الأدب والنقدالعدد الحاليالعدد رقم 45

من ديوان العرب إلى محورية الوحي

أحدث الدين الجديد نقلة نوعية في نظام حياة المجتمع العربي، على افتراض أن كان سائدًا يُعد نظامًا، وحسبنا من تشخيصه ما وصفه به جعفر بن أبي طالب للنجاشي:

«أيها الملك، كنا قومًا أهلَ جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطَع الأرحام، ونُسيء الجِوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف، فكنَّا على ذلك حتى بعَث اللهُ إلينا رسولًا منا نعرِفُ نسبَه، وصدقه، وأمانته، وعفافَه، فدعانا إلى اللهِ لتوحيده، ولنعبده ونخلَع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمَرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصِلة الرَّحم، وحسن الجوار، والكفِّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقولِ الزور، وأكلِ مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأن نعبد الله لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام – قالت: فعدَّد عليه أمور الإسلام – فصدَّقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من عند الله، فعبدنا الله وحده، ولم نشرِكْ به، وحرَّمنا ما حرَّم علينا، وأحلَلْنا ما أحلَّ لنا، فعدا علينا قومُنا، فعذَّبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحلَّ ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيَّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على مَن سواك، ورغِبْنا في جوارك، ورجونا ألا نُظلَم عندك أيها الملك»*صحيح ابن خزيمة.1

ومما لا شك فيه أن الإسلام سيقول كلمته في الشعر الذي يمثل حالة مركزية في الثقافة العربية عمومًا، باعتباره ديوان العرب، ولِما يمثله من وظائف تتجاوز الأدبية إلى تصوير أنماط الحياة السياسية والاجتماعية والعقلية والعقدية والوجدانية وحفظ التواريخ والأيام. لذلك فقد كان احتفال القرآن به مميزًا إلى حد أنه أفرد له سورة بين دفتي بين المصحف، هي سورة الشعراء التي تحتل الرتبة الثانية بعد البقرة من حيث عدد آياتها (227 آية)، كما أن نزولها في المرحلة المكية يشي بأن القرآن تعامل مع هذه القضية ضمن الأوليات ولم يؤجل الخوض فيها إلى ما بعد الهجرة، مع أن النظرة السطحية العادية قد لا ترى حرجًا في عد النظر في التعاطي مع الشعر شأنا مُلحا بالنسبة لفئة مؤمنة قليلة وسط مجتمع مشرك يتهددها بالاستئصال، ولكن القرآن الكريم قال كلمته في الآيات الأخيرة من السورة: (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) الشعراء: الآية (227) وانطلاقًا من فحوى هذا الخطاب في تجلياته ومضمراته أحدث الإسلام تحولًا في مسار الشعر العربي ولم يحدث ذلك فجأة، بل احتاج إلى وقت غير قليل لتمثل واستيعاب المعطيات الجديدة التي أرسى دعائمها القرآن الكريم سواء على الموقف الفكري (العقيدة) أو على المستوى الفني الجمالي (القيمي). لذلك فإن الشعرية في صدر الإسلام ستصطبغ بما لا يتنافى مع روح الإسلام، بل ستتمثل تعاليمه وتتغنى بالتصورات الجديدة كالتوحيد وطاعة الرسول – صلى عليه وسلم- ومحبته والاستعداد لليوم الآخر، إضافة إلى الحث على الجهاد والشهادة في سبيل الله ونحو ذلك، ويمكن رصد توصيف هذا التحول من خلال هذا القول لعمر فروخ: «إذا اعتبرنا الشعر الجاهلي كله، لا المعلقات وحدها، رأينا أن الشعر في الصدر الأول من الإسلام لا يختلف كثيرًا في أسلوبه منه في الجاهلية. أما في المعاني والأغراض فقد كان الفرق بين العصرين كبيرًا جدًا: هجر الشعراء الأغراض الوثنية: القسم بالأوثان، والكلام في العصبيات، والفخر بالخمر وبالثأر إلا قليلاً، ثم أحلوا مكانها المعاني الإسلامية مثل التوحيد والتقوى والجهاد والجنة. أما فيما يتعلق بالأسلوب خاصة فقد كان للقرآن الكريم أثر ظاهر في الألفاظ والتراكيب. ولقد ساعد القرآن على توحيد لغة المخاطبة بين المسلمين في جميع أقسام شبه جزيرة العرب. ولا ريب في أن هذا الأثر كان يقوى مع الأيام حتى بلغ ما بلغ إليه في أيامنا هذه.»3

ومن المعلوم أن صوت الشعر قد خفت في هذه الفترة لعوامل كثار من أبرزها ازدهار الخطابة، ونهى الرسول – صلى الله عليه وسلم عن رواية الشعر الذي يسيء إلى الأعراض، ويؤجج نار العداوات كالتذكير بأيام العرب التي فيها انتصار لبعض القبائل على البعض الآخر، والإشادة بالعصبيات، والتعاظم بالأحساب.

وهكذا فإن شعر صدر الإسلام – في عمومه – تشرّب شعرية الوحي في معناها ومبناها، في أغراضها وأسلوبها وبيانها، فانصرف الشعراء عن معان، وأقبلوا على معان أخرى مستوحاة من تعاليم القرآن وهدي النبوة،  كما هجروا الفاحش من القول، التماسًا لقول التي هي أحسن، ولم يعد أعذب الشعر أكذبه بل أصْدقه، ولم يعد الهجاء – مثلاً- التماس للمعايب وتشهيرًا بالعورات، وطعنًا في الأحساب والأنساب، وإنما هو كشف عن ضلال المشركين، وبيان لما هم عليهم من انحراف عن الجادة، وتمسك بالرذائل، فهذا حسان – رضي الله عنهم – يجيب عن سؤال النبي – صلى الله عليه وسلم- له بشأن هجائه لقرابته المشركين من قريش الذين هجوه: (كيف تهجوهم وأنا منهم؟) بجواب بليغ، يكشف عن فائقية شعرية، بقوله: سأسلك منهم كما تُسل الشعرة من العجين. فيقول له النبي – صلى الله عليه وسلم- : (اهجُهم وروح القدس معك). إذن صار هذا الشاعر الإسلامي مؤيدًا بطاقة خارجية مصدرها الله تعالى، لا حد لبلاغتها، ولا رصد لوقعها. ومن جملة ما يقول في هذه الشأن:4

هجوتَ محمدا فأجبتُ عنه

                   وعند الله في ذاك الجزاءُ

أتهجوه ولسـت له بكـفء

                      فشركما لخيركما الفداءُ

فإن أبي ووالده وعرضي

                     لعرض محمد منكم وقاءُ

هذا نموذج من التحول الشعري لشاعر تمثل سيرته الشخصية وساره الشعري انزياحًا لغويًا وأسلوبيًا ودلاليًا، ولعله يجزئ عن شعراء آخرين مثل عبدالله بن رواحة وكعب بن مالك باعتباره مُخضرمًا، له شأوه في الجاهلية، وحسبه أنه أنشد قصيدته البتراء في مجلس جبلة الغساني، أمام النابغة الذبياني وعلقمة الفحل، مع ما حصله من ارتباك بادي الأمر. ومنها:

لله در عصابة نادمتهم

                                   يومًا بجلّـق في الزمـــان الأولِ5

يمشون في الحلل المضاعف نسجُها

                                 مشي الجِمال إلى الجِمال البُزّلِ

ويجدر بنا في هذا المقام أن نستشهد بهذا النص لعمر فروخ حول سمات هذا التحول: «فمنذ السنة الأولى للهجرة نجد الشعراء قد أخذوا يستعملون في أشعارهم أسماء الله الحسنى من تلك التي كانت معروفة في الجاهلية، نحو: الله، اللهم، ربّ، الرحمن، ألخ استعمالًا إسلاميًا.

ومنذ العام الثاني للهجرة أخذ الشعراء يوردون في أشعارهم أسماء لله لم تُعرف قبل نزول القرآن، نحو رؤوف، ذو العرش، الوهاب، الرزاق، العزيز، الغفور، الوهّاب، مولى المؤمنين، الواحد الصمد، عالم الغيب ذي الجلال، الرزاق، العزيز، الغفور، الوهّاب، مولى المؤمنين، الواحد، الصمد، عالم الغيب، ذي الجلال والإكرام. في السنة الثالثة للهجرة مثلا قال حسان:

محمد، والعزيز الله يُخبره

                       بما تُكِنّ سريرات الأقاويلِ

وكذلك استعمل حسان بن ثابت كلمة (رسول) بمعنييها: معناها اللغوي القديم ومعناها الإسلامي الجديد في بيتين متواليين:

ألا أبلغ خُزاعيا رسولاً

                   بأن الذم يغسله الوفاءُ

وبايعتَ الرسول وكان خيرا

                   إلى خير، وأدّاك الثراءُ6

والجدير بالذكر أن نشير إلى بروز فن شعري جديد هو البديعيات (القصائد التي نُظمت في مدح الرسول ص)، وأشهرها (بانت سعاد) لكعب بن زهير، والبردة للبوصيري ألخ.

ويمكن إجمالاً الإشارة إلى التغيرات التي عرفها الشعر في صدر الإسلام فيما يلي:

أ – اختفاء بعض الأغراض القديمة كوصف الخمر والغزل الفاحش والهجاء المُقذع.

ب – ظهور أغراض جديدة كالشعر التبليغي الدعوي، كقول صرمة بن أبي أنس7

فأوصيكمُ بالله والبرّ والتقى

                                          وأعراضكمُ، والبرّ بالله أوّلُ

وإن قومكم سادوا فلا تحسُدُنَّهم

                                  وإن كنتمُ أهل الرياسة فاعدلوا

ج – تطور الأغراض القديمة كالمدح والرثاء وتشبعها بالروح الإسلامية وتخلصها من جفاوة الألفاظ وغرابتها، على غرار ما نجده في الشعر الجاهلي.                                                                                                                                             د – شيوع المعجم القرآني في شعر الإسلاميين.

هـ – التعبير عن العواطف الإنسانية النبيلة، والربط بينها وبين الآخرة، وقد انعكس ذلك على الأسلوب، فاختفت الفظاظة والقسوة وأصبحت الصياغة سلسة.

ي – شيوع النثرية، كذلك بروز ظاهرة الصياغة الحرفية للقرآن الكريم كقول النابغة الجعدي8

الحمـد لله لا شــريك لــه

                    من لم يقلها فنفسه ظَلَما

المولج الليل في النهار وفي اللـ

                        يْل نـهـارا يفرج الظُّلَما

و- شيوع الصدق في شعر صدر الإسلام، فقد روي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (إنما الشعر كلام مؤلف، فما وافق الحق فهو حسن، وما لم يوافق الحق منه فلا خير فيه). ولعل هذا سر ضعف شعر حسان بن ثابت في الإسلام، حتى إنه علل ذلك بقوله: (الشعر يزينه الكذب، والإسلام ينهى عن الكذب).9

ك – قلة التخييل وسطحيته غالبًا، وفيما يلي نورد مثالا لكل لون منه:

التشبيه: يقول عبد الله بن رواحة في أثناء غزوة مؤتة وقد استشهد فيها عن الخيل10

حذوناها من الصوّان سِبتا

                       أَزلَّ كأن صفحته أديمُ

الاستعارة: ومن أبلغها قول أبي ذؤيب الهذلي:

وإذا المنية أنشبت أظفارها

                       ألفيت كل تميمة لا تنفع11

الكناية: يقول متمم بن نويرة في رثاء أخيه مالك:

لقد كفّن المنهال تحت ردائه

               فتى غير مِبطان العشيّات أروَعا12

 

الهوامش:

1 – سيرة ابن هشام، ج1 ص335.

2 – سورة الشعراء. الآيات 224 – 225 – 226 – 227

3 – عمر فروخ، تاريخ الأدب العربي، دار العلم للملايين، بيروت، 1978، ط 3، ج1 ص246

4 – ديوان حسان بن ثابت، دار صادر، بيروت، ص 9

5 – المصدر السابق، ص179

6 – عمر فروخ، تاريخ الأدب العربي، دار العلم للملايين، بيروت، 1978، ط 3،ج1 ص 25

7 – الصحاري، كتاب الأنساب، ص 90

8 – عمر فروخ، تاريخ الأدب العربي، دار العلم للملايين، بيروت، 1978، ط 3،ج1ص344

9 – ابن رشيق، العمدة، ج1 ص 27

10 – عمر فروخ، تاريخ الأدب العربي، دار العلم للملايين، بيروت ط3 ،1978م، ج 1ص262

11 – المصدر السابق، 292

12 – المصدر السابق ص 302

Facebook
X
WhatsApp
Threads
Telegram

عدد التحميلات: 0

د. غانم حميد

الجزائر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى