم أنه لم يكن -كما يقال- أبا عذرتها، أن هذه الأفكار تنتمي إلى حقول علمية متكاملة هي حقل اللسانيات تارة، وعلم النفس والاجتماع، والنقد الأدبي، وهي في هذه الحقول نظريات تكاد تكون متكاملة بجهازها المعرفي والاصطلاحي، فمعرفة ما في الكتاب يتضمن معرفة ما يحيل إليه من مرجعية علمية، وهو ما لا يتوافر لكثير من الدارسين إبان ظهور الكتاب، فما بالك بمن لا يمت إلى حقله المعرفي بسبب. وكثير من الذين يتحدثون عنه ينطلقون من منطلق أن هذا النقد الأوربي لا صلة له بالأدب العربي، وينبغي أن نشتغل على الأدب العربي بالنقد العربي. وهذا حديث على كل يطول ولست بصدد الخوض فيه، ولكنه يبين أن موازنة الخطيئة والتكفير بكتاب القرني بالاعتماد على التأثير في عامة الناس لا يصح (أتذكر يوم أن كنت طالبًا في المرحلة الجامعية أن عبدالقدوس أبو صالح يقول: إنه قال للغذامي حين التقاه في النادي الأدبي بالرياض: إن مفهوم الخطيئة والتكفير مفهوم نصراني يعود إلى فكرة صلب المسيح، ودعاه إلى تغيير العنوان حتى يتوافق مع الثقافة الإسلامية، مع أن هذا غير صحيح، فمفهوم الخطيئة والتكفير مفهوم إسلامي كما جاء في الحديث: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها»).

في حين أن كتاب القرني يتناول قضية يعتبرها الناس من القضايا الحساسة وهي قضايا الديانة، وكثير من الناس الذين يروجون للكتاب ويثنون عليه لا يعلمون إلا أن هذا الكتاب فضح الحداثيين الذين -على أحسن تقدير- يدسون السم بالعسل، ويستخدمون الأنماط الأدبية الحديثة لينشروا ما لديهم من «السم» «الزعاف»، دون أن يدركوا حقيقة ما يقوله الكتاب، وهل طريقة تعامله مع النصوص الأدبية صحيح من الزاوية التي ذهب إليها، وهل العينة -إن صح التعبير- التي اعتمد عليها في إدانة الحداثيين كافية لتمثيل المادة العلمية (الأدبية) الأصلية؟.

كثير من الدارسين يرى أن النصوص التي اعتمد عليها القرني (بالرغم أنها مجال للقول) قليلة، ولا يعلمون من أين أتى بها، وهي أندر في نصوص «الحداثيين» من الكبريت الأحمر، وأذكر أن عبدالعزيز الزير كان يقول في حوارتي وإياه الآنفة الذكر: إن الكتاب حشد نصوصًا في بيئات مختلفة، وفي مدونة نصية بسعة العالم العربي بتنقيب مخابراتي، وليس عملًا علميًا يقوم على أدوات العلم، فإن كان المقصود هو التحشييد والتجييش وإثارة العامة، فهذا لاقيمة له في بيان قيمة الكتاب الحقيقية.

ونعود مرة أخرى إلى الحديث عن «أدوات العلم»، وذلك أن كثيرًا مما يقال في مجالس الدرس وحلق العلم بين الشيوخ وطلابهم لا يصح أن ينشر للعامة، وليس المقصود هنا ما يسمى بـ«السنسرشب» (الرقابة)، وإنما لأنها في مجالس العلم قد تكون في مرحلة التكون لم تنضج بعد، وقد تكون مجالًا للتدريب وشحذ النظر والعقول، وليست للتطبيق، والنقاد يوردون هنا خبر عمر ابن الخطاب مع النجاشي الحارثي في قصيدته في بني العجلان، ويرون أن الشعر قد يحمل على وجهه الظاهر وقد لا يحمل، فهو حمال -كما يقولون- أوجه، وما تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، وأخذ وجه دون وجه وإلزام الشاعر به لا يصح، وهذه من القضايا المنهجية التي تؤخذ على الكتاب ومن يسير سيرته في الحكم على العقائد والأحكام الشرعية بالاعتماد على النصوص الأدبية التي عمادها الخيال، وهي قضية لم يتناولها الخضر ولا القرني من قبله. وهذا ما يدفعنا إلى القول إن الجانب الصراعي في الكتاب، الذي اعتبر الفئة المثقفة فئتين، وانتماءه إلى إحداهما، جعل الحقيقة تضيع في هذا الصراع، وانعكس على الموضوعية التي يتظاهر بها.

والأمر المؤلم أن هذا الحكم لا يقتصر على ما كتبه الكاتب حول العلاقة بين الصحوة والحداثة، وإنما ينسحب على سائر مباحث الكتاب، ويلقي بالشك على ما قاله عن التنوير والصحافة، والمناهج، وغيرها من المباحث، وذلك أن الكاتب لا يفتأ يوزع آراءه هنا وهناك، وهي تحمل قدرًا من السلبية، فيقول عن الصحافة: «لقد كان ضعف إمكانيات الكثير من الكوادر الصحافية في مستواها التعليمي في بعض المراحل أسهم في ضعف شديد للمحتوى الفكري، فتحولت الصحافة إلى مجرد وظيفة، وأكل عيش» ص480. «الصحافة…أصبحت ملجأ لمن يتعثر في مجالات أخرى، حيث لا تخضع الصحافة ومناصبها ومهامها لمعيير تقليدية، فالقرب من القوى المؤثرة تحريريًا وماليًا يختصر المسافة والزمن» (ص666). «بمعنى أنهم ليسوا مخلصين لمبادئ المهنة والهم الرسالي الذي تفرضه على الصحفي، بقدر ما أن الأمر عبارة عن أكل عيش كأي مهنة أخرى» (ص667). «ومن أبرز الأخطاء…تحويل الصحافي إلى موظف علاقات عامة يبحث عن المعلن في الوقت الذي يمارس مهنته الصحفية» (ص669)، ويقول في موضع آخر: «ظل الضعف المهني سمة رئيسة في الممارسة الصحافية المحلية» (ص672)، وينقل عن عبدالعزيز الدخيل قوله: لا أعتقد أنني بحاجة إلى الدلالات المادية لإثبات التهمة النفاقية التي أصبحت من صفات الصحافة السعودية، وعن عبدالله الطويريقي قوله: «الصحف تستقطب معظم كتاب الرأي فيها إلى حد كبير بحكم مواقعهم الوظيفية أو مناصبهم العليا في الدولة، أو علاقاتهم التي من الممكن للصحيفة الإفادة منها» (ص673).

ومع أن موقفه من التنوير لا يختلف كثيرًا عما سبقه، وإن كان الأمر فيه يختلف إذ إن «التنوير»-كما يبدو من كتابة الكاتب- مرحلة في أغلبها نشأت من رحم الصحوة، وانضم إليها بعد ذلك أناس من خارج هذا الوسط وهم «الليبراليون»، فقد بدا لي، وإن لم أكن متأكدًا، أن حركة التنوير السعودية – من وجهة نظر الكاتب – مزيج بين الصحوة والليبرالية، والكاتب يرى نفسه في هذه الحركة التي تقوم، كما يبدو من كلامه، على نقد الخطاب الإسلامي بوجه عام والصحوي بوجه خاص، وهي التي سميتها من قبل «بالجيل الثاني من كتاب الصحوة»، وهذا يعني أن حديثه هنا حديث في بعض جوانبه عن النفس، وهذا ما يمكن أن يفسر لنا موقفه المتذبذب في حديثه عن هذه الحركة.

فهو يقول عن التنوير: «إن الأغلبية كان وعيها الثقافي والسياسي ضعيفًا، لعدم وجود أي أرضية فكرية معاصرة»، ثم يقول: «إن بعضهم انخرط مبكرًا في أنشطة حركية ودعوية وسياسية قبل تحقيق الحد الأدنى من الوعي والإدراك» (ص596)، ويقول أيضًا: «مثل هذه الاكتشافات الغبية مؤشر على فشل وعي هذه الكوادر الصحوية في إدراك أين كان الخلل في هذه التجربة». (ص597).

ويبدو هذا التذبذب على وجه الخصوص في حديثه عن موقف سلمان العودة من التنوير، فمرة يقول: إن الصحوة قد قطعت صلتها بالعقلانية الإسلامية بزعامة العودة في معركته مع الغزالي (ص592)، وهو ما اعتبره قبل ذلك تسلف الصحوة، وتطورها نحو المشيخة (ص588) ثم اختلف بعد ذلك قوله في الحديث عن العودة بقوله: إن ما قدمه في «بيان التعايش» كان «ضربة معلم، وأعادت تدشينه للساحة بقوة مرة أخرى» (ص620) ثم يقول: «فخطف الأضواء من “التنويريين” الذي كان لهم السبق في تدشين النقد ضد التشدد والدعوة للتسامح، فكأنه أخذ المشروع بهذه المبادرة» (ص621).

فهو يرى أن ما قام به العودة يمثل «ضربة معلم»، وأنه خطوة في سبيل التنوير الحقيقي، وأنه سحب الأضواء، مما يعني أن ضوءه كان أكبر منهم، وبعيدًا عما ذكره عن الموقف عن هذا البيان من بعض التنويريين، والسلفيين، وما أورده عليه من ملاحظات، وأسباب هذه الملاحظات فإنه ينص على أن العودة أعلن «توبته» عند الشيخ البراك مما أنهى البيان، وأضاع فرصة لمناقشة مضمونه. (ص922).

والتنوير، على كل بخلاف بعض الومضات عنده، قد تحول إلى حالة لا علاقة لها بمقدماتهم السابقة، وجديتهم في نقد الواقع الديني والسياسي خاصة بعد ارتفاع أسعار النفط حيث زال الهم الإصلاحي أو كاد من النقد، وأصبح نقدًا للصحوة بلا أفكار ذات بال، بل صار نوعًا من الاستفزاز والهجاء اللفظي، وصاحبه ما سماه بـ«موسم الهجرة إلى البلاط».

وبالجملة فلا تمثل المرحلة المزدهرة من التنوير لديه أكثر من 3 سنوات بين 1998-2001 ثم أصابتها صدمة أحداث سبتمبر وما تلاه من أحداث أدى إلى التخبط في الرؤية لدى جميع المكونات التي يعدها مكونات المشهد الفكري ثم ارتفاع أسعار النفط الذي جعل التنويريين أنفسهم يعدلون عن رؤاهم، ويركضون خلف بريق الإبريز، ثم فقد معناه بعد أن «تحددت شروط اللعبة» على حد تعبيره، «لعدم وجود صدقية في تقبل خطاب تنويري حقيقي، فالمطلوب نقد انتقائي محدد سلفًا لجهات ورؤى معينة»(ص627).

والأمر المشكل أنه بالرغم أنه يلخص المادة العلمية سواء فيما يتصل بالمادة الحداثية أو الإسلامية، فإنه لا يتعمق في تحليل المادة الفكرية الموجودة، وإنما ينتقل من التلخيص إلى إصدار الأحكام، مع أن إصدار الإحكام هو أضعف الإنتاج المعرفي. وهذا هو الموضوع الثاني الذي أريد أن أتحدث عنه، فالقضايا التي أثارها في كثير من المواضع ليست ذات بال، أو لا تمثل إشكالية حقيقية، فحديثه الذي كرره عدة مرات ويتصل بإقصائية الحداثيين لسواهم في الملاحق الأدبية، وأورد عليه ما يشبه اعتراف السريحي بهذه الممارسة، فهناك أناس ينازعون في هذا ويقولون: إن الحقيقة أن الحداثيين لهم منابرهم والتقليديين لهم أيضًا منابرهم، فإذا كان الحداثيون في جريدة الرياض وعكاظ، فإن التقليديين في الجزيرة وملحق الأربعاء في جريدة المدينة، وإذا كان الحداثيون في نادي جدة فإن التقليديين في نادي القصيم، وإذا كان الحداثيون في جامعة الملك سعود وجامعة الملك عبدالعزيز فإن التقليديين في جامعة الإمام وأم القرى والجامعة الإسلامية، فليس هناك في الحقيقة إقصاء عن المشهد غير أن صوت الحداثيين كان أصخب لأنهم يحملون «دعوى الجديد» ويمتون إلى الأمم الناهضة بسبب.

إلا أن الأمر المهم في هذا أن الحداثيين لم يكونوا وحدهم إقصائيين، فالإسلاميون كذلك، بل هم أشد إقصاء من سواهم، وذلك أن إقصائيتهم نابعة من صميم عقيدتهم التنظيمية الحزبية، فهم يطموحون في بناء اليوتيوبيا الإسلامية أو الدولة الإسلامية التي تقوم عناصرها على الإيمان بالدعوة والالتزام بها، فهي لا تتسع لأحد سواهم، في حين أن إقصائية الحداثيين هي إقصائية شللية ناتجة عن الإعجاب بالنفس.

ومن ذلك أيضًا حديثه عن تعريف الحداثة، الذي جعله قضية تستحق الوقوف، (مع أنني سبق وأن تحدثت عن رأي الغذامي في تعريف الحداثة، وأنه التجديد الواعي واختلفت معه في ذلك) وأنا لا أرى أنها من القضايا التي تستحق كثير نقاش خاصة في الجانب الذي يتصل بالموقف من التراث أو الثوابت، وذلك أن الحداثة في الحقيقة (وأنا أتكلم عن الحداثة الأوربية) مثلها مثل كثير من الحركات الفكرية والأدبية والسياسية التي تطلق في الغالب على مجموعة من الناس اجتعموا تحت مسمى واحد وإن لم يكونوا متفقين في الأفكار والاتجاه والغايات، فقد يضم هذا الاجتماع المتناقضين في الرأي، ويكون اجتماعهم بفعل ما يمكن أن يسمى «كيمياء» يكون العصر، أو الجديد، أو الرفض دون أن يتفقوا على شيء، ودون أن يكونوا منطلقين من مبدأ معين له حدوده ومعالمه، قد اجتمعوا عليه فصار مثل الحراك السياسي، وهذا ما يجعل الحداثة عصية على التعريف الجامع المانع -كما يقولون-، وأظني قلت شبيهًا من هذا في نقدي لتعريف الغذامي للحداثة، لأن حركة الحداثة هي الحركة التي بدأت في بداية القرن العشرين وتوقفت إبان الحرب العالمية الأولى ثم استئنفت بعدها وانتهت بالحرب العالمية الثانية، ولذلك سميت تكملتها بعد الحرب الثانية بـ«ما بعد الحداثة»، ألا ترى الحداثيين يرد بعضهم على بعض، وينقض بعضهم قول بعض، ولا صحة للقول بأن الحداثة بدأت بالرومانسية في القرن التاسع عشر لأن مصطلح الحداثة أصلًا لم يظهر إلا في آخر القرن التاسع عشر أي بعد ما انتهت الحركة الرومانسية والواقعية.

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

أ.د. إبراهيم بن محمد الشتوي

أستاذ الأدب والنقد – الرياض

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى