
إنعام كجه جي في عالمها التخييليّ تنوب حول وطن من سراب
هذه الروائية الحاملة في عالمها التخييليّ، من منفاها القسريّ في باريس، سيقان سعفة نخلتها العراقيّة المشظّاة: (سواقي القلوب) 2005، و(الحفيدة الأمريكيّة) 2008، و(طشّاري) 2013، و(سارق الاّفندر) 2016، و(النبيذة) 2017، و(صيف سويسري) 2024، مسكونة حتى النّخاع، بحب عراق الماضي الجميل، الذي تحوّل بفعل الحروب، بتوصيفها من بلد «ألف ليلة وليلة» إلى بلد «ألف ويلة وويلة». رُغم صدمتها من صيرورته الفجائعيّة، فهي لا تستطع الانفلات من أسر حبّه. وليس صدفة أنّ الكاتبة، دوّنت في افتتاحية رواية (طشّاري)، بيتيْن في الحنين والشّوق، من قصيدة «غريب على الخليج»، لابن وطنها الشاعر بدر شاكر السيّاب (1926-1964) يقول فيهما:
لو جئت في البلد الغريب إليّ ما كمل اللقاء
الملـتـقى بك والـعـراق على يـديّ هـو اللقاء
وصلت روايتا إنعام كجه جي (الحفيدة الأمريكيّة) و (طشّاري)، إلى القائمة القصيرة، للجائزة العالمية للرواية العربيّة البوكر.
أرشفة تاريخ العراق
إنعام كجه جي حملت في رواياتها العراق الحديث، فرسمته في ريادته الثقافيّة في (النبيذة) إبان الفترة الملكية، وبعد الاحتلال الأمريكيّ في (الحفيدة الأمريكيّة)، حيث السخرية المرّة والمفارقة، في شخصية البطلة، الفتاة الأمريكية، العراقية الأصل، العائدة إلى وطنها مترجمة، في صفوف الجيش الأمريكيّ، كما صوّرت معاناة التيه والاغتراب والشّتات، لدى العراقيين المقيمين في باريس، بفعل تداعيات الحروب وإسقاطاتها.
إنّ روايات إنعام كجه جي، تغوص في تفاصيل الحياة اليومية للعراقيين في الشّتات، بأسلوب بسيط وسلس، مما يصبغ رواياتها بالأصالة والحداثة. إنّ رواياتها بورتريه لعراق الماضي الجميل المشتهى، وعراق الحاضر المصهور بين الحرب والاحتراب..
الغرائبيّة واللامعقول
رواية (طشّاري) مسكونة بالتشتّت والتفرّق، وموغلة في الغرائبية واللامعقول، بابتكارها مقبرة إلكترونيّة، لدفن رفات أموات عائلة إسكندر العراقيين المشتّتين، في أصقاع الغربة ولفيحها. ويحمل عنوان الرواية طشّاري باللهجة العراقية المحكية، سيميائية التشتّت والتفرّق، وهو كما تشير الرواية مقتبس من عنوان ديوان شعر، كتبته الحبّابة والدة إسكندر، المقيمة في باريس، ابنة شقيق وردية إسكندر، الساردة الرئيسية في الرواية. «بالعربي الفصيح: تفرّقوا أيدي سبأ. يعني؟ تطشّروا مثل طلقة البندقية التي تتوزّع في كلّ الاتجاهات». (طشّاري، ص90). وكذلك ذكر طير اليباديد الأسطوري الذي يرمز إلى الشؤم والفراق، إذ يحوّم فوق أسطح البيوت الآمنة فيبعثر الأحبة ويفرّقهم في البلاد (طشّاري، ص 18).
تحكي طشّاري الوجع العراقي، عن طريق تشريد وتشتّت عائلة طبيبة نسائية عراقية تدعى وردية إسكندر، في الثمانين من عمرها، أرغمتها ظروف الحرب والاقتتال في وطنها العراق، إبان الاحتلال الأمريكي له، على تركه واللجوء إلى باريس مع عدد كبير من العراقيين، لطلب الهجرة إلى كندا، حيث تقيم ابنتها هندة.
المنفى في طشّاري قسري ومرفوض ومؤقت، فوردية إسكندر لم تفكّر يومًا بترك العراق والهجرة، لكنّها بعد أن هاجر أفراد عائلتها، مثل عراقيين كثيرين، وبسبب أحداث العراق الدامية خاصة بعد عام 2003، حيث الحواجز وسيطرة العصابات والتفتيش الطائفي والفقر والجوع اضطرت السفر إلى باريس.
إنّ مرايا الوطن تستعاد في مخيّلة وردية من منفاها في باريس، وهي تحتفظ بذكرياتها السعيدة فيه بدءًا من طفولتها، ودراستها الطب في كلية بغداد، وزواجها من الدكتور جرجس منصور، وعملها في الديوانية.
لم تستطع وردية التأقلم في باريس، بقيت متعلّقة بوطنها العراق الحاضر والمحفور في مخيّلتها بتفاصيله، والموصوف بياقوت عمرها، كما أنّ علاقتها بالمنفى بقيت مبتورة، ولم يشكّل المنفى حلًّا أو بديلًا للوطن، المنفى عندها، بقي كما يتجسّد في تعريف إدوار سعيد في مؤلفه (تأملات حول المنفى) «إنّه الشرخ المفروض الذي لا التئام له بين كائن بشريّ ومكانه الأصليّ، بين الذات وموطنها الحقيقيّ: فلا يمكن أبدًا التغلّب على ما يولّده من شجن أساسيّ… فمآثر المنفى لا يني يقوّضها فقدان شيء ما خلّفه المرء وراءه إلى الأبد»، (ص 117).
المقبرة الإلكترونية
توظّف طشّاري الأسلوب الغرائبيّ، من خلال تشييد وطن وهميّ، مقبرة إلكترونية على شبكة الانترنت، إنّ فكرة المقبرة الإلكترونية هي تعبير عن قسوة الواقع ووحشيته، وعن عجز الإنسان العراقي في بناء وطنه المدمّر، أو إيجاد مقبرة حقيقية لجمع رفات القتلى والميتين، وهي مرايا عاكسة لعمق مأساة العراقيين في المنفى.
لقد ابتدعت طشّاري فكرة المقبرة الالكترونية، لتخطّي الواقع المأزوم وللسخرية المرّة منه، ولتصوير فجائعية الموت العراقي، بالهرب إلى الخيالي والافتراضي.
هذه الفكرة الغرائبية تفشل، وهذا الوهم ينهار ويتلاشى، مثل حلم أو كابوس، لأنّ الموتى العراقيين خانوا الحفيد اسكندر، وقاموا بانقلاب مثلما اعتادوا القيام بانقلابات كثيرة وهم أحياء، فقد انتفضوا من قبورهم للعودة إلى وطنهم.
هذه الغرائبية المسرودة بسخرية مرّة، تؤدّي وظيفتين، التعلّق بالوطن رغم رفض العودة إليه لافتراسه أبناءه، ومن ناحية ثانية، تصوير الانقلابات والخيانات السياسية في تاريخ العراق.
تنتهي أحداث الرواية، ووردية ما زالت تنتظر في باريس، في بيت أخيها. والانتظار رغم واقع العراق الدموي هو استشراف أمل العودة والعيش من جديد في الوطن. وتؤكد الرواية أنّ كلّ بديل للوطن هو وهم وسراب.
في روايات إنعام كجه جي، يحضر الشيء ونقيضه، وترتسم عُشتار الوجيعة بالحب السّراب، والحرب الواقع، والممسوحة بالجمال والحزن معًا، ليشكّلا موناليزا عراقية حديثة في سفر الرواية العربية المعاصرة.
عدد التحميلات: 0