
ماذا ننسى عندما نستذكر هيروشيما؟
لا تزال هيروشيما جرحًا لا يندمل في عالمنا المحفوف بالمخاطر
تأليف: أريك روس
باحث في كلية التاريخ بجامعة ماساتشوستس الأمريكية
تقديم: توم انجلهارد
كاتب ومحرر أمريكي. من كتبه المنشورة: نهاية ثقافة النصر
ترجمة: إبراهيم عبدالله العلو
تقديم توم انجلهارد:
كنت قد أتممت للتو عامي الأول وقت إسقاط القنبلتين الذريتين على مدينتي هيروشيما وناجازاكي في اليابان. وقبيل مولدي بقليل عاد والدي، الذي كان ضابطًا في القوات الجوية الأمريكية، من قتال اليابانيين في بورما. لم أسأله مطلقًا عن شعوره لدى سماعه أنباء الدمار الذي حاق بالمدينتين ولحظة انتهاء الحرب التي تلت ذلك. وبالطبع لا يمكنني اليوم معرفة ذلك قط. ولكنه رغم ذلك دأب على اصطحابي لمشاهدة أفلام الحرب العالمية الثانية في دار السينما المحلية عندما كنت طفلًا وأكاد أجزم بأنه لم يُكّن أية مشاعر ودّ تجاه اليابانيين. كنا نذهب في تلك الأيام لتناول الطعام في المطاعم الصينية ولكننا لم نذهب إلى أي مطعم ياباني في حينا فذلك كان من المحرمات.
وبالرغم من ذلك لعبت القنبلة أو ما يسمى سلاح النصر دورًا غريبًا في حياتي وحياة الكثير من الشباب أمثالي. وبداية، وبينما اُحتفي بتدمير هيروشيما وناجازاكي في هذه البلاد كسبب لنهاية الحرب العالمية الثانية، تغلغلت غيمة الفطر التي ترمز للدمار النووي المحيق (وغيلان الاشعاع الهجين) في ثنايا أفلام الخيال العلمي إبان فتوتي مذكرة أياي بمدى فظاعة مثل تلك الأسلحة. وبالطبع عشت كطفل في عالم المدرسة حيث كانت تمارين الحيطة النووية شائعة (الاختباء تحت مقعد الدراسة) بالرغم من تهكمي آنذاك على فكرة أن المقعد سينقذني من الانفجار النووي. وعندما كنت اتجول في شوارع نيويورك لاحظت انتشار لافتات «ملاجئ الحماية من الاشعاع» حيث يمكن للمرء أن يأمل بالنجاة من الحرب النووية.
كانت القنبلة كسلاح انتصار جزءًا من الثقافة الأمريكية في تلك الأيام في حين شكلت القنبلة ككابوس لنهاية العالم هاجسًا ضخمًا في تكوين حياتي. انتهى بي المطاف، وبالرغم من مشاعر والدي العدائية تجاه اليابانيين، ولمدة عامين وكطفل في الحادية أو الثانية عشرة من العمر (رغم أنني لا أملك أي فكرة عن كيفية حدوث ذلك) صديقًا بالمراسلة لطفل ياباني.
لم يتبق لدي أي من رسائله ولكنني لا أزال أذكر رقة الأوراق التي كان يكتب عليها بالإنجليزية (بالطبع لأنني لا أتقن اليابانية). ولا أعلم كيف سُمح لي بمراسلة ذلك الطفل ولكنني أجزم بتأثيره البعيد علي.
وبعد أن أصبحت لاحقًا محررًا في دار نشر بانثيون للكتب وبناء على اقتراح من صديقي القديم والمختص بالشؤون اليابانية الألمعي جون داور اطلعت على ومن ثم نشرت الكتاب الياباني (نيران لا تنسى)- والذي نشر مسبقًا في بريطانيا- بما يحتويه من رسومات لا تمحى من قبل الناجين من تفجير هيروشيما. وكانت تلك المرة الأولى، حسب ما أعتقد، التي تُنشر فيها العديد من الصور التي تعرض الأضرار البشرية في الثقافة الأمريكية الرائجة.
ثم قبلت دعوة من المحرر الياباني لتلك المجموعة لزيارة بلاده. أدركت عند الوصول، وقد هالني ما لا يمكن تخيله، أنه تعمد اصحابي كمحرر أمريكي وناشرًا للكتاب إلى هيروشيما وزيارة «المتحف الذي لا ينسى» هناك (وما يحتويه من علبة متفحمة لطعام طفل في المدرسة) ومشاهدة الدمار الذي أحدثته بلادي في تلك المدينة يوم 6 أغسطس عام 1945.
انتشرت الأسلحة النووية بداية من القوة العظمى في حقبة الحرب الباردة، الاتحاد السوفيتي، ومن ثم إلى سبعة دول أخرى بما في ذلك روسيا وإسرائيل وهما في غمار حرب طاحنة اليوم في أوكرانيا وغزة. وبينما حولت إسرائيل غزة إلى ما يماثل أرضًا نووية خربة هدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضمنًا باستخدام الأسلحة النووية الفعلية في أوكرانيا في الوقت الذي تعتزم فيه بلادي إنفاق 1.5 تريليون دولار على قواتها النووية خلال العقود القادمة.
وباختصار وبعد مرور 80 عامًا من تفجير الأسلحة النووية فوق تلك المدينتين اليابانيتين يبدو أن معجزة ما قد انقذتنا من استخدام ذلك السلاح النووي مرة ثانية. وبينما نأخذ ذلك بعين الاعتبار ندع أريك روس يستقرئ غرابة «تذكر» هيروشيما فيما لاتزال بلادنا تستمر باستثمار مبالغ مهولة في أسلحة أكثر ضراوة ربما تفضي إلى نهاية العالم. توم انجلهارد .
ثمانون عامًا من الحديث عن السلام والتحضير لحرب نووية
يحتفل العالم يوم 6 أغسطس 2025 بمرور 80 عامًا على التدمير الأمريكي لهيروشيما. وكما حدث في العقود التي خلت يهدف يوم هيروشيما لتكريم أوائل ضحايا الحرب النووية وتأكيد الوعد المستديم بأن مثل تلك المعاناة لن تذهب أدراج الرياح وأن هيروشيما وناجازاكي التي دُمرت بعد ثلاثة أيام في عام 1945 ستكون آخر الأماكن التي تعاني من مثل ذلك المصير.
وفي ضمن ذلك الإطار التذكاري استحالت هيروشيما إلى تعبير تجريدي وتضاءلت لتصبح حكاية تحذيرية.
تعلمت البشرية درسًا بليغًا بفضل التضحية الاجبارية لتلك المدينة وقاطنيها. واجه العالم في أطلال هيروشيما رؤية لا تقل عن نهايته المحتملة وظهر إدراك تلك الامكانية الكارثية على الفور. ففي اليوم التالي نشرت صحيفة (ب. م) الأمريكية الصادرة في نيويورك مقالًا يستشرف العواقب الكارثية لتفجير قنبلة ذرية في قلب تلك المدينة. وبفضل هيروشيما أصبح الجنس البشري نوعًا مهددًا بالانقراض. وعُرض على الناس في شتى أصقاع العالم الخيار الوجودي بين الأحياء والأموات وبين العالم الواحد أو العدم. تستطيع البشرية استعادة مسؤولياتها الأخلاقية والسعي نحو التخلي عن الأسلحة النووية ونبذ الحرب أو القبول بحتمية أن تقضي مثل تلك القوى التي صنعها الانسان على معظمنا أو كلنا. (فكر “بالشتاء النووي”).
يحدونا الأمل فقط عبر الخيار الأول بالنجاة الجماعية بدلًا من الانتحار الجماعي.
وفي خضم طقوس الذكرى السنوية لا نستذكر هيروشيما كموقع للذبح الجماعي بل كرمز للسلام والأمل والصمود وشاهدًا على التزامنا المعلن بعدم تكرار ذلك أبدًا.
بدت مثل تلك المناشدات المعقمة من الذاكرة الرسمية جوفاء هذا العام أكثر من أي وقت مضى. فبعد كل ذلك وبعد عقود ثمانية تستمر البشرية (أو على الأقل زعمائها) بإظهار افتقارها للتعلم من أهوال هيروشيما.
إذًا ما الغاية من تذكر تلك اللحظة في عالم تمتلك فيه تسعة دول أسلحة نووية وتحتجز البشرية أسيرة تهديد فناء كلي مفاجئ. ومما يزيد الأمر سوءًا أن ترسانات اليوم تضم آلاف الأسلحة النووية الحرارية ويفوق بعضها القنبلة التي أسقطت على هيروشيما وناجازاكي بـ 1000 ضعف. ومما يزيد الطين بلة أن تلك الترسانات «تخضع للتحديث» بشكل دوري وسيكلف تحديث الترسانة الأمريكية 1.5 تريليون دولار أو أكثر حيث تُسحب مواردنا القومية من بند تلبية الاحتياجات البشرية وتوجه عوضًا عن ذلك نحو تجهيزات لدمار البشر.
لا تزال معظم تلك الأسلحة تحت أقصى حالات الاستنفار وموجهة لاستئصال شأفة الحياة على الأرض حيث وصفها دانييل السبيرج، الرجل الذي كشف قبل وقت طويل «ملفات البنتاجون» الفائقة السرية، بأنها «ضربة مطرقة مفردة هائلة القوة تُنفذ عبر تلقائية فخ فأر استجابة لأي استفزاز عرضي».
وضمن وضعية التحذير الحالية لإطلاق الأسلحة في أمريكا يمتلك الرئيس دونالد ترامب (أو أي رئيس يعقبه) سلطة مفردة مطلقة لابتداء هجمة نووية انتقامية ضمن ستة دقائق فقط لاتخاذ القرار عقب التحذير من هجمة نووية محتملة (بالرغم من وجود سجل موثق من التحذيرات الكاذبة).
يفترض مثل ذلك السيناريو أن الولايات المتحدة لن تقدم على ذلك إلا دفاعًا عن النفس ردًا على هجوم نووي تشنه دولة أخرى بالرغم من أن التدمير المتبادل المؤكد سيجعل تلك المفاهيم بلا جدوى.
وفي الحقيقة فإن مثل ذلك الافتراض بعيد عن التأكيد. إذ لم تتبنى واشنطن قط (بعكس بيجين على سبيل المثال) سياسة الاستخدام اللاحق ولا تزال تحتفظ بحق شن هجمة نووية استباقية.
إذا ما معنى تذكر هيروشيما في العالم، رغم عدم اسقاط قنبلة نووية على غزة، يوازي وزن المتفجرات «التقليدية» التي أُطلقت هناك ستة قنابل نووية مما أطلق على هيروشيما؟
وكما حذرت منظمة نيهون هيدانكو الداعية إلى نبذ الأسلحة النووية والمشكَلة من الناجين اليابانيين من القنبلة الذرية في التمهيد الذي أدى لنيلها جائزة نوبل للسلام عام 2024 بأن معاناة أطفال غزة تعكس بشكل مخيف تجاربهم في هيروشيما.
وبالتالي فإن المدينة ليست مجرد فظاعة مضت بل جرحًا لا يرقأ وليست درسًا من التاريخ بل كابوسًا مستديمًا. وبالمختصر لا يوجد طريقة صادقة لتكريم ذكراها بما يليق بينما تتهيأ العديد من الدول (بما فيها بلادنا) لحرب نووية مستقبلية.
يتحتم علينا في هذه اللحظة إعادة التفكير بتاريخ القنبلة وعدم اعتبارها تطورًا معزولًا في ماض سحيق بل وثيقة الارتباط بتساؤلات كثيرة عن العنف الجماعي اليوم بما في ذلك غزة. سيعكس مثل ذلك النهج في واقع الأمر طريقة فهم القنبلة ابتداءً من قبل العديد من العلماء الذين ساهموا بإنتاجها وتخوفهم من تحولها إلى «سلاحًا للإبادة».
تدمير المدن وتسمية ذلك سلامًا
بعد أن سوت القنبلتين هيروشيما وناجازاكي بالأرض وقتل ما يقرب من 210000 إنسان معظمهم من المدنيين عن سابق إصرار وتصميم استجاب جل الأمريكيين بالتعبير عن الارتياح. ورددوا السردية الرسمية واحتفوا بالقنبلة كنصر للإبداعية العلمية وكسلاح رابح مرتبط بجلب نهاية حاسمة ومباغتة للحرب العالمية الثانية وهي الصراع الأكثر دموية في التاريخ البشري.
أظهرت عقود من المعرفة التاريخية أن مثل تلك السردية محض اسطورة. ظهر إجماع تال للحرب في أعقاب القصف مدعومًا بالادعاءات المضخمة بأن استخدام القنبلتين كان الملاذ الأخير وأنها انقذت حياة نصف مليون أمريكي وأنها شكلت نوعًا من «القتل الرحيم» والذي أنقذ العديد من المدنيين اليابانيين. وفي الواقع كانت البدائل الواضحة متوفرة مما جعل اللجوء لاستخدام الاسلحة النووية أمرًا لا أخلاقيًا ولا لزوم له على حد سواء وجاء بعكس المراد من الناحية الاستراتيجية إذا نظرنا إلى مستقبل نشر الأسلحة النووية عبر الكوكب.
وبالرغم من ذلك وافق الجمهور الأمريكي المنهك من الحرب على التفجير بالإجماع. أشارت استطلاعات الرأي في أعقاب الحرب أن 85% من الأمريكان دعموا قرارًا أُتخذ دون علمهم أو مساهمتهم أو أي شكل من أشكال الاشراف الديموقراطي.
كما لوحظ أن ما يقرب من ربع المستَطلعة آرائهم عبروا عن خيبة أمل انتقامية وإبادية لأن اليابان استسلمت بسرعة مما حرم الولايات المتحدة من فرصة اسقاط «قنابل نووية أكثر» رغم عدم توفر أية أسلحة نووية إضافية في ذلك الوقت.
ولم يتضح بعد ما إذا كانت الولايات المتحدة ستستخدم تلك الأسلحة لو كانت متوفرة. وبالرغم من التصميم الصارم الذي ظهر في الصورة الرسمية للرئيس هاري ترومان تقترح تأملاته الخاصة استياءً عميقًا وحتى رعبًا من استخدامها. وكما دون وزير التجارة هنري والاس في مذكراته فإن ترومان «أصدر الأوامر بوقف التفجير الذري. وقال إن مجرد التفكير باستئصال 100000 إنسان كان أمرًا مرعبًا. ولم يرق له فكرة قتل كل أولئك الأطفال».
إذًا لماذا لم يشعر معظم الأمريكيين بالرعب على نحو مماثل؟
أظهر المؤرخان جون داور ورونالد تاكاكي أن مثل تلك المشاعر الاستئصالية تغذت على العنصرية ضد الأسيويين والتي أطرت الحرب الباسيفيكية (نسبة للمحيط الهادي) في المخيال الأمريكي كحرب استباقية. وربما وعلى نحو أكثر أهمية مُهد لهم الطريق عبر تطبيع ممارسة القصف المدمر للمنطقة وبدقة أكبر القصف المرعب لكل من ألمانيا النازية واليابان.
اتقنت الولايات المتحدة، طوال مسار الحرب، طريقة التدمير العشوائي والتي استهدفت المعنويات المدنية والإرادة الجماعية ومقدرة الدولة على الحفاظ على مجهودها الحربي. وحدث ذلك بالرغم من شجب الرئيس فرانكلين روزفلت علنًا القصف الجوي للبنية التحتية المدنية قبل دخول أمريكا الحرب وأعتبر ذلك «بربرية همجية».
وكما ألمح دانييل السبيرج عند التحدث عن التردي السريع للقيود الأخلاقية في ضوء ضرورات الحرب الوجودية «استخدمت الديموقراطيات الليبرالية … في محاربة العدو الشرير طرائق ذلك العدو وحولتها إلى أخلاقيات خاصة تكاد لا تختلف عن أخلاقيات هتلر».
يتجلى الانهيار الأخلاقي عبر التدمير الهائج لهامبورغ ودرسدن والتدمير المماثل الذي أحدثه القصف الناري لطوكيو والمدن اليابانية الأخرى.
لم يغب التوجه نحو «البربرية» عن المراقبين المعاصرين. وصفت داعية السلم الجريئة فيرا بريتين الدمار كمشهد «من كابوس شرير لقاتل معتوه ودليل مفحم على الهاوية الأخلاقية والروحية التي تردت فيها بريطانيا». في تعليقها على قصف الحلفاء لهامبورغ عام 1943.
وحذرت من ان تلك الأفعال نبعت من تعامي انتقائي ريائي «نلحظ الفظاعة في اليابانيين والنازيين ولكننا نتغافل عن الفظاعة ذاتها فيما بيننا».
لم ينحصر مثل ذلك الادراك بدعاة التسالم ولكنه امتد ليشمل صناع القرار. واستجابة للدمار الذي احدثته حملة القصف «التقليدية» ضد اليابان بما في ذلك الحرق حتى الموت لـ 130000 شخص في طوكيو في ليلة مفردة من مارس عام 1045 حذر وزير الحرب هنري ستمسون بأن استمرار مثل تلك الهجمات سيؤدي إلى «وصمنا بارتكاب فظائع تفوق فظائع هتلر».
(ذكرت صحيفة النيويورك تايمز أن قصف طوكيو ربما أودى بحياة مليون أو مليوني شخص). وربما كانت تلك الادعاءات مغلوطة ولكن مثل تلك التقارير تعكس التلبد العريض إزاء الموت الجماعي والذي أصبح معرفًا لمنطق الحرب الشاملة والتحمل الشعبي المتنامي بين الأمريكان للقتل الحضري أي ذبح المدنيين على مستوى المدينة.
عن النازية والهولوكوست النووي
لم يشارك جميع سكان دول التحالف جوّ اللامبالاة السائد وحتى الاحتفال بتلك الهجمات النووية. إذ عبر الفيلسوف الفرنسي البير كامو حتى قبل سقوط القنبلة الثانية على ناجازاكي عن ارتعاده قائلًا: إن هيروشيما تقف لا كغيرها من المدن في حرب تميزت بالقتل الصناعي الذي لم يسبق له مثيل. ولاحظ أن تدمير تلك المدينة حدد اللحظة التي وصلت فيها «الحضارة الميكانيكية إلى ذروة وحشيتها». وشجب الناقد الثقافي الأمريكي لاحقًا دوايت ماكدونالد القصف في مجلة بوليتيكس محاججًا أن تلك الهجمات قد وضعت الأمريكيين «في نفس المستوى الأخلاقي» مع النازيين وجعلت الشعب الأمريكي شريكًا في جرائم حكومته مثلما شارك الشعب الألماني في جرائم النازيين.
واعتبر المفكر الأمريكي لويس مومفورد عام 1959 أن تلك اللحظة شكلت انهيارًا أخلاقيًا عميقًا واعتبرها نقطة توجيه الولايات المتحدة أفضل طاقاتها الوطنية لاستئصال الجنس البشري بالجملة. ومع وصول القنبلة قبِلَ الأمريكان بدورهم «كمسوخ أخلاقية» ومشرعين للذبح التكنولوجي كأداة قانونية لفرض سلطة الدولة. وأضاف «من حيث المبدأ لم تختلف مخيمات الإبادة حيث حرق النازيين أكثر من 6 مليون يهودي عن المحارق الحضرية التي أرتجلتها قواتنا الجوية عبر هجمات قنابل النابالم فوق طوكيو والتي مهدت الأرضية لتدمير هيروشيما وناجازاكي».
لطالما ألقى منظور النازية بظلاله على القنبلة الذرية. فالخوف من القنبلة النازية كان الحافز الأول لمشروع مانهاتن الذي سيخلق لاحقًا القنابل الأمريكية. وبينما سبق سقوط النظام النازي استخدام الأسلحة الذرية على اليابان بثلاثة أشهر علق عالم الفلك الذرب اللسان كارل ساغان بالقول «لقد نُقشت البصمة الأيديولوجية للنازية عبر المشهد الملوث بالأجساد المتفحمة والأرض المحروقة في هيروشيما وناجازاكي. لقد صمدت في المنطق الوحشي للحرب الشاملة والتي تتابعت عبر سباق التسلح في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي ووصلت ذروتها في التراكم الصاعق للترسانات النووية مع آلاف الأسلحة القادرة على تدمير العالم واجتثاث البشرية».
تحدث كارل ساغان في خطاب ملفت أمام المؤتمر اليهودي العالمي في القدس عام 1986 بعنوان «الحل النهائي للمشكلة البشرية» قائلًا: «حام طيف هتلر فوقنا لقرن مضى لأنه حطم ثقتنا بقدرة المجتمعات المدنية على فرض قيود للتدميرية البشرية».
وخلص إلى القول: «عززت القوى العظمى جهودها المشتركة في التحضير لاجتثاث بعضها البعض ودرء امكانية وجود الأجيال المستقبلية وبالتالي اعتنقت هذا الإرث…هتلر لا يزال حيًا».
ويقترح ساغان «نظرًا لعدم وجود هتلر قامت واشنطن وموسكو بفرض صورته على بعضها البعض. وكان ذلك ضروريًا» لأن الأسلحة النووية تمثل شرًا عظيمًا لا يمكن تبريره إلا بوجود عدو شرير بذات القوة.
وحذر من أن البشرية قد سُجنت في دوامة هابطة نحو هاوية أخلاقية شبيهة بتراجيديا إغريقية. «عندما ننخرط في صراع مميت مع وحش هناك خطر حقيقي بتحولنا، عبر تغيرات بطيئة وتدريجية، إلى وحوش ومسوخ. وربما نكون آخر من يدرك ما يحدث لنا».
كان الدليل واضحًا حيث تسبب الخوف من القنبلة النازية بتوليد الدافع الاساسي لمشروع مانهاتن وامتلاك الدولة النووية المستقبلية خصائص محددة من صفات النظام النازي.
ووفق وصف الطبيب النفسي روبرت جاي لفتون ستعتمد مثل تلك الدولة على «العقلية الإبادية» والرغبة السيكولوجية المترافقة بالمقدرة التكنولوجية والتخطيط المؤسساتي اللازم للتدمير المتعمد لمجاميع بشرية كاملة تحت ظروف معينة.
لا هيروشيمات بعد اليوم
حذر ساغان في نهاية خطابه عام 1986 بأن الحرب العالمية الثانية لم تنتهي قط في واقع الأمر. وبمغزى ما فإنها لم تنتهي إلى اليوم إذا أخذنا بعين الاعتبار الدول التسعة التي تمتلك الأسلحة القادرة على تدمير العالم. وفي النهاية لو حدثت حربًا نوويةً في قادم الأعوام، وهو سيناريو دأبت معظم الدول الكبرى على الاعداد له خلال العقود الثمانية المنصرمة وربما تجعله أقرب احتمالًا، سيخسر الحلفاء مثل تلك الحرب. سنشهد في الخرائب المشعة لما كان يومًا ما واشنطن ونيويورك ولينينغراد وموسكو وبيجين ونيودلهي وإسلام أباد وربما باقي الكوكب «تحقق رؤية هتلر الجنونية الأخيرة».
ومثل ذلك المستقبل أبعد ما يكون عن المستقبل الافتراضي وربما نراه يتكشف فيما حولنا. ولا يتطلب الأمر الكثير من التخيل لرؤية هيروشيما في أنقاض غزة أو في مدن أوكرانيا التي هدها القصف. وتلك مجرد إلماحة من المستقبل فيما لو استخدمت الأسلحة النووية. إذا لم نلتزم ببناء عالم بلا حرب وبلا أسلحة نووية سنشهد عاجلًا أم آجلًا بلا ريب مثل ذلك الدمار على مستوى عالمي نهائي.
ولكي نحيا كنوع بشري ونحافظ على انسانيتنا يتعين علينا كما شدد دوايت ماكدونالد في أغسطس من عام 1945 أن نبدأ بالتفكير بالأفكار الخطرة «التدمير والمقاومة والتمرد وأخوة الشعوب في كل مكان» عندها فقط يمكننا الاحتفال بيوم هيروشيما دون رياء التحدث عن السلام فيما نعمل بلا كلل لتجهيز حربًا تنهي العالم. عندها فقط يمكننا البدء بتحقيق الوعد بعدم تكرار ذلك قط وألا نشهد أية هيروشيمات بعد اليوم.
المصدر:
https://tomdispatch.com/what-do-we-forget-when-we-remember-hiroshima/
عدد التحميلات: 0