
القدس في عيون سِلما لاغرلوف.. حكاية امرأة كتبت العالم
«لا شيء على وجه الأرض يمكن أن يعوض عن فقدان شخص كان يحبك»
كم مرة قرأنا هذه الجملة أو نطقناها بعفوية، أو شاركناها كاقتباس أدبي شاعري عبر منصات التواصل الرقمي دون أن نعرف كاتبها؟ ربما يكون صدقها هو السبب في انتشارها، رغم أن القليل فقط يدرك أن تعود للروائية السويدية سلما لاغرلوف.
حين خطَت الروائية السويدية سلما لاغرلوف خطواتها الأولى في شوارع القدس، لم تكن فقط تسجّل لحظة عبور من شمال أوروبا إلى بوابة الشرق، بل كانت تعيش تجربة وجودية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لم تأتِ إلى المدينة المقدسة كسائحة تلتقط صورًا وتمضي، بل كامرأة تبحث عن المعنى، عن النور في زوايا الروح، وعن حكاية تكتبها لا من بعيد، بل من قلب المكان.
في مطلع القرن العشرين، وصلت سِلما إلى فلسطين، ووقفت أمام القدس وجوارحها ممتلئة بأسئلة لا تكفيها الإجابات الجاهزة. هناك، في تلك الأزقة التي تتقاطع فيها الأديان والثقافات والصلوات، شعرت بشيء يتغير داخلها. ومن هذه التجربة ولدت روايتها (القدس) عام 1901، لم تكن هذه الرواية عملًا أدبيًا فقط، بل شهادة حيّة على تلاقي الثقافات، وتقلّبات الإنسان، وصراعات أحلامه وآماله.
لم يكن الشرق بالنسبة لها مجرد موقع على الخريطة، بل عالم روحي عميق، يحمل في طيّاته أسئلة الوجود الكبرى. قبل أن تصل إلى القدس، كانت قد سافرت إلى مصر وسوريا، لكن فلسطين تركت في نفسها أثرًا لا يُمحى، وطبعت داخلها دهشة لم تتكرر. هناك، عايشت التفاصيل الصغيرة، دخلت البيوت، استمعت إلى الناس، وشهدت كيف تنسج القدس يومياتها بين الصلاة والخبز، بين الصمت والدعاء. كل ذلك تسرّب إلى روايتها التي لم تكن انعكاسًا لما رأته فقط، بل لما شعرت به حتى الأعماق.
وبينما قرّاء كثيرون رأوا في رواية (القدس) مرآة لصراعات دينية وثقافية، كانت سلما تراها مرآة للإنسان في ضعفه وإيمانه، في حيرته وحبّه، في محاولاته الدائمة للعثور على أرض تليق بروحه. الرواية كانت صادقة ومؤثرة لدرجة أنها تحوّلت لاحقًا إلى فيلم سينمائي، ليبقى العمل حيًا، يعيد تقديم المدينة للقارئ الأوروبي، لا كرمز سياسي أو ديني، بل كإنسان يعيش ويتألم ويحلم.
بعد سنوات قليلة من هذه الرحلة الاستثنائية، سُجّل اسم سلما في التاريخ مرّتين: ككاتبة تركت أثرًا واضحًا في الأدب الأوروبي، وكأول امرأة تفوز بجائزة نوبل للآداب عام 1909. لم يكن فوزها مجرّد مكافأة على رواياتها، بل رسالة للعالم بأن الإبداع لا جنس له، وأن الأدب حين يُكتب من القلب، يصل إلى كل القلوب. وجاء في حيثيات الجائزة أنها كتبت بخيال حيّ، ومثالية نبيلة، وبصيرة روحية عميقة.
بفوزها هذا، فتحت الباب على مصراعيه أمام الكاتبات في كل العالم، وأثبتت أن الحكاية حين تُقال بصدق، تتجاوز الجغرافيا، وتدخل إلى جوهر الإنسان. وبعد خمس سنوات، دخلت الأكاديمية السويدية التي تمنح جائزة نوبل، لتكون أول امرأة تشارك في صنع قرار ثقافي عالمي، في زمنٍ لم يكن للنساء فيه حضور إلا في الهامش.
لكن مسيرة لاغرلوف لم تتوقف عند بوابات القدس ولا قاعات نوبل. إذ ارتبط اسمها أيضًا بعمل لا يقل أهمية، هو (مغامرات نيلز العجيبة). حكايةٌ كُلفت بكتابتها من قِبل وزارة التعليم السويدية، لتعلّم الأطفال الجغرافيا بطريقة مبتكرة. وبروح المغامِرة، لم تكتب درسًا، بل عاشت التجربة: سافرت عبر البلاد، ورصدت القرى والتلال والأنهار، ثم قدّمتها بقالب قصصي ساحر، حوّل المعرفة إلى مغامرة.
وُلدت سِلما عام 1858 في إحدى قرى السويد الهادئة والباردة، لأسرة تجمع بين الانضباط والمعرفة؛ فوالدها كان جنرالًا عسكريًا، ووالدتها معلمة. وفي سن الثالثة، أُصيبت بداء في ركبتها تحوّل إلى شلل أقعدها عن الحركة، لتقضي سنوات طفولتها الأولى طريحة الفراش. لكنها لم تكن وحدها في تلك العزلة؛ كانت تحيط بها قصص والدها عن الحروب والمغامرات، وحكايات جدتها الشعبية المملوءة بالأساطير والخرافات، وكلها غذّت خيالها وأشعلت شرارة الحكاية في أعماقها.
وبين صفحات الألم، وجدت في القصص نافذتها إلى العالم، وسلاحها لمواجهة الاكتئاب والوحدة. ومع الوقت والعلاج، استعادت قدرتها على المشي مستعينة بعكاز، صار لاحقًا رفيقها الدائم في دروب الحياة. لم تستسلم للضعف، بل تابعت تعليمها، وأصبحت معلمة، ثم كاتبة، معلنة بداية نهضة جديدة في الأدب السويدي، تقودها امرأة جاءت من قرية صغيرة، ومن وجع شخصي تحوّل إلى حبر يفيض بالتعاطف والجمال.
كرّمتها السويد بأن وضعت صورتها على فئة 20 كرونا، وحوّلت منزلها إلى متحف، وطبعت ملامحها على طائراتها، لكنها لم تكن يومًا بحاجة إلى ذلك؛ يكفي أن أعمالها تعيش حتى اليوم في قلب كل قارئ أحب السرد النظيف، والخيال الذكي، والإنسان الذي يسكن بين السطور.
بين القدس وقرى السويد، بين النور والظل، بين الحكاية والحقيقة، كتبت سلما لاغرلوف عالمًا أدبيًا إنسانيًا لا يزال حيًا، لا لأنه جميل، بل لأنه صادق، وشجاع، ويشبهنا كثيرًا.
عدد التحميلات: 0