
تمثيل «الهوية المغربية» وتحولات القيم زمن العولمة في رواية «الصبح القريب» لأنس سعيد محمد
الكتاب: «الصبح القريب»، رواية
المؤلف: أنس سعيد محمد
الناشر: دار مدارك للنشر، الرياض
تاريخ النشر: يناير 2023
اللغة: العربية
عدد الصفحات: 650 صفحة
هل ينشغل الخطاب السردي الروائي في المغرب ببناء «الهوية المغربية»؟ وما سمات هذه «الهوية» كما يتم تمثيلها في الرواية؟ وما تجليات «الهوية المغربية» في رواية (الصبح القريب)؟ وكيف تبني الرواية سمات هذه «الهوية»؟ وما الأنساق الثقافية والفكرية التي وظفها الكاتب لتشكيل ملامح «الهوية المغربية» في خطابه الروائي؟ وكيف يرصد تحولات قيم المجتمع في زمن العولمة؟
انطلاقًا من هذه الأسئلة ستعمل هذه القراءة على مساءلة رواية (الصبح القريب) للكاتب المغربي أنس سعيد محمد من زاوية تمثيلها للهوية المغربية، والمداخل الخطابية والفنية التي اتخذتها أساسًا لتشكيل متخيلها السردي، وبناء عوالمها الحكائية، وهي تشيد رؤيتها إلى الحياة والعالم، وإلى الإنسان والمدينة، وإلى صراع القيم، وتحول الأفكار وتضاربها في زمننا الراهن. وفي ظل ما يعرفه المغرب من تقلبات ومخاضات في زمن العولمة، وزمن عودة تغول الاستعمار الغربي، وهيمنة الرأسمالية المتوحشة، واستعلاء الصهيونية المتغطرسة وامتدادها في كل بقاع الأرض.
مما لا شك فيه أن الإجابة عن الأسئلة السابقة لن تكون بشكل مباشر لأن هذه الورقة النقدية ستبني إجابتها من خلال سردية تتوخى تقديم رؤية شاملة عن اشتغال المتخيل وبناء نظرته إلى الحياة والواقع في ضوء تصوير الصراع وتضارب القيم والأفكار كما يتم تمثيله في النص الروائي.
إن قارئ رواية (الصبح القريب) يلفت انتباهه مدى وعي كاتبها أنس سعيد محمد ببناء متخيل روائي يقوم على تمثيل سردي للواقع والحياة في مدينة طنجة استنادا إلى محكي يتخذ من تتبع دقيق للخصوصيات المحلية، والقيم الاجتماعية وتحولاتها أساسًا لبناء عوالمه. وعبر هذا المحكي يتمكن الكاتب من تشكيل سمات «هوية مغربية» تنطلق من التركيز على تصوير أسرة طنجية، وأسر مغربية أخرى من نفس المدينة أو من خارجِها، تتقاطع معها في الظروف والأوضاع والحالات الوجدانية والنفسية، أو تختلف عنها في جوانب منها. ومن خلال ذلك يتمكن السرد من بناء خطاب فني يقدم رؤية عن المجتمع الطنجي، وعن «هوية مفترضة» لهذا المجتمع باعتباره جزءًا من المجتمع المغربي. ومن خلال وقوف الروائي على ملامح تحول هذا المجتمع وتبدل قيمه وتشظي أسره وتفككها وتغير وعي أبنائه، يتمكن السارد من اقتناص تحولات الوعي بالهوية وبالقيم المتوارثة وصراعها في زمنِ تعدُد القيم الدخيلة وسطوتِها.
تتخذ الرواية من تصوير ما تعيشه أسرة عبدالقادر الطراف بؤرة لتشكيل متخيلها السردي. ويكون المنطلق والمحور في محكيها محسن الطراف الإبن الثاني لعبدالقادر و(حبابي الزهرة)، وهو الفتى الذي يحلم بالهجرة كأغلب أبناء حيه، وأبناء مدينته، وأبناء وطنه بسبب معاناته من البطالة، وشعوره بالمهانة والمذلة في وضع اجتماعي يتميز بفوارق طبقية صارخة ازدادت بروزًا في الألفية الثالثة. وتبدأ الرواية من بعد درامي وشرارة صراع داخل الأسرة ذاتها سيلقي بظلاله على الأحداث والمواقف، ويشكل المشاعر والأحاسيس المتضاربة والمتعددة للشخصيات الرئيسة في الرواية، وهو كره محسن لأخيه عثمان ورفضُه استقبالَه أو رؤيته، وهو المهاجر قبله إلى إسبانيا، والذي سيعود في عطلة قصيرة ليرى والديه وإخوته.
هكذا تبدأ الرواية بتصوير ملمح من ملامح تصدع الأسرة، وصراع القيم: قيم التآزر والمحبة والتراحم داخل الأسرة المغربية، وقيم الأثرة والكره والأنانية التي تمثلت في شخصية عثمان الذي تنكر لأخيه ولم يف بوعوده له، ولم يحرك ساكنًا من أجل مساعدته على التخلص من بطالته، أو إسعافه على الهجرة إلى إسبانيا: وهو الحلم الذي اشتركًا فيه وعملًا على تحقيقه، بحيث أفلح عثمان ولقي دعم أسرته جميعَها، بينما أخفق في نيله محسن وخذله عثمان ووالده عبدالقادر.
ومن هنا نرى الرواية تتتبع خطى محسن الطراف الذي يخوض تجربته في الحياة، وهو يصارع من أجل تحقيق ذاته في مجتمع مستلَب هيمنت عليه مظاهر الاستهلاك والجري وراء الأطماع والشهوات، فتنكر للقيم الإيجابية ولما يشد لحمته ويحقق وحدته، وما يرسخ قيمه الاجتماعية الإيجابية التي شكلت هويته عبر تاريخ طويل. وفي هذا السياق يركز السارد على تمثيل الصراع الداخلي والنفسي لبطله، الذي تشبع، بقيم دينية واجتماعية تمكنت من نفسه، وغرستها الأسرة في وجدانه، وتشبعت بما يسود في بيئته (الحي الجديد) بمدينته، وما تصبو إليه نفسه من أهواء وملذات محرمة أو مضرة بشخصيات أخرى. وعبر هذا المخاض الروحي والفكري العصيب الذي تعيشه شخصية محسن الطراف يستطيع السارد، وبدقة فنية عالية، تمثيلَ خصوصيات الهوية الثقافية وتجلياتها في السلوك والممارسة، لتشكل كينونة هذه الشخصية الروائية التي تعكس صورة من صور الشباب المغربي الذي لم ينسلخ كلية من هويته المغربية، ومن القيم التي تشبع بها، وخاصة القيم الدينية التي تُرسخ معاني الحلال والحرام، والبعد عن الرذيلة والتحلي بالفضيلة، وتشجب الانسياق وراء الأثرة والأنانية، ووراء الحقد والكراهية، وهي من القيم الدخيلة التي تقف الرواية على لمحات منها جسدتها بعض شخصياتها.
ولكن يظل المرتكز في الرواية هو بطلها محسن الطراف، الذي على الرغم من سقوطه أحيانًا وتخاذله عن الانصياع للقيم الدينية والاجتماعية التي تربى عليها نراه يعود إليها لتكون سندًا له على الارتباط بالحياة، والاستمرار في مقاومة ظروفه العصيبة ليحقق وجوده وكينونته، وليكون مرتبطًا بالأسرة والمجتمع الذي يعيش فيه. وما علاقة محسن الطراف بـ«عزيزة»، الفتاة اللعوب، والغانية، سوى مستوى من مستويات تشكل المتخيل الروائي في أفق تصوير مدى أثر الوازع الديني الأخلاقي في تشكيل كينونة الشاب، وجانبًا من جوانب تجلية توزع شخصية البطل بين إغراء الحياة وشهواتها وتحكم القيم الدينية ومعاني الرجولة والشرف التي تُعد بعدًا من أبعاد «الهوية المغربية» في سلوكه وتصرفاته، وهي القيم التي تحكمت في سلوك الناس ووجهت حياتهم الاجتماعية لأزمنة طويلة.
يقول السارد في مشهد دال من روايته مصورًا توزع شخصيته:
«المسكينة… تحسب أني أجهز لها مفاجأة سارة وليس ورائي إلا غانية أقطف من ثمارها الشهية المحرمة! وافترسه تأنيب الضمير وهو يقرأ في عيني أمه الأمل العذب والظن الحسن، نعم لم يكن يخلو من لحظات يعذبه فيها ضميره عقب كل لقاء بعزيزة وحين يؤدي صلاتي المغرب والعشاء جميعًا في المنزل قبل نومه. وكثيرًا ما حدثته نفسه بالإقلاع عن عزيزة خوفًا من عقاب إلهي ينزل به أو فضيحة تخسف به الأرض، لكن لا يكاد يمر يوم أو يومان حتى تهيج به شهواته، وحتى تلتمع في ذاكرته من الصور المثيرة والخيالات الشهية ما يعمي عينيه وقلبه، فما يدري إلا وهو يتصل بها ضاربًا معها موعدًا جديدًا يسرع إليه برغبة متجددة وشهوة لا تخمد إلا لتشتعل. وأصبح ذات جمعة معذب الضمير من لقاء الليلة الماضية، فتوضأ ولبس قندورته البيضاء، وبكر إلى مسجد (الحاج سعيد) ليتسنى له قراءة سورة الكهف كاملة..» (ص.276-277)
وعلى الرغم من انجراف محسن وراء نزواته وملذاته إلا أن الرواية تصور حالات ندمه وتطلعه إلى التوبة والأوبة إلى الطريق المستقيم، كما لمحنا في المقطع السابق، أو أثناء مروره بالمسجد أو حينما يلتقي بصديق والده الشيخ الورع «الحاج السوداني»، ولعل المشاهد الأخيرة في النص خير ما يقف عند ثقل هذا البعد وحضوره العميق في وجدان الشاب الذي ظل البوصلة التي توجهه، وتحدد طبيعة علاقته بالآخرين، وخاصة في علاقته بوالديه وأخته فاطمة وصديقيه عبدالغفور الهيشو ويوسف الطويهر. لنقرأ هذا المقطع من الرواية، يقول السارد:
«حين استأنف محسن الطراف عمله بعد انقضاء إجازته كان قد استُجد نشاطه، وانتفع أعظم النفع بما أخلد إليه من الراحة بعد طول تعب، وبما تمتع به من التجوال في إسبانيا التي طالما كانت حلم حياته. نعم لم يسترجع طعم الحياة الذي كان ولا عزيمته على المضي قدمًا في سبلها، لكن انبعث في قلبه المكدود دفق من الرضى والتسليم بالمقادير، وجعل يتأمل حياته الماضية حامدًا الله على ما كان وما لم يكن، وترسخ يقينه بأن لله حكمة فوق أفهام البشر، وأن أحدًا لن يسعه أن يعيش حياة شخص آخر أبدا، وكان يقول لنفسه: ما كان يُدريني لو أني هاجرت إلى إسبانيا إلى أن أنتهي إلى مصير محزن كمصير عبدالله، أو أني سأصبر على حياة كحياته؟ ثم من كان سيُعنى بأمي رحمها الله في مرضها الطويل؟ أيكون الله قد أبقاني هنا من أجلها، حتى إذا قبض روحها أرسلني لأرى تفاهة أحلامي؟ لم يكن قد سلا تمامًا عن رحيل أمه، لكن سفر الإجازة رده إلى اعتداله في تقبل مصائب الحياة ومعايشة خطوبها، وهكذا عاد نشيطًا إلى شاحنته وإلى أسفاره الطويلة الممتدة، وإلى اعتداده بنفسه وإفراطه في تأنقه..» (ص. 591)
هكذا يختزن هذا المقطع من الرواية عدة دلالات تتصل بطبيعة تكوين شخصية محسن الطراف، ومدى تمثيلها للشاب المغربي المتشبع بقيم دينية اجتماعية راسخة تؤثر في فكره ووجدانه وتفاعله مع الآخرين ومع العالم من حوله، والمرتكز في هذا المقطع هو رضا محسن بمصيره وتسليمه بقضاء الله وقدره، وتدبره في مجريات حياته، ومحاولة تفهمها استنادًا إلى الإيمان بقدر الله، وهو جانب فاعل ومؤثر في تشكيل «الهوية المغربية»، وتشكيل خصوصية بارزة لدى فئات عريضة من المجتمع.
وبهذه الشاكلة نرى أن الرواية تشتغل في خطابها الروائي استنادًا إلى مقومات ثقافية وفكرية دالة أسهمت في تصوير طبيعة تكوين شخصياتها السردية، وخاصة شخصية بطلها محسن الطراف، من جهة، كما نجد، من جهة ثانية، تصويرًا دقيقًا لشخصيات أخرى في الرواية تقدم نماذج للقيم الدخيلة والسلبية في المجتمع، كما هو حال عثمان وجواد أخوي محسن، وشخصيات أخرى عابرة في الرواية بما يجلي صورًا متعددة لاستشراء آفات اجتماعية ناتجة عن تراجع للقيم التي تربى عليها المغاربة وشكلت وجدانهم وعقليتهم وطرق تفاعلهم مع الحياة. وفي هذا السياق يمكننا أن نشير إلى مشاهد عدة في الرواية تقف عند مظاهر الانحراف في الفكر والسلوك بما يتعارض مع القيم الاجتماعية التي تشكل «الهوية المغربية»، من مثل عقوق الوالدين، والأنانية وحب الأثرة، والغش والخداع، والخيانة، والتبجح بالرذيلة، وحب نشر الفضائح مقابل سترها، والإصرار على المعاصي.. وغيرها من الظواهر التي كانت تعد عارًا في المجتمع، وكان الوازع الديني، باعتباره مكونًا وجدانيًا وعقليًا وتربويًا، وراء محدوديتها في أزمنة سابقة، بينما صارت بارزة طاغية في حاضرنا، وكانت من بين عوامل أخرى أسهمت في تحول المجتمع في زمن العولمة، ومن ثم تحول «الهوية» وتغير واقع المجتمع.
عدد التحميلات: 0